دار نقاش حادّ في أوروبا يتعلق بالنقاب، وصدر قانون يمنعه في السّاحات العامّة، ووصل الأمر إلى التراشق بتهم تراوحت بين الإسلامفوبيا عند بعض الغربيين وبين تهديد العلمانية وقيم الجمهورية عند بعض المتأسلمين.
نتساءل، هل النقاب يستحق كل هذا النقاش وكل هذا الوقت المهدور،هل النقاب عبادة أو عادة؟
لا يستحق النقاب كل هذا النقاش لأنه ليس من الإسلام، وإنما هو عادة وجدت خاصة عند سكان الصحراء مثل الطوارق الذين يغطي رجالهم وجوههم لحمايتها ما الرمال ومن لفح الشمس.
إذاً، لا علاقة للنقاب بالعبادة ولا بالإسلام، وليس من حق المنقّبة ولا من يدعمها أن يحتجّوا بالإسلام لشرعنة هذا النّوع من اللّباس، لأنّ آيات القرآن ونصوص السّنة النّبويّة تردّ على دعواهم بقوّة.
ففي القرآن الكريم آيات منها “ولو أعجبك حسنهنّ” (الأحزاب:52).
وقيل إنّ سبب نزول هذه الآية أسماء بنت عميس أعجب الرّسول صلى الله عليه وسلم بجمالها وأراد أن يتزوجها بعد وفاة زوجها جعفر بن أبي طالب، وإن ضعف البعض الخبر، إلا أنّ منطوق الآية يدل على أنّ وجه المرأة لم يكن مخفيا وراء قطعة قماش ولذلك يظهر حسنه للعيان.
وذهب المفسّرون والفقهاء إلى أنّ في الآية دليلا على جواز أن ينظر الرّجل إلى من يريد زواجها، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”،وفي خبر ثان أنّه قال: “انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا”، وفي خبر ثالث أنّه قال: “إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا باس أن ينظر إليها”.
والأمر بالنظر إلى الخطوبة إنما هو على وجه الإرشاد والمصلحة فإذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في الزواج منها. ومما يدلّ على أنّ الأمر على وجه الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى زواجها فليفعل”.
وبهذا قال جمهور العلماء والفقهاء ومالك والشافعي والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر، وقد كره ذلك قوم لامبالاة بقولهم للأحاديث الصحيحة (القرطبي،الجامع لأحكام القرآن، مج7/ج14، ص142-143، طبعة 1، دار الكتب العلمية،1408هـ/1988م).
آية ثانية تؤكد أنّ النّقاب وكل ما يغطي الوجه عادة وليس عبادة هي قوله تعالى:”قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم”(النور:30).
الأمر واضح في دعوة الرّجال إلى غضّ البصر ،فلماذا يغضّ بصره إذا كان الوجه مخفيا ولا يرى منه إلا عينان لا يدري ما خلفهما.
ومما يؤكّد أن تغطية الوجه بدعة في المجتمع العربي والإسلامي فرضها بعض الرّجال على النساء ظنّا منهم أنّه يحميهنّ من التّعرض للإيذاء أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال لعليّ بن أبي طالب: “لا تتبع النظرة النظرة فإنّما لك الأولى وليست لك الثانية”، وعدّ من آداب الطريق غضّ البصر وكفّ الأذى، وأّنّه عليه الصلاة والسلام صرف وجه الفضل عن الخثعميّة المرأة الجميلة حين سألته، فلو كانت منقّبة فلماذا ينظر إليها، ولماذا يصرف الرّسول وجهه عنها.
واختلف المفسرون والفقهاء في الزينة الظاهرة للمرأة وأجمعوا على أن الوجه من الزينة الظاهرة التي يمكن للمرأة أن تبديها، وذهب البعض منهم إلى أكثر من ذلك كابن عباس وابن مسعود وقتادة إلى أنّ الزينة الظاهرة هي الكحل والقرطة والفتخ- الخاتم- والسوار والخضاب إلى نصف الذراع ونحو هذا مباح للمرأة أن تبديه لكل من دخل عليها.
وكذلك أجمع العلماء المعتدّ برأيهم على أنّ إحرام المرأة في الحجّ وجهها وكفّيها، وأنّ لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها عند أداء فريضة الحجّ، وروى مالك عن نافع أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: “لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس قفازين”، وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النقاب والقفازين.
فلو كان حجب وجه المرأة عبادة هل ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويعتبر الفقهاء سفور الوجه من الإحرام، وكلنا نعلم أن الحجّ يكثر فيه الاختلاط بين الأجناس البشرية نساء ورجالا، ويأتيه النّاس من كل صوب وحدب، وأنّ الشعائر تؤدى معا رجالا ونساء
وإذا نظرنا إلى حقوق الإنسان فإن النّقاب فيه عنف رمزي إزاء المجتمع، فكأنّ كلّ المجتمع فاسد، وكأنّ كلّ رجاله ذئاب وحشيّة تترصّد بروز وجه عار حتى تنقض عليه، وكأنّ الأخلاق الحميدة انعدمت تماما والرّسول عليه الصّلاة والسّلام يقول: “لن ينتهي الخير من أمّتي”. ونقول لن ينتهي الخير من البشريّة ، فكلّ مجتمع فيه الصّالح وفيه الطالح، علاوة على ذلك يدرك أصحاب العقول الواعية أنّ شكل اللّباس لا يحمي من الانحراف، وأن الوازع الدّاخلي هو الذي يحمي الفرد والجماعة من أي اعتداء، وأن المجتمعات لها قوانين تضبطها وليست غابة يلتهم فيه الرّجل المرأة.
يدلّ –أيضا- هذا النقاب على عدم الثقة في المرأة التي يطالبها الرّجل أن تتخفّى وراء حُجُب كثيرة باسم الإسلام الذي أعطى للمرأة حقوقا لم تكن تحلم بها قبل خمس عشرة قرنا من الزمن. ومن المؤسف أن يختزل دين الحضارة والعلم في زي معيّن، وأسأل دعاة الحجب هل لديهم مشاركة في التطور العلمي والتكنولوجي المهول اليوم، هل بإمكان من شغلوا أنفسهم بحجب النساء أن ينافسوا العالم اليوم فيما لديه من عالمات في الرياضيات وفي الذرة وفي الطب وفي الهندسة وفي الكيمياء وفي السياسة وفي غيرها ممّا حقّقته الدّول المتقدمة التي سوت بين الجنسين ورأت ا،أنّه لا تقدم لها إلا بمشاركة المرأة.
ومن المؤسف كذلك أن هذه المجموعة أساءت إلى الإسلام، وسمحت لليمين المتطرف في العالم أن يشعل نعرة العداء للإسلام والمسلمين والعرب كلّهم، ووصل الأمر إلى إصدار قانون يمنع أشكالا من اللّباس، وإن كان لكلّ دولة الحقّ في إصدار القوانين التي تنظم الحياة في بلدها فإن منع نوع من اللباس يزيد من عزل المرأة ، ويكرس مزيد تحكم الرّجل فيها ، فلا تجد متنفّسا قد يغير من عقليتها ويطور رؤيتها.
nfzimzin@yahoo.f
* أكاديمية تونسية