ماذا لو كانت الهجرة هي السبب الفعلي في معدلات النمو العالية، التي شهدتها بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة؟ ماذا لوكانت الهجرة هي المصدر الوحيد للحفاظ على مستوى متوازن للنمو السكاني وتجديد دم بلد مثل ألمانيا؟ ماذا لو كانت فرنسا هي آخر بلد على سلم استقبال الهجرة الأوروبي، في حين ان سياسييها لا يكفون عن الشكوى من خطر هذه الظاهرة؟ هذه الاسئلة واسئلة كثيرة طرحت خلال ندوة في باريس، وجاءت الاجوبة لتكشف عن كم كبير من الاكاذيب السياسية التي تعتبر المولّد الرئيسي للعنصرية.
باريس
3% من سكان العالم يعيشون خارج بلدانهم الأصلية
نظم “معهد غوته” بالتعاون مع كل من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو”، ومؤسسة “فريديش ايبرت ستيفتونج” في العاشر من الشهر الحالي ندوة حول “الهجرة والتنمية”، شارك فيها العديد من الخبراء والمتخصصين الأوروبيين. وأوضحت سابين بيلز مديرة النشاطات الثقافية في “معهد غوته” في باريس والمشرفة على تنظيم التظاهرة، ان اختيارهم لإثارة قضية الهجرة يأتي باعتبارها تشكل موضوع اللحظة الذي يحظى بنقاش واسع، ليس في أوروبا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم من الولايات المتحدة وحتى آسيا والخليج. وأضافت في تصريح ل”الخليج”، يفيد آخر تقرير أصدرته “منظمة الأمم المتحدة للهجرة”، بأن 185 مليون شخص هاجروا من اوطانهم في اتجاهات مختلفة، لكن الاتحاد الأوروبي يبقى اكثر المناطق المرغوبة بالنسبة للأغلبية العظمى من هؤلاء المهاجرين. وأوضحت ان حركة الهجرة المهمة تطرح تحديات على المستويين السياسي والثقافي، فكيف السبيل للتحكم بهذه الظاهرة، ومواجهة العواقب المترتبة عليها، لاسيما وانها تشكل الموضوع المركزي بالنسبة لأوروبا اليوم والغد. وتقول، لهذا أردنا ان يبدأ النقاش من حول الظروف الجيوسياسية العالمية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الأوضاع السياسية والاجتماعية والديموغرافية، وكذلك التحليلات والدراسات الفرنسية والألمانية في هذا الصدد. وأردنا كذلك ان نتلمس وضع المرأة المهاجرة، التي اعتبرت لوقت طويل النصف المخفي من الهجرة. وقالت ان الهدف من هذا المؤتمر هو مواجهة الاحكام المسبقة، وتصحيح المعلومات المغلوطة، وتقديم معطيات صادقة عن الظاهرة، وتحديد التحديات وسيناريوهات المستقبل. وأضافت، نحن نعلم ان الهجرة تمثل مخزونا كبيرا كامنا للتنمية، وقد أصبحت الهجرة والاندماج مرادفتان للأمل بالنسبة للمهاجرين ولبلدانهم الأصلية ولأوروبا أيضا.
وفي نفس الاتجاه جاءت كلمة المدير العام لليونسكو كويشيرو ماتسورا، التي ركزت على التحديات التي تمثلها الهجرة لمجتمع اليوم “وإذا كان البعض يعتقد انه الخاسر من جراء هذه الظاهرة، فلابد من إيجاد معادلة يخرج فيها الجميع رابحين، ولذا يجب النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة بحيث تعم الفائدة”. وتوقفت كلمة ماتسورا عند خطر هجرة الأدمغة التي باتت تمثل مشكلة كبيرة للبلدان التي لا تزال في طور النمو، كما توقف عند دور الهجرة كمصدر للتنوع والتعدد الثقافي. وبدورها أكدت نائبة رئيس المنظمة الدولية للهجرة وزيرة التنمية السنغالية السابقة “نديرو نديايي”، ان المنظمة الدولية للهجرة تسعى منذ تأسيسها، لتحسيس الشركاء بالعلاقة المتينة بين الهجرة والتنمية. وقالت ان المجتمع الدولي بات يعي ان الهجرة تسير في طريق التنمية. وتحدثت المسؤولة الدولية عن الجوانب الايجابية للهجرة، وأشارت إلى ان المهاجرين يتواصلون اليوم بسهولة كبيرة مع بلدانهم الأصلية بفضل التكنولوجيا الحديثة، وبذلك فهم يلعبون دورا رئيسيا في تطوير هذه البلدان، فيخلقون فرص عمل جديدة ويسهمون في اثراء الطاقة البشرية، ويشجعون التسامح والتعددية الثقافية وقبول الآخر، كما انهم يحملون معهم جملة من القيم الانسانية، إلا انه لا يجري النظر اليهم في بلاد الاستقبال نظرة ايجابية، وهذا ما دفع العديد من الدول لاتخاذ إجراءات حمائية، اقتصادية وامنية، في الوقت الذي يتوجب فيه التفكير بسياسات غير مضادة، والعمل في صورة جادة لوضع سياسات اندماج تنطلق من استيعاب التظاهرة. وأضافت، أما بالنسبة للبلدان الأصلية فقد جرى العمل منذ سنة ،2001 على وضع برنامج خاص بالهجرة في افريقيا (ميدا) يوفر خيارات لاعادة استثمار الطاقة البشرية. وأوضحت ان الهجرة تعود بالفائدة في تطوير الاقتصاديات في البلد الأصلي من خلال تحويلات المهاجرين. وقالت انه حتى لو تم انفاق 80 في المائة من التحويلات في بناء المساكن، فإن ذلك ينعكس على الصحة والتعليم، هذا بالإضافة إلى خفض نسبة الفقر وتشجيع عمل المرأة. كما ان اكتساب الخبرات في الخارج يساعد على تطوير البلد الأصلي. وتحدثت عن سلبيات الهجرة وقالت ان عدة مناطق من افريقيا تعاني استنزافاً لمواردها البشرية المؤهلة، من خلال الهجرة المنظمة والجماعية للكادر الحاصل على الشهادات العليا، وان آلاف الكوادر من اطباء وممرضين ومهندسين واداريين ومعلمين يغادرون اعمالهم كل سنة، للبحث عن آفاق جديدة في بلاد أخرى.
هجرة الكفاءات
واعتبر مدير قطاع الموارد الانسانية في اليونسكو بول دو غوشتنيير ان الهجرة ليست مشكلة شمال جنوب، لأن 70 في المائة من المهاجرين يعيشون خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، ولهذا أصبحت الظاهرة عالمية وذات آثار متعددة، وقد لاحظنا هجرة كثيفة للادمغة حيث تعيش نسبة 25 في المائة من كفاءات البلدان التي هي في طور النمو في الخارج، وترتفع هذه النسبة لتصل في بلدان أخرى إلى نحو 85 في المائة مثل جامايكا، بل ان بعض البلدان شرعت منذ عدة سنوات في استخدام الكفاءات المؤهلة كسلاح اقتصادي، حيث تصدر خبراتها إلى الخارج مقابل التحويلات التي يقوم بها أصحاب هذه الخبرات، والمثال الجلي على هذه المسألة هو الفلبين، حيث ان 70 في المائة من مهاجري هذا البلد من النساء، ولذا يعيش أغلبية الأطفال من دون امهاتهم، واحيانا من دون الام والاب معا، الامر الذي يخلف أضرارا كبيرة على تنشئة الاجيال. وقال ان هناك مليوني طالب هجرة في الوقت الحاضر، يحاولون البحث عن مستقبل أفضل، هذا بالإضافة إلى انه هناك ملايين من الذين يهاجرون للبحث عن الماء والقوت كما هو الحال في افريقيا. ودعا إلى سياسة أكثر قابلية لمواجهة الظاهرة. وقال ان اليونسكو تركز على الجانب الانساني من العملية، فالمهاجر ليس ماكينة اقتصادية فقط، بل هو بشر لديه ثقافته وقيمه ومعتقداته وله حقوقه، وبالتالي لكي نقوم بإدارة رشيدة للظاهرة لابد من معالجة جانبها الانساني. وتطرق إلى المشكلات التي يواجهها المهاجرون الذين يجهلون قوانين البلدان التي يعيشون فيها، لذا يقعون ضحية للعنصرية والتعسف والتجاوزات. وتساءل هل يجلب المهاجر المشكلات فقط؟ وقال بالطبع لا، فهذه البلدان بحاجة للأيدي العاملة. ولخص المسألة بانها تشكل تحدياً كبيراً، الأمر يتطلب سياسات ناجحة، تأخذ في عين الاعتبار ظروف البلد المستقبل، والبلد الأصلي، والشخص المهاجر نفسه، وقال انه يتوجب على بلدان الاستقبال ان تنظر للهجرة من خلال احترام حقوق الانسان، والتعامل مع قضية الاندماج من منظور مختلف.
الهجرة: مقاربة نظرية
تحدث ضمن هذا الباب السفير الفرنسي السابق والاستاذ الجامعي ميشيل فوشيه، وتطرق بصورة رئيسية لعملية تشكل الحدود في القرن الحادي والعشرين، وفعاليتها في وجه تنامي الهجرة. وقال هناك حركة انتقال للمعلومات والصور والرساميل، حركة انتقال كبيرة في البر والبحر والجو، عبور متزايد للحدود، ورغم هذا التقدم الهائل والانفتاح الاقتصادي والعولمة، فإن الحدود في تزايد. وأشار إلى ان ما يحصل بين فرنسا وألمانيا على صعيد تراجع الحدود، ليس له شبيه في اي منطقة اخرى من العالم، وما جرى قطعه داخل الاتحاد الأوروبي من اشواط على هذا الصعيد، لم يتم في اي مكان آخر في العالم، لا بل إن ما نشهده اليوم هو ترسيخ الحدود السابقة، ونشوء حدود جديدة. وقال، ان العقد الأخير شهد ولادة ستة آلاف كيلو متر من الحدود في أوروبا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية، وحصول حرب البلقان. واشار إلى ان عودة مشكلة الحدود مرتبطة بالامن، وهناك تشديد أمني عالمي في البلدان الديمقراطية، اكثر منه في بقية انحاء العالم، ومثال ذلك الحدود الأمريكية الكندية. وأشار فوشيه إلى مفارقة مهمة تعبر عن تناقض العالم الذي يسير نحو الليبرالية التي تعني بالدرجة الأولى رفع الحدود والحواجز، واتاحة حرية الحركة امام الرساميل والافراد، وبالفعل هناك اتجاه للسير في هذا الطريق، حيث يصبح كل شيء حرا في الحركة الا العمالة، وحتى بين بلدين فقيرين مثل الهند وبنغلاديش، فإن مجال التشديد الحدودي الوحيد هو الخاص بالأيدي العاملة، وهناك أمثلة أخرى كثيرة مثل انتقال العمال الفلسطينيين للعمل في “اسرائيل”، الباكستان وافغانستان، العراق والسعودية.. الخ. وأوضح فوشيه ان 3 في المائة من سكان العالم يعيشون خارج بلدانهم الأصلية، وفي السابق كانت الولايات المتحدة هي مقصد العمالة الرئيسي، أما اليوم فإن مناطق الجذب الأساسية هي أوروبا والخليج، ومن هنا يأتي القسط الأكبر من التحويلات المالية العالمية. وقال لا يهاجر الناس لأنهم فقراء فقط، بل كذلك بحثا عن الازدهار والتطور، وهربا من عسف الدول والقمع والفساد والارهاب، وضرب امثلة على ذلك الأوضاع في بعض البلدان الافريقية الغنية مثل نيجيريا وساحل العاج، حيث حصلت هجرات بسبب النزاعات السياسية والاثنية. وأشار إلى ان حجم التحويلات المالية التي يقوم بها المهاجرون نحو بلدانهم الأصلية يصل حتى 300 مليار دولار، وقال، انها تلعب دوراً رئيسياً في تنمية البلد الأصلي، ومثال ذلك الهند التي يعود الفضل في نهضتها الراهنة إلى تحويلات الهنود العاملين في منطقة الخليج بصورة رئيسية.
أما على الصعيد الأوروبي فتحدث عن نمطين من الهجرة: الأولى داخلية تتم وفق اتفاقية “شينغين”. وقال ان قوانين وتسهيلات التنقل داخل الاتحاد اتاحت المجال امام انتقال حركة عمالة كبيرة، فهناك 600 الف بولوني هاجروا إلى بريطانيا في السنوات الأخيرة، وهي أهم موجة في تاريخ هذا البلد، ولكن بريطانيا اضطرت لإقفال الباب أمام هجرة العمالة بعد تدفق الرومان والبلغار منذ مطلع العام الحالي. والهجرة الثانية تأتي من خارج الاتحاد الأوروبي، وهي في صورة أساسية من المغرب نحو اسبانيا، وفي الحالة المغربية تشكل تحويلات الهجرة نسبة 10 في المائة من الدخل العام.
أكاذيب سياسية عن الهجرة
والمداخلة الثانية جاءت من الكاتب الفرنسي مدير المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية فرانسوا هيران، وكانت بعنوان “حركات الهجرة في أوروبا: استثناءات وطنية واختلاف مصائر”، ويمكن تلخيص هذه المداخلة بجملة واحدة وهي “كل ما تعرفونه عن الهجرة باطل”. وقال ان المكون الأساسي للسكان في أوروبا خلال القرن العشرين هو النمو الطبيعي والهجرة، وعدد جملة من الاخطاء الشائعة والاكاذيب السياسية الدارجة في فرنسا على صعيد الهجرة، اولها ما يتعلق باستقبال المهاجرين، فهي تأتي في آخر السلم الأوروبي على عكس ما تروج له الدعاية السياسية، التي تقول ان فرنسا يجتاحها المهاجرون. ويؤكد هيران انه يبلغ نصيب فرنسا من الهجرة واحداً في الالف أي نحو 60 ألف مهاجر سنويا، في حين ان النسبة تصل في اسبانيا إلى 15 في الالف. وثاني الحقائق المدعمة بالارقام، هي انه من دون الهجرة تفقد البلدان الأوروبية سكانها، ومثال ذلك ألمانيا واسبانيا وايطاليا التي تفوق فيها نسب الوفيات نسب الولادات، رغم معدلات الهجرة العالية، ويدرس الحالة الألمانية وأسباب التراجع انه في السابق (1974) كانت هناك هجرة قادمة من يوغسلافيا وتركيا وروسيا، على عكس ما هو عليه اليوم حيث تشهد حركة الهجرة تراجعا. ثالثا، هناك بعض حالات النزوح تم احتسابها كهجرات مثل عودة الفرنسيين من الجزائر سنة 1962 بعد الاستقلال، وبالتالي فإن أكبر موجة هجرة عرفتها فرنسا كانت بعد الحرب العالمية الثانية وفترة الخمسينات، وذلك على عكس ايطاليا واسبانيا التي شهدت هجرات معاكسة. رابعا، تظل مساهمة الهجرة في النمو السكاني ضعيفة، وهي لا تتجاوز الثلث او حتى الربع في البلدان الأوروبية الكبرى، وتبقى بعض البلدان بحاجة إلى الهجرة في صورة كلية لتجديد نفسها مثل ألمانيا وايطاليا والبرتغال واليونان، وبدرجة أقل بريطانيا وسويسرا، وبعد ذلك تأتي فرنسا وهولندا. خامسا، ان المشكلة في بلد كبير مثل فرنسا عرف الهجرات منذ القدم لا تنحصر في منع الهجرة، بل في ادماج مهاجري الجيلين الثاني والثالث المنحدرين من الهجرات السابقة.
الحركة داخل أوروبا
تحدث في هذا المحور البروفيسور اندريا هيرونيموس المدير العام لمعهد البحوث الخاص بالهجرة والعنصرية في هامبورج (ألمانيا)، ورئيس الفرع الألماني للشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية، والذي عمل على ملفات الهجرة في عديد من البلدان التي تعد مصدرة للمهاجرين مثل تركيا. وقد قدم خلاصة دراسة قام بها ما بين 1990 و2005 حول قواعد الهجرة في اتجاه أوروبا وداخلها. واستهل حديثه بسؤال استفزازي: هل هي أوروبا الابارتهايد أم أوروبا الهجرة؟ وانطلق من دراسة صورة الحي الذي يسكنه في هامبورج لتحليل وتفكيك نظرة المجتمع الألماني تجاه الهجرة، حيث ارتفعت نسبة المهاجرين في ضواحي المدينة طيلة هذه المدة على نحو طفيف من 13،4 في المائة إلى 15 في المائة، وانخفضت في وسط المدينة من 38،4 إلى 34 في المائة. وعزا الانخفاض إلى سياسات التطوير الحضري التي بدأت سنة ،1990 وكان هدفها تحديث الاحياء، ولذا غادر الكثير من الأجانب بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات والعقارات. وأكد أن حركة الهجرة نحو ألمانيا انخفضت خلال هذه الفترة بمعدل 6 ملايين، وبما ان الأرقام تبقى مجردة لذا يتوجب وضعها في سياقها، ونزعها عن ألسنة السياسيين الذين يستخدمونها لغرض الدعاية الانتخابية، من دون ان يطرح احد السؤال حول الاسباب التي تدفع بهؤلاء لمغادرة بلدانهم. واعتبر ان سياسات الهجرة الأوروبية غير انسانية، لانها لا تأخذ في عين الاعتبار محاربة الفقر. وتساءل:هل تستطيع أوروبا ان تقدم موديلا جديدا، فبعد ان سقط جدار برلين ها نحن نبني جدارا من حول أوروبا. وعرض خارطة يتم توزيعها على الانترنت من قبل الحركات العنصرية في ألمانيا، وهي تضع محل فرنسا جمهورية الجزائر الاسلامية، ومحل اسبانيا الامارة المغربية الايبرية، ومحل ألمانيا تركيا الجديدة، ومحل ايطاليا الفيدرالية الالبانية. كان المتحدث الثاني في هذا المحور هو البروفيسور “ديتريش ترينهاردت” أستاذ العلوم السياسية في جامعة “مونستير” والاستاذ الزائر في العديد من الجامعات الدولية في اليابان وهولندا ونيوزيلندا، وقدم مداخلة حول “العواقب الثقافية والسكانية للهجرة والاندماج”. وقال، ان التحويلات المالية الآتية من الهجرة نحو البلدان الأصلية تفوق المساعدات الدولية الممنوحة للتطوير في هذه المناطق، وتقف أمام الخطاب العنصري للمفكر الأمريكي المحافظ صاموئيل هنتنجتون صاحب نظرية “صدام الحضارات”، الذي يحرض على النزاع وتهييج الرأي العام لأسباب دينية. وقال ان معدل النمو العالي والانطلاقة الاقتصادية الكبرى التي عرفتها الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية للرئيس بيل كلينتون، يعود الفضل فيها الى هجرة الأيدي العاملة المؤهلة في ميدان التكنولوجيا العالية، ولفت إلى ان أوروبا لم تأخذ درسا ولم تستفد من تجربة الولايات المتحدة، وضرب مثالاً على ذلك ألمانيا التي استثمرت على نحو ملموس في الهند، لكن النخب الهندية المتعلمة تهاجر نحو الولايات المتحدة بسبب اللغة الانجليزية. وأوضح ان أوروبا حاولت ان تتحرك سنة 2000 من خلال مبادرة رئيس الوزراء الألماني السابق جيرهارد شرودر، أي ما يعرف ب”الغرين كارت” التي ساهمت في نهضة المؤسسات الصغيرة. أما على صعيد الهجرة داخل أوروبا فأشار إلى مستويين:الأول تمثله بريطانيا وايرلندا واسبانيا، وهي بلدان مفتوحة أمام الهجرة، وقد أدى ذلك إلى نمو كبير غير مسبوق في هذه البلدان، وقد انعكست الفائدة في الاتجاهين، ولهذا السبب حصلت عمليات تسوية لأوضاع مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، الذين كانوا يعملون سرا في هذه الدول. والمستوى الثاني تمثله فرنسا، وهو يعبر عن نظرة قاصرة تجاه الهجرة، ففي الوقت الذي استفادت فيه بريطانيا من الهجرة البولونية، لا يزال الفرنسيون يتحدثون باستخفاف عن العمالة البولونية المهاجرة، ويمنعونها. وأشار إلى ان الالمان لايتحدثون إلا عن الجوانب السلبية للهجرة، في حين نلاحظ نجاحات كبيرة، ولفت إلى ان الموديل يجب ان يتم من خلال توسيع حرية الحركة مع الاعضاء الجدد، ويجب تشجيع تركيا من أجل اسقاط الجدار غير المرئي معها. ونوه بالدور الثقافي للهجرة، وخصوصاً الجيل الثاني، الذي بات يطبع الحياة الثقافية الألمانية بطابعه الخاص، وقال ان حضور هؤلاء واضح، وهو الامر الذي لم يكن مطروحاً على الساحة في السبعينات، حيث لم يكن هناك سوى الأدباء الالمان من أمثال غونترغراس.
برلين باريس
كان المحور الثالث مخصصا لنظرتين متعاكستين، تحت عنوان من برلين إلى باريس، وجاءت المداخلة الأولى من طرف مديرة الأبحاث في مركز الدراسات والبحوث الدولية الفرنسي والخبيرة الدولية في ميدان الهجرة كاترين وايتول دو واندين، وذلك تحت عنوان “طغيان الضواحي”، التي تناولت فيها خصوصية الوضع الفرنسي، والموقف من الهجرة. وتحدثت عن الضواحي بوصفها مناطق بنيت لسكن مؤقت للعمال الأجانب في الخمسينات، لكنها تحولت مع الزمن إلى جزء نافر من الحياة الفرنسية خاص بالهجرة والمهاجرين، ومجردة من كافة مظاهر الترفيه والترويح. لكن الأمر اختلف في التسعينات حين أخذ بعض رؤساء البلديات، يعملون لوضع سياسات تطوير اجتماعي، وقد قاد ذلك إلى انشاء وزارة للمدن في ولاية الرئيس ميتيران الثانية. وترى الباحثة ان الضواحي التي لاتبعد عن باريس مسافة 20 كلم، اتخذت وضعية خاصة وصار شبانها يعيشون حالة انغلاق على النفس، قادت إلى نوع من انغلاق المواطنة، وصارت باريس تعني بالنسبة لهؤلاء الخوف، وهم لايفضلون الذهاب اليها، وبالتالي تكونت هوية خاصة من حول الحي.
جاء القسم الثاني من هذا المحور في مداخلة المكلفة السابقة بملف الهجرة من طرف مجلس الشيوخ الألماني بربارة جون “المهاجرون في برلين: اندماج، المجتمع الموازي والهوية”. وقد استهلت مداخلتها بالقول أريد الحديث عن الجوانب الايجابية للهجرة. وقالت يمكن الحديث عن نزاع، ولكن هناك فائدة تشكلها الهجرة، في الوقت الذي انتهى فيه منطق الانغلاق في الاحادية، ولا بد من تعددية. وبالتالي ان النزاع لا يتعلق بالمهاجرين وإنما يتناول المجتمع ككل، ولكن حين يصل المهاجر تبرز أمامه مشكلات خاصة تتعلق بالقوانين والجوار.. إلخ. وتقول السيدة جون ان خارطة برلين السكانية موزعة على نحو مختلف عن باريس، حيث ينحدر خمس السكان من أصول أجنبية وخصوصاً من الأتراك والروس. وهناك أكثر من عشرين ألف فلسطيني كانوا قد قدموا من بيروت إلى برلين الغربية في الثمانينات. هذا ليس على مستوى الضواحي بل وسط برلين، وبالتالي ليس هناك مجموعة لغوية واحدة مسيطرة، ولكن الألمانية هي الغالبة كوسيلة تفاهم عامة. وأوضحت ان هناك العديد من المشكلات في مجالات التربية والتعليم، وتبلغ نسبة الأطفال المنحدرين في هذه المنطقة حوالي 43 في المائة، ومن بين هؤلاء هناك نسبة 80 في المائة لا يتقنون الألمانية، لذا تم ابتكار طرق خاصة لمساعدتهم بيداغوجيا. ولفتت إلى نقطة تشكل افتراقا مع النهج الفرنسي لإلقاء تبعة الفشل على ظهور الآباء، والتهديد بقطع الاعانات العائلية. ودعت إلى الاقلاع عن فكرة “ان المهاجر الجيد هو الذي لايثير الانتباه”، والعمل على تحقيق سياسات اندماج فعلية.
المرأة والهجرة
كشفت احدى المتدخلات في محور المرأة والهجرة، ان الأغلبية من المهاجرين في العالم هي من النساء، باستثناء آسيا وافريقيا والعالم العربي. وكانت المداخلة الأولى في هذا المحور من السويدية بيرغرين جارنيشو التي تحدثت عن تجربة استقلالية المرأة المهاجرة بفضل “البنك الدولي للمرأة”، الذي يقدم قروضا صغيرة من أجل القيام بمشاريع اقتصادية. وقدمت نبذة عن التجربة التي تقوم بإدارتها حالياً انطلاقاً من اسبانيا. وقالت نعمل مع البنوك للحصول على قروض بفوائد ميسرة، من أجل مساعدة النساء المهاجرات على تكوين أنفسهن اقتصاديا، ورغم ان اسبانيا تشكو من زحف الهجرة المغربية، فإن الاحصائيات تشير إلى ان الأغلبية تأتي من أمريكا اللاتينية، وتتجاوز نسبة النساء المهاجرات 54 في المائة، والأغلبية بين هؤلاء النساء هي من الارجنتين والاكوادور. وأشارت إلى ان نسبة 37 في المائة من هؤلاء النسوة يعتبرن ان حياتهن تغيرت، لاسيما وان النساء تمثل نسبة 90 في المائة من الحاصلين على القروض الصغيرة، وهناك اليوم نحو 80 مليون قرض مقدم للنساء، وتطمح الأمم المتحدة للوصول إلى 100 مليون قرض.
والمداخلة الثانية كانت للكاتبة والممثلة السينمائية الألمانية المنحدرة من أصل تركي “رينان ديمريكان”، وقد قدمت عرضاً لتجربتها الخاصة. وقالت أود الحديث عن مهاجرة ولدت في تركيا، ووصلت طفلة إلى ألمانيا، وعمرها اليوم 52 سنة. أنا ميالة للاثنتين ولا أستطيع ان أفصلهما عن بعضهما بعضاً، لغة الأصل ونمط الحياة.
لماذا تتحدثين الألمانية، أنت لست منا؟ بالتركية تعلمت العالم وبالألمانية أفهمه.. كثيرون هم الذين ولدوا داخل ثقافات متعددة، ولدي احساس بأن المهاجر هو جنس معروف وغير معروف في كل العالم، وان المجتمع المتعدد ليست لديه رغبة بهذا المهاجر، لذا فهو يبقى على الهامش، يعيش في غيتو ومنفى. وبالتالي تبقى الثقافة هي المكان الوحيد لتحقيق الذات. وتصل في النهاية إلى ان المهاجر يبقى مرفوضاً حتى لو اندمج في صورة تامة مع المجتمع الذي يعيش فيه، أي اتقن لغته وعاش مع أهله، وبالتالي فإنه مضطر لخلق عالمه الموازي. وفي الختام تطرق المشاركون إلى الأنظمة والقوانين، التي بدأت الدول اتباعها لتنظيم عملية الهجرة مثل النموذج السويسري والكندي والألماني وربما الفرنسي لاحقاً، هذا في الوقت الذي يكفي فيه جيل واحد لكي يندمج المهاجر كلياً وينسى حتى لغته، ومع ذلك تظل الهجرة حقيقة قاسية وصعبة في ظل تصاعد العنصرية، وعدم وجود قنوات تفاهم وحوار مع الآخر.