عشت في أوروبا، مقيما وزائرا، سنوات طويلة. قمت خلال هذه الفترة التي قاربت العقود الأربعة بزيارة والتعرف عن كثب على الكثير من معالمها الثقافية والأدبية والسياحية والأثرية، وحرصت على زيارة الشهير من مطاعمها ومخابيها وكازينوهاتها ومرابعها الليلية وحتى حلبات سباق الكلاب والخيول لم تفتني زيارتها. كما أتيحت لي، خلال الأربعين عاما هذه، فرصة الاختلاط بأكثر من مجتمع مخملي وخشبي وتجمع مالي وعقاري ومافيوي!!
ما كان، ولا يزال، يلفت انتباهي طوال هذه الفترة الطويلة نسبيا هو عدم التقائي مصادفة أو تعارفا، أو حتى سماعا، بأي رجل أعمال أو مليونير أو صناعي أو مستثمر ليبي أو من أصل ليبي!! حتى أنشطة الحكومة الليبية الاستثمارية خارج ليبيا كانت طوال هذه الفترة ولا تزال شبه معدومة وربما يكون استثمارها المتواضع في أسهم شركة ‘فيات’ الإيطالية الاستثناء الوحيد الذي سمعت به، ولا أدعي أنني المرجع هنا، وإنما أحكي فقط عن تجربتي الشخصية والغنية إلى حد كبير. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: أين ذهبت أموال النظام الليبي إذا؟ فقوائم أغنياء الأرض التي تحرص المجلات والدوريات المتخصصة والدقيقة إلى حد كبير على إصدارها سنويا لم تتضمن قط اسما من ليبيا على الرغم من ثراء تلك الدولة النفطية وضخامة ما حصلت عليه من أموال خلال السنوات الأربعين الماضية التي كان إنتاجها فيها لا يقل عن مليوني برميل يوميا!!
فأين ذهبت كل تلك الأموال؟ فلو قلنا ان قادة وضباط الانقلاب هم الذين استولوا عليها لظهر منهم واحد هنا وثان هناك. فنظام ليبيا لم يكن قط أكثر وحشية في تعامله مع معارضيه من نظام شاه إيران ومن بعده الخميني أو نظام صدام حسين، أو غير ذلك من الأنظمة الدكتاتورية، حيث كان هناك دائما، ولا يزال مليونير عراقي وصناعي أوروبي كبير من أصل إيراني وملاك عقار عالمي سوري وصاحب أسطول سيارات سوداني وملياردير مصري، كل ذلك بجانب أثرياء السعودية والكويت والإمارات والبحرين وقطر والصين والهند وغير ذلك!!
أين ذهبت إذا أموال ليبيا التي جاوزت الثلاثمائة مليار دولار، كحد أدنى، خلال الأربعين سنة الماضية؟
هل سرقها النظام؟ وأين يمكن أن يذهب أفراد معدودون بفوائض مالية تزيد على المائة مليار دولار من دون أن يعرف العالم ذلك، وعيون أجهزة المخابرات تنتشر في ساحات كل بنوك العالم الكبيرة؟!
هل صرفت داخل ليبيا على مشاريع وهمية كالنهر العظيم وطباعة الكتاب الأخضر وهذه مشاريع ربما كلفت عشرة او عشرين مليارا فأين ذهب الباقي؟
هل صرفت على رفع مستوى معيشة الشعب وكل الظواهر تدل عكس ذلك؟
ولو كان نظامها يتبع السرية في كل أموره فلم إذا دفع بنفسه دفعا ليكون مثار جدل ونقاش بين الفترة والأخرى على المسرح العالمي، فما أن يخرج من مشكلة حتى يرمي بنفسه، عامدا متعمدا، في مشكلة اعقد وأسخف منها؟
وفوق هذا وذلك لا توجد دولة في العالم تستطيع الادعاء بانها على علاقة جيدة وطيبة مع النظام الليبي على الرغم من حرص هذا النظام الغريب على شراء ود الكثير من الدول الفقيرة بالمال، ومن ثم كسب كراهيتها وعداوتها بعد أيام فقط من خلال الغريب والمستهجن من التصرفات، وتجارب ليبيا مع تشاد والسودان ومالطا واليمن ودول أفريقية كثيرة خير شاهد!!
وللموضوع بقية.
tasamou7@yahoo.com
* كاتب كويتي