الصحافة اللبنانية أمام “إمتحان” جديد بعد التفاهم السعودي-السوري، وخصوصاً بعد زيارة الرئيس الحريري لدمشق وبعد مقابلة السيد وليد جنبلاط على “الجزيرة”! ما فهمه البعض في بيروت هو أن على الصحافة اللبنانية أن تتحوّل إلى ما يشبه صحافة “حكومية”، أي إلى ما لم تنجح 30 سنة من الإحتلال البعثي في تحقيقه.
قبل 3 أيام طالعنا في “السفير” مقالاً بعنوان “سيادة الرئيس… لقد تدخلت في شؤون لبنان” اعتقدنا لأول وهلة أنه مترجم من الكورية (الشمالية طبعاً)، ونترك للقراء الإطلاع عليه إذا شاؤوا (بالضغط على هذا الرابط). لكن مقال “نبيل بو منصف” المنشور في “النهار” اليوم يوحي بأن الجريدة التي أسّسها جبران التويني الجدّ واستشهد على رأسها جبران التويني الحفيد (وقبله سمير قصير) لن تنصاع لمشروع “التقيّة التعبيرية” الذي يتواطأ كثيرون لمحاولة فرضه على الشعب اللبناني.
*
هل ترانا أمام “دفتر شروط” تعبيري بات الشرط اللازم لاستمرار الاستقرار الداخلي مرتبطاً بتطوير التطبيع مع سوريا؟ ام ترانا امام ضرب من ضرورة التقية السياسية – التعبيرية التطوعية او القسرية في الداخل كنتيجة مستأخرة في “السلفات” المتدرجة الدفع لصفقات اقليمية سالفة ولاحقة؟
بعض من هذا وذاك اندفع بقوة الى ظاهر المشهد المعتمل مع المضاعفات التي اثارها الحديث المتلفز للرئيس السوري بشار الاسد مقرونة بتوظيف دعائي داخلي شديد الاحتراف للدفع نحو هيمنة “الصوت الواحد” من جهة وخفض “الصوت الآخر” وإلزامه التقشف والتقية الى أقصى الحدود من جهة اخرى.
سرت هذه الموجة بافادة قصوى من خلاصات الحملات الموجهة تباعاً، والتي مهما قيل فيها على سبيل التقليل منها او “تعييرها” بمصدرها السوري، الخفي – العلني، تبدو كأنها نجحت فعلاً على الاقل في نصب معايير جديدة يأخذها المعنيون بالحملات وبعض المرتبطين بهم في الاعتبار لألف سبب وسبب.
ثمة ما لا يمكن تجاوزه واقعياً في تبرير المنحى “المتعقلن” و”المترصن” في مجاراة الحساسية السورية المفرطة حيال رمزيات معينة، على مشارف الجولة الثانية من “مفاوضات” لبنانية – سورية في دمشق الشهر المقبل يتعين على الجانب اللبناني ان يظهر صدقيته الكاملة فيها من حيث تعامله مع دمشق برغبة الدفع نحو تطوير ايجابي للعلاقات وفرض معياره فيها من دولة الى دولة في آن واحد. ولأن العلاقات بين الدول هي مزيج من نصفين، احدهما تمثله المصالح المشتركة والآخر يجسده ميزان القوى، لا يضير الجانب اللبناني ان يظهر نضجاً وخروجاً من المراهقة “الدولتية” بدءاً بالجارة الاصعب والاقرب ذات المراس الشديد والمعقّد في تجاربه معها.
اذاً لا يستدعي الامر من هذه الناحية ضرب الصدور ولطم الوجوه واثارة كمّ مجاني من الانفعالات والمبالغات حيال مسار شديد التعقيد لا يزال في بدايته، ولا بديل منه لدى اي طرف داخلي، سواء كان مفرطاً في التبعية لسوريا او مغالياً في مخاصمتها.
غير ان هذا المعيار، على وجاهته واهميته القصوى، لا يبرر في اي شكل من الاشكال لأي مؤسسة دستورية او جهة سياسية او حزبية لبنانية تمكين الحكم السوري، شاء ذلك ام لم يشأ، اشتراطه علناً وجهاراً أم مداورة، او تمكين بعض “حلفائه” او غلاة “محبيه” من توفير ما يستحيل واقعاً توفيره، وحتى من باب “جلد الذات” المجاني، والمعني بذلك اظهار قابلية الحد الادنى للتنازل عن نقطة الثقل الاهم الحقيقية التي يمتلكها “المفاوض” اللبناني وهي الحقيقة التعبيرية في لبنان التي تضاهي كل “الاوراق الاستراتيجية” السورية.
حتى سوريا نفسها، التي قيل في نظامها يوماً إنه النظام الوحيد في العالم الذي أدار نظامين متناقضين ابان حقبة وصايته على لبنان، غادرت منذ ما قبل عام 2005 عالم الطموحات الى اسكات الحقيقة التعبيرية في لبنان. واستتباعاً لذلك، لا يمكن بلداً يباهي بانشاء “مؤسسة حوار” رديفة للمؤسسات الدستورية، لأن تركيبته الواقعية جعلته “وطن المختلفين”، ان يسلم تحت وطأة اي اعتبار بسيادة “الصوت الواحد”. الصوت الواحد هو إما القمع وإما الرقابة الذاتية المفروضة، او هو التسليم الكاذب بانتفاء الاختلاف. وفي الحالات الثلاث هو تمهيد اولي لانفجار ما لاحقاً عندما تتعاظم الظروف المحتقنة. وليس اخطر من الحالات هذه سوى تعميم الانطباع عن ان الصوت السيادي هو “صوت عدائي”.
بعض الملابسات الداخلية الاخيرة فتح الاعين على هلع مبكر غير مبرر يتعين استدراكه فوراً، اقله لانعاش الذاكرة بأن الحرية التعبيرية في لبنان اسقطت زمن الاملاءات ودفتر الشروط. فهل نسمع غداً اصواتاً تنادي بمحاكمة “القوات اللبنانية” مجدداً لانها أقامت مهرجاناً حراً، مدفوعة بمكاسب الاستقلال الثاني وتضحياته الهائلة؟ واي معايير وسقوف قد تترك لاحقاً وعاجلاً للتعبير السياسي اذا استشعر محترفو الحملات ومستثمروها نجاحاً مطرداً في جعل الابتزاز وسيلة حكم تعوضهم الحنين الموجع والجارف الى الماضي؟
نبيل بومنصف
nabil.boumounsef@annahar.com.lb