طرح عبدالرحمن بن خلدون مسألتيْ العمران والحضارة كظاهرتين بشريتين بشكل متكامل، وتحول العمران عنده إلى مصطلح متحرك، يرتبط، لزوما، بنمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض. وهذا المفهوم الخلدوني ما قبل المعاصر ينطبق اليوم على النموذج الإماراتي الحديث الذي تشكل في خضم عملية البناء المستمرة، والتي تحمل بين طيّاتها أسس التنمية المستدامة والاستقرار والتقدم في ظل اتحاد فدرالي يصنّف بين أكثر التجارب نجاحا في العالم.
زائر دولة الإمارات العربية المتحدة (آخر زيارة لي كانت منذ سنوات وأكتب اليوم كشاهد بعد عودتي إلى باريس إثر زيارة عمل قمت بها هذا الأسبوع) يلمس عن قرب التطور المتسارع في كل المجالات، وكيف أصبحت أبوظبي عاصمة للفعل السياسي والتأثير في الإقليم.
بالإضافة إلى حجمها الاقتصادي الكبير، تسعى أبوظبي لأن تكون قطبا ثقافيا بارزا يزاوج بين الأصالة والحداثة، إذ إلى جانب المحافظة على التراث يبرز احتضان السوربون واللوفر وما يعنيانه. أما دبي المدينة العالمية بامتياز، فقد تخطت سنغافورة والمراكز المماثلة الأخرى، وفرضت نفسها بوابة تجارية وممرّا لا غنى عنه بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.
لم يكن من قبيل المجاملة أو نتيجة الجهد الدبلوماسي المكثف لوحده أن يتم اختيار دبي كي تستضيف المعرض الدولي إكسبو 2020 تحت شعار “تواصل العقول وصنع المستقبل”. وليس هناك أفضل من هذه المدينة لإتمام هكذا مهمة، لأنها فعلا حلقة وصل بين الشرق والغرب.
من الناحية العملية تقدم دولة الإمارات نموذجا عالميا فريدا يمكن لحكومات العالم الاستفادة منه، إذ أنها تحسن استثمار رأس المال في تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين في التعليم والصحة.
ووصلت الإمارات إلى مستوى مرتفع في الأداء التعليمي مع مواكبة للتطور التقني والتكنولوجي (في 2012 تبوأت الإمارات المركز الأول عربيا في تبني حلول الدفع الإلكتروني).
مع طفرة التطور والاستثمار في كل المجالات، أصبح الاقتصاد الإماراتي أكثر تنوعا وأقل اعتمادا على الثروة النفطية، إذ أن حصة النفط والغاز انخفضت إلى 35 بالمئة تقريبا من مكونات الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 65 بالمئة للقطاعات غير النفطية التي نمت بصورة كبيرة، ما يعني أن النمو السريع للقطاعات غير النفطية هو الذي ساعد على إحراز هذا التقدم الاقتصادي، وهو نموذج لإنجازات هيكلية لا تتكرر كثيرا في البلدان النامية المنتجة للنفط، علما بأن إنتاج النفط في دولة الإمارات بدأ متأخرا نسبيا إذا ما قورن بالبلدان الأخرى في منظمة “أوبك”.
وإذا ما أخذنا بعض الإمارات غير النفطية، كدبي على سبيل المثال، فإن مساهمة النفط لا تتعدى نسبة 5 بالمئة من الناتج المحلي للإمارة.
وعلى ضوء أزمة دبي المالية في 2009-2010 والسرعة القياسية للإنقاذ بقرار من رئيس الاتحاد وأمير أبوظبي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، تبرز نجاحات النموذج الفدرالي، وتلك المغامرة في بدايات مرحلة الاستقلال من خلال تحالف بين أسرتين حاكمتين في أبوظبي ودبي، التفّ حولها باقي الإمارات السبع ممّا أمن الرخاء والاستقرار للجميع.
سيذكر التاريخ أن الرجل الحكيم والمؤسس لدولة الإمارات، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بالتعاون مع الشيخ راشد آل مكتوم، أعطى الأولوية لعوامل التقارب داخل الاتحاد، وعمل على تعزيز المؤسسات المشتركة والاندماج الاقتصادي للبلاد وخلق المواطنة والهوية الإماراتية اللتين تمثلان اليوم أفضل الضمانات من أجل وحدة وازدهار الإمارات العربية المتحدة.
عمل الشيخ زايد بثبات مثالي، ورغم الصعوبات، على التقريب بين دول الخليج ووحدة العائلة الكبرى التي تمثلها الدول العربية. كان الشيخ زايد رجل حكمة ورؤية ولم يكفّ عن تشجيع فضائل التسوية والعقلانية والحوار في منطقة تتأجج بالأزمات والنزاعات. من البيت الخليجي الواحد، وصلة الأخوة مع المملكة العربية السعودية، إلى العلاقة المميّزة مع مصر، ومسعى لإنقاذ العراق قبل ساعة الصفر في حرب 2003، كان الشيخ زايد يرسم لمن بعده خريطة الطريق للمستقبل.
إزاء التحولات العربية العميقة منذ 2011، واتساع حجم المخاطر، تتفاعل دولة الإمارات ونهجها يقوم على الجهد الإنساني والحفاظ على عناصر القوة العربية والأمن العربي المشترك. ولأن هدفها الأساسي استمرار الأمن والاستقرار في ديارها، بدأت مهمة محاربة التطرف بحزم وواقعية في الوقت ذاته.
يأخذ البعض على دولة الإمارات أنها تحتل الموقع الأول في التصدي لجماعات الإسلام السياسي، لكن مراقبة تسلسل الأحداث منذ 2011 تبيّن أن ترويج واشنطن لمنظومة جرى إطلاق “الإسلام المعتدل” عليها كبديل عن منظومة معمر القذافي وحسني مبارك وأترابهم، أعطى زخما لمحور إقليمي استسهل التمدد في الخليج، دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأنظمة والمجتمعات.
إن عدم التسليم بفرض مفاهيم للإسلام أو المس بثوابت هذه الدول وأسسها حدا بقيادة الإمارات إلى اتخاذ مواقف دفاعية وقائية ضد موجة التطرف، كما يقول أكثر من متابع. ومن يرى عن قرب حجم احتضان الدول العربية في الخليج، من الرياض إلى الكويت ومن الدوحة إلى أبوظبي ودبي، لمئات الألوف من العرب العاملين، يدرك أهمية حفظ هذه المنطقة واستقرارها كمصدر للثروة في زمن انهيار بقية الإقليم العربي. أضف إلى ذلك أن المجتمع الإماراتي يقدم نموذجا للتعايش بين جميع البشر، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو أي اعتبارات أخرى.
اللافت في الإمارات وجود قيادات تؤمن بمدنيّة الدولة التي لا تخلط بين الدين الذي له كل الاحترام كأساس في الدائرة الخاصة الفردية ولناحية الإيمان (هناك اهتمام خاص ببناء ورعاية الجوامع وفق إعمار مميز إلى جانب كتل الأبراج ورمز الحداثة الأخرى) وبين ممارسة السياسة في المجال العام.
من الصعب الإحاطة بإنجازات الإمارات في عجالة، لكن النموذج التنموي الإماراتي يستحق الدراسة مليا والاستفادة منه. وهو لم يتحقق لولا الواقعية السياسية لقيادة دولة الإمارات العربية المتحدة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس