تحلم الإنتجلنسيا بالحداثة. تتأمل حاضرها بوعيها الحاد فتلمس وضعه الحرج. تدرك المأزق الماثل في ثقل الماضي، ذلك الماضي الذي لا يمضي، فتتأهب لمواجهته للحاق باللحظة وصناعة الحاضر الحقيقي سعيا نحو عصر ذهبي حيث ينتظر هناك على بوابته تنين أصولي يجاهر برفضه لكل أشكال الحداثة.
يتطلب الأمر، للشروع في الحداثة، شيئاً من الجرأة ضد هذا التنين المجاهر بممانعته. التنين الأسطوري بحاجة إلى بطل أسطوري. الإنتجلنسيا -وهي بالتعريف المعنية بمقولات التقدم والنهوض- مشروطة بالتحلي بسمات بطولية. لا بد لسؤال التقدم من العبور بمشقات النقد للوصول إلى إجابة تليق بالحداثة. الإنتجلنسيا العربية أدركت ذلك. نادى الكثير من المثقفين العرب بضرورة نقد التراث، تنوير الوعي، تفكيك البنى التقليدية، إذ المسألة في الحالة العربية أكثر إلحاحا، فالصوت التقليدي قوي وحضوره كثيف ومتوهج ومدعم بعاطفة شعبية وحضور لقوى تاريخية أقوى من الموت.. التراث يهيمن على الوعي، والمهمة الضرورية -إذاً- اجتراح مهمات النقد، بتتريث التراث بتعبير الجابري، ذلك هو الشرط الضروري لتحديث الوعي وعبور عتبة الحداثة.
على أنّ المسألة ليست إرادية، ليست مجرد تمنيات أو حلم، فبما أن الحداثة حتمية، “سيل يتدفق في جميع الأرض”, فإنّ تحديث الوعي عبر إصلاح الخطاب الديني وتتريث التراث بمثابة الدواء للفصام العمومي المزمن: ينتمي الوعي العربي /الإسلامي لزمن تجاوزه الزمن.. إنه الوعي الذي لا زال يشكل راهنا لأزمنة مضت، أزمنة أنماط الإنتاج الخراجية التي اكتشفها “سمير أمين” وبيّن مركزية الأيديولوجيا في بنياتها.
ثمة حقيقة مرّة ينبغي إقرارها والقبول بها والتأسيس عليها في كل إشتغال ثقافي، مفادها أن الذات العربية منشطرة بين زمنين، انشطار محزن وعبثي. ذلك أن الحداثة كونية وحتمية، تصنع العالم على صورتها (المنيفستو)، وقد توغلت في المجتمعات العربية على نحو قسري منذ الحقبة الكولونيالية على ما يرى عبد الله العروي. ووعي ماهية الحداثة بما هي قطيعة مصالحة ضرورية مع الذات، للخروج من وضعية الإنشطار، وضعية التأخر التاريخي، غاية الغايات والحلم التحريري الأقصى للأنتجلسيا العربية.
تنهمر علينا جملة من التعينات: لا تعني الحداثة التقدم، فهو ظاهرة قديمة، إنما الوعي به هو ماهيتها الجوهرية/ القطيعة الفلسفية بوصفها انعتاقا للفكر من الحدود المفروضة عليه/ إدراك الإنسان ذاته صانعا للتاريخ.. والحداثة سيرورة لا نهائية.. تنفتح دوما على المجهول والمستقبل/ إنها وعي حاد بالزمن.. والزمان صانع كل حقيقة/ الحداثة مشتقة من الحدث، والحدث إيجابي في التاريخ والعقل، إذ يتحول العقل بتحول التاريخ.. لكنها أيضا ضرب من النسيان.. نسيان -ولو لبرهة- العقائد والقوميات للشروع في الدخول في صياغة اشكاليات وأسئلة جديدة وخلق وعي جديد..
إنّ الحداثة مطبوعة بروح السفر الأوديسي: العودة إلى الذات بعد رحلة متوجة بالنسيان. ومثقفو الإنتلجنسيا -إذن- أبناء ذلك الرحالة الأسطوري الماكر أوديسيوس، الذي لم يتمكن من العودة من “طروادة” إلى موطنه “أثيكا” إلا بعد إتقانه فنون النسيان، بعد سفر وهجرة وموت، موت الذات وانبعاثها بروح جديدة، روح تنمتي لزمنها، روح ملك أثيكا الجدير بقلب “بينلوب”.
المفكر التونسي هشام جعيط يعدّ في طليعة تلك الإنتلجنسيا الأوديسية. هو مؤرخ ومثقف موسوعي، مثقف من الطراز الرفيع، مسكون بهاجس الحداثة، تسكنه شواغل النهوض وأسئلة الوعي والكشف الصريح عن “أزمة الثقافة الإسلامية”، يمنح العامل الثقافي والهيمنة الرمزية دورا مركزيا في خطابه وفكره النقدي، بحيث يتأتى لنا وضعه في نفس الخط الذي ساهم في تدشينه المفكر العملاق “غرامشي”.. أثر غرامشي الذي كان بيّنا في فكر الكثير من مثقفي جيل الستينات والسبعينات نلمسه هنا أيضا حيث للثقافة استقلاليتها ودورها المركزي في تشكيلات المجتمع والتاريخ.
لفد أدهشنا المفكر جعيط بإجراء تأملات تاريخية مقارنة تشبه المفارقة بين الإسلام كمفهوم ثقافي وأوروبا كمفهوم جغرافي، كبنيتين تاريخيتين تستوجبان المقارنة، في كتابه العميق والمكثف “الإسلام وأوروبا”.. أوروبا حققت حضارتها واجتاحت العالم.. أرست القطيعة مع عصرها الوسيط وأقامت حداثتها الفكرية التي هي عنده كما عند العروي وسمير أمين وآخرين “قطيعة مع ماض حضاري حكمه منطق التراكم والتطور داخل البنية التاريخية – الثقافية نفسها، وانشاء لنظام من التراكم والتطور جديد”، هي قفزة وتحول نوعي في الاقتصاد والمجتمع والثقافة، بينما يبدو تراثنا ثقافة نصية.. “تكلم النص ثم عمّ الصمت”.. وفي النص يتجلى المطلق الذي يحكم التاريخ ويهيمن على العالم.
الآن تتسيد التاريخ الحداثة التي شكلت معجزة أوروبا الغربية.. يسأل جعيط: أي أوروبا يمكنها أن تكون عالمية/ كونية؟ إنها العقلانية والقيم والأستطيقا والأنسنة.. لكن ما هو أهم يكمن في أن ما هو عالمي في أوروبا، ما هو قابل للتعميم، هو أوروبا متجاوزة لذاتها، بل هو ما يشكل أوروبا ضد أوروبا: التيارات النقدية التي ساعدت ضحايا المركزية الغربية على كسرها.. الحداثة إذن لا تختزل في الغرب الإمبريالي، برجوازية القرن التاسع عشر التوسعية والتي خانت مثل الأنوار والقيم العقلانية والإنسانية المتولدة في المكان نفسه، لابد من كسر التماهي بين الحداثة وتشوهاتها، الأمر الذي يغيب عن وعي خطاب الأصالة، حيث يتم تجاهل المكتسبات الفكرية والأخلاقية والفلسفية بحجة تجاوزات الغرب السياسي والإمبريالي.
تكمن الحداثة في أنسنة النهضة وعقلانية الأنوار وحركة الإصلاح الديني. تشكل الأخيرة في فكر جعيط دورا مركزيا، وما الحداثة بجميع تجلياتها السياسية والفكرية سوى امتداد لهذه الحركة حيث أمكن للإنسان الأوروبي تحرير العقل في الفلسفة من اللاهوت، وتحرير السياسة من الحق الإلهي، والمجتمع والثقافة من احتكار ووصاية رجال الدين وكسر وساطتهم بين النص والمجتمع، وهكذا أمكن للعقلانية والعلم التجريبي والفلسفة السياسية البروز والنمو كحقول معرفية “لائكية” وإنسانية.
يقر جعيط بحقيقة أن مكتسبات الحداثة الفكرية نشأت على حساب الثقافة الوسيطة، يقول: “من الثابت أن العقلانية العلمية والفلسفية واجهت في أوروربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر معارضة قوية من جهة الكنيسة.. وأنها برزت كحركة ثقافية مستقلة بالنسبة للتعاليم الدينية .. وبالنسبة للمؤسسات الجامعية القائمة.. هذا بالإضافة إلى أن ولادة الفكر الحديث وكل الكوادر العقلية للمجتمع قد صنعت في فرنسا حلال القرن الثامن عشر عبر نقد جذري للثقافة التقليدية، وفي ألمانيا بواسطة فلسفة متحررة جزئيا من سيطرة الموروث وذات اتجاه استقلالي”.
ندرك إذن مع هشام جعيط أن مسار الحداثة لابد أن يمرّ عبر نقد ضروري للفكر والخطاب الدينين، ليست المسألة ترفية، المسألة حاسمة وضرورية، ذلك لأن للثقافة مغاعليها المربكة..إنّ الحداثة في العالم العربي والإسلامي تبدو مرتبكة وحائرة ومترددة وهجينة، لقد واجهت تحديات مضاعفة، وإعاقات ثقافية، يؤكد جعيط على ضرورة فحص الدور السلبي الكابح الذي شكلته وتشكله الثقافة والتراث في العالمين العربي والإسلامي، فإخفاقات الحداثة التي نعاينها ترد إلى جذور ثقافية: عداء الموروث الثقافي للحداثة برمتها.. إن تراثنا يتعارض مع قيم الحداثة.. والقانون كما سنه الفقهاء يتعارض مع الكثير من مبادئ حقوق الإنسان وحقوق المرأة .. وما دامت هذه التركة حاضرة ومنتشرة في الأوساط الشعبية فإن مشروع الحداثة سيكون في مأزق حرج يزيده حراجة تلعثم مشروع النهضة منذ بدايتها في بداية القرن التاسع عشر، حيث كان خطاب الإصلاح -عند الأفغاني وعبدة مثلا- نقيضا لنظيره في الغرب: تقدمت أوروبا بالحد من الفكر المثالي بينما يقترح خطاب الإصلاح المزيد منه لتحقيق النهوض والإصلاح! .
تلك مفارقة يلحظها جعيط وتكتسب راهنية حتى وقتنا الحاضر، والكشف عنها ينمّ عن بصيرة نقدية يتمتع بها مفكرنا. فإرباك خطاب الإصلاح أنجب خطاب الأصالة بكل امتداداته الإسلاموية التي بلغت أوجها منذ السبعينات والثمانينات في فكر الصحوة والممانعة الصارمة لكل أشكال الحداثة.. إنها نكسة ثقافية صاحبت النكسة السياسية والهزيمة في العام 1967م، الأمر الذي دعا جعيط والكثير من مجايليه -كياسين الحافظ مثلا- إلى ضرورة إعادة رسم الإستراتيجية الثقافية، فبروز خطاب الأصالة والصحوة/ انتعاش الخرافة والحنين المرضي إلى الماضي المتخيل/ انفجار الترسبات الطائفية/ وهن الهوية الوطنية الجامعة ومتانة الهويات الفرعية الماقبل حديثة وتناميها/ تمزقات الوعي بين ماضٍ يبدو كما لو كان قادما من المستقبل، وحاضر غامض وغريب وغير مفهوم، حاضر ولد في مكان آخر هو الغرب الأوروبي/ إبتلاع الحقيقة المطلقة لكل حقيقة، تلك الحقيقة التي تتعارض مع التاريخية والنسبية السياسية والعلم الحديث، وهي الركائز الأساسية للحداثة.. كلها ظواهر تؤكد أهمية نقد وتشريح وفحص المكون الثقافي والديني في الوعي العربي، وتعيد إلى الذاكرة حقيقة أطلقها ذات يوم مفكر نقدي في “الإنتجلنسيا الألمانية” إذ نقد خطاب الأصالة والتراث، هنا كما كان في ألمانيا، يشكل بداية كل نقد..
*كاتب وباحث سعودي
المقال نقلا عن مجلة “مقابسات” العدد الثالث، والصادرة عن جمعية الفلسفة السعودية