( – الجزء الأول من النص الأصلي العربي للمداخلة التي قدمها الكاتب في معهد هيدسون الأمريكي في العاصمة واشنطن، وذلك في سياق المناقشات والحوارات الجارية -اليوم- حول ممكنات إصلاح النظام السوري ومن ثم مراهنة بعض الأوساط الأمريكية على عقد صفقة مع هذا النظام…)
*
لابد أنكم تعرفون أن بلدنا سوريا لم يكن منذ نصف قرن بلدا استثنائيا مثلما هو عليه اليوم، بل كان دولة تستند إلى الشرعية الدستورية التي يعود دستورها إلى سنة 1928، وكان يقوم نظامها على أسس نظام ديموقراطي برلماني، حيث الانتخابات الحرة ووجود برلمان حقيقي ممثل لكل أطياف المجتمع السوري،حيث تعدد الأحزاب والنقابات وقوانين ناظمة لوجودها، وصحف حرة ، وفصل للسلطات الثلاث، وحيث دولة القانون والقضاء المستقل: أي كان هناك مجتمع مدني ديموقراطي يسير باتجاه مزيد من الحداثة والانخراط في العالم من خلال التعددية والاعتراف بالآخر المختلف سياسيا واجتماعيا ودينيا ومذهبيا ، وذلك قبل الانتقال إلى ما سمي بالشرعيات الثورية الانقلابية التي قادها العسكر من أبناء الأرياف ضد المدينة والمجتمع المدني وقيم الحداثة والديموقراطية، منذ بداية الستينات مع انقلاب حزب البعث الذي يتأسس فكريا ونظريا على منظومتين شموليتين:
الأولى: قومية تقوم على تخيل ثقافي للماضي وفق نموذج عروبي عنصري قبلي، حيث نموذج (البطولة الفتح والتوسع الامبراطوري) في الماضي العربي يعاد إنتاجها في الممارسة القومية البعثية في صيغة الغزو البيني كمعادل لثقافة الفتنة الداخلية عندما تعجز الأنا القومية عن المواجهة الخارجية ، وقد كان تشخيصه المعاصر في غزو (صدام حسين للكويت –غزو حافظ الأسد للبنان) بوصفه رسالة خالدة، وهذا ما يفسر لنا طموح النظام للتدخل في الجوار والإمساك بأوراقه: الورقة الفلسطينية واللبنانية ومن ثم العراقية ، وقد ودفع الفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون ثمنا باهظا من الضحايا لا يقل عن ما قدمه الشعب السوري من عشرات آلاف القتلى (ألف30-40 ألف) ضحايا حماة، والمعتقلين والمساجين الذين لا يقلون عن هذا الرقم ، والمفقودين الذين يبلغ تعدادهم لوحدهم فقط 18ألف مفقودا… والمفهوم القومي لم يستند إلى ميراث الحركات القومية الديموقراطية كما عرفها التاريخ الغربي في صورة قيام الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة المؤسسة على مفهوم المواطنة والحريات ومبدأ استقلال وفصل السلطات، بل على مفهوم الدولة القومية الانقلابية العسكرية الريفية (الاستبدادية) التي تتعرف على ذاتها من خلال تعارضها مع الخارج، وما يتأسس على ذلك من ثقافة العداء للآخر ورفضه عبر تفعيل ثقافة الكراهية الموروثة من مراحل الهيمنة الاستعمارية ومن ثم استمرارها حتى بعد الاستقلال وخروج الاستعمار، وذلك لتشريع انقلابهم (الثوري) على الأنظمة الليبرالية(الرجعية) التي كانت ترفض الغرب استعماريا، لكنها تقبله تتعايش معه وتتفاعل حضاريا وثقافيا ومدنيا كونيا، وذلك هو المبدأ الأول الذي أسس لإلغاء السياسة ومن ثم اضمحلال الدولة لصالح تغول السلطة وتهميش المجتمع عبر تحطيم حراكه الاجتماعي بتحطيم طبقاته الوسطى والذي مؤداه القضاء على الكفاءات ومن ثم هجرة الأدمغة لصالح الموالين للنظام حزبيا ومن ثم عشائريا وعائليا وراثيا وطائفيا، يترتب على ذلك هيمنة روح العزوف واليأس التي مؤداها انتشار ثقافة العنف والكراهية والخوف والانتقام وفي المآل ثقافة الإرهاب… ولعل هذا ما يفسر لنا سر انخراط النظام في الجرائم الدموية ضد شعبه والمحيط المجاور(سلسلة الاغتيالات في لبنان بدءا من المغدور الحريري وصولا إلى إرسال الانتحاريين للعراق خوفا من مستقبله الديموقراطي)، بل ورفضه للعدالة الدولية وتشجيعه المجرمين الآخرين (البشير) على رفضها باسم السيادة القومية القائمة على مفهوم تعريف سيادة الذات برفض الآخر وعداوته، وليس مفهوم السيادة المستمد من الشرعية الدستورية وتمثيل الشعب عبر المؤسسات الديموقراطية… تلك هي قوة النظام التي تتداولها بعض الأوساط الأمريكية والغربية في دعوتها للدفع بالمسار التفاوضي السوري على حساب المحور الفلسطيني الذي يفترض أنه ضعيف حسب أراء بعض النخب الأمريكية… إن قوة النظام السوري هي قوة نظام أمني –عسكري –طائفي لا يختلف عن طبيعة قوة نظام صدام حسين الأمنية –العسكرية- الطائفية التي انهارت بأيام… وهي أقل بكثير من القوة العسكرية والأمنية السوفيتية التي سقطت أمام بضعة مئات بسبب التآكل الداخلي فسادا والعطالة الداخلية ركودا كما يحدث في سوريا.
فالنظام السوري لا يمثل أية قوة اجتماعية أو شعبية أو تمثيلية… لماذا لا يمتحن العالم قوته المدعاة بمطالبته بالبرهان: عبر القبول بالانتخابات بمراقبة الأمم المتحدة للتأكد من صحة قوته الشعبية الدستورية وليست قوته الأمنية والعنفية عبر رعايته لكل المنظمات الإرهابية في المنطقة وتهديده الدائم للأمن والاستقرار في المنطقة لابتزاز المجتمع الدولي والدول العربية، مما يبدو في عين بعض المراقبين الخارجيين الداعين لسياسة الصفقات أنها قوة النظام وليست إرهابيته….
– والمنظومة الشمولية الثانية التي استند إليها النظام: اشتراكية وجدت في النموذج الستاليني مثالها ونموذجها المستقبلي الأعلى، عبر دمجه بالشمولية القومية التي استلهمت من النموذج (الفاشي) خلال الحرب العالمية الثانية ، والمفارقة هنا أن جذور شجرة التجربة الاشتراكية الستالينية التي جفت وتيبست في النموذج الأصل (السوفييتي)، ظل النظام الشمولي مصرا على اعتبار نفسه غصنا قابلا للحياة رغم جفاف الجذور في التربة الأصل، ولعل هذه المفارقة هي التي تفسر الموت العنيف للنموذج البعثي العراقي الصدامي الذي رفض موته الطبيعي، وهو الموت الذي يهدد النظام به الشعب السوري من المصير العراقي، فهو لا يقبل الموت الطبيعي لنموذجه الهالك، بل يهدد الناس بعواقب موته في صورة الدمار العراقي… وهكذا يكون على شعوبنا أن تعيش في ظل كوابيس رعب ممارسات النظام وما يمكن أن يجره هذا النظام على رأس شعبه من ويلات الحروب بسبب سياساته الخارجة على القانون الطبيعي للحياة والموت، والخارجة على القانون الدولي الذي ينظم شؤون المجتمع الدولي، والذي أصبح الخيار الوحيد أمام شعوب العالم تجاه التغول الفظيع للأنظمة الديكتاتورية التي تخوض حروب الإبادة الشاملة ضد شعوبها كما هو عليه وضع النظام السوري الذي يحبس عددا من الشباب لتأليفهم جمعية للدفاع عن البيئة والنظافة(قضية شباب داريا)!
إن كلتا الشموليتين كانتا متكاملتين ومن ثم متطابقتين، وذلك لأن التطلع بإعجاب وحنين استلهامي إلى نموذج بطولة الغزو الإمبراطوري (العربي- الأموي) الذي انحل إلى مستوى غزو داخلي باسم (التوحيد القومي كمثال (احتلال الكويت ولبنان قوميا بعثيا) على اعتبار أن النظامين لا يعترفون بكيان الدولة العربية الوطنية… فأتت المنظومة الشمولية الاشتراكية الستالينية لتعزز أوهام المتخيل العروبي القومي بالمتخيل الاشتراكي الطبقي في صناعة ثقافة الكراهية للعالم الحديث في صورة الغرب، لتضيف هذه الشمولية إلى برنامجها في صناعة العدو القومي، صناعة عدو طبقي يضاف إلى العدو الاستعماري، حيث في النموذج الأول سيتبدى الغرب بوصفه (استعمارا) وفي الثانية سيتبدى الغرب بمثابته (امبريالية).
– المنظومة الشمولية الإسلامية: حيث أن البعث الذي فقد فعالية التعبئة والشحن الايديولوجي في صناعة العدو القومي والطبقي ، سيلجأ لاحقا إلى المنظومة الشمولية للإسلام: (الجهادي والتكفيري) ليضيفها إلى ترسيمته الفكرية في صناعة صورة العدو الضروري دائما لقمع أية معارضة ديموقراطية داخلية، هذه الإضافة ستبدو ضرورية كتعويض عن فتو رقوة الدفع للشموليتين السابقتين: القومية العنصرية والاشتراكية الستالينية ، ليكتسب الغرب(العالم) بعدا جديدا للعداوة والكراهية، حيث سيتمثل البعد الإسلاموي الشمولي التكفيري الجديد في صيغة الغرب: (الصليبي- الكافر- دار الحرب)، وهكذا سيغدو لدينا مركب ثقافي عدواني هائل في درجة امتلائه بثقافة الكراهية نحو الآخر في صورة الغرب الذي ستصبح له صفات ثلاث: استعمار قومي – امبريالية طبقية- عدو ديني صليبي كافر ليس بيننا وبينه سوى الحرب ، وهذا ما يفسر موقف الحركات الاسلامية في دعمها للنظامين البعثيين في العراق سابقا وسوريا لاحقا في صيغة (المؤتمر القومي الإسلامي) ، وهذا ما يؤكد كذبة تهديد النظام السوري بأن بديله هو الأصولية في حين أن حلفاءه اليوم هو كل الأصوليات القومية والإسلامية)
وإذا كان الغرب يمثل عبر ثلاثة قرون المنظومة الليبرالية الديموقراطية ، حيث حريات التعبير والتفكير تنهض فيه انطلاقا من مبدأ الاعتراف بذات الفرد بوصفها نواة أي نظرة للجماعة، عندها فإن هذه المفاهيم الديموقراطية ستشكل العدو الأكبر للايديولوجيا البعثية: ( قوميا وطبقيا ودينيا)، ولذلك فهي تبدأ حربها الضروس ضد مبادئ الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان في بلادها، أي محاربة أي مظهر من مظاهر حضور الغرب الليبرالي الديموقراطي التعددي في النسيج الثقافي والسياسي لمجتمعاتها، وهي إذ تمارس هذا التطهير (العرقي) الثقافي الايديولوجي عبر تنمية (ثقافة الكراهية) فإنما هي تقوم بحرب تعويضية عن هزائمها السياسية والثقافية والحضارية أمام حداثة الغرب الذي راح منذ قرون يتحول إلى حاضرة كونية…
– المنظومة الشمولية الطائفية: كان لابد للنظام الشمولي القومي الذي لا يعترف بالدولة الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة الحقوقية الديموقراطية، من أن يحل مبدأ العقائدية الحزبية والعسكرية والطبقية الاشتراكية محل مبدأ المواطنة المؤسس لمفهوم دولة القانون الحديثة، فكان لابد أن تحل الجزئية الحزبية محل الكلية الوطنية، والجزئية الريفية والطائفية (طبقيا) محل الكلية المجتمعية (وطنيا)، وباسم هذه المنظومة تم تطهير الجيش السوري وقوى الأمن من أبناء المدينة (البورجوازية) ليغدو جيشا عقائديا، فأصبح جيشا طائفيا لم يعد يخوض سوى معارك الداخل ضد الشعب السوري وضد الجوار اللبناني والفلسطيني وكل من لا ينصاع لسياساته التسلطية ومشاريع إمساكه كل الخيوط الإقليمية في المنطقة وذلك بالتعاون والتنسيق مع اسرائيل التي تدعمها الولايات المتحدة دعما مطلقا، ولذلك فإن أي مشروع ديموقراطي جدي في المنطقة يجب أن يبدأ بموقف امريكي حاسم إلى جانب الشعب السوري والعربي لفك هذا الارتباط والتحالف السري بين النظام السوري والإسرائيلي في محاربة طموحات شعوبنا للتحرر والانعتاق من الديكتاتوريات، وذلك من خلال تواطئهما تحت صيغة: ضمان أمن النظام مقابل التخلي عن السيادة السورية على الجولان، ومن ثم ضمان عدم اقلاق الاحتلال الإسرائيلي عبر منع الشعب السوري من امتلاك سيادته الدستورية والوطنية على أراضيه، لأن اليمين الاسرائيلي المتطرف يعتبر أن مكسب الديموقراطية العالمي والإنساني ينبغي أن يبقى امتيازا إسرائيليا يتيح لها التفوق الدائم على محيطها العربي المتخلف ومنع شعوبنا دون هذا الخيار لضمان تفوقها الدائم أبدا…
إن المنظومة الشمولية الطائفية هي الوجه التفتيتي الآخر للكلية (القوموية) الشمولية التي ترفض مفهوم المواطنة إذ تحفر تحت مفهوم الدولة الوطنية أو تسبح في سديم ما فوق الدولة، وهي في استنادها إلى هذا المنظور إنما تفعّل الصراعات المذهبية مع حليفها الإيراني بحثا عن قواعد طائفية يستند إليها في حماية بقائه بعد أن غدا عبئا على الوطن والمجتمع الوطني والعربي والدولي، بل وعلى طائفته ذاتها التي يدفعها إلى تحالفاته الطائفية مع نظام ولاية الفقيه في إيران ولبنان، لزج الطائفة الشيعية في لبنان بمعركة لتحقيق رغباته في الفرارمن العدالة الدولية (المحكمة الدولية:واغتيال الحريري)، والمطامح الإقليمية الإيرانية، عندما أوعز للطائفة الشيعية ممثلة بحزب الله في احتلاله الطائفي لبيروت، وكما يفعل في سوريا من خلال تخويف طائفته (العلوية) الكريمة من محيطها الوطني، ومحاولته لربط مصيرها مع مصيره الآيل للسقوط الحتمي لما راح يتبدى عنه من سلوك شاذ وإستثنائي في نادي المجتمع الدولي، إذن يسعى النظام لربط مصير طائفته بمصيره المشؤوم، بالضد من وحدة مصيرها الوطني مع أهلها ومجتمعها وشعبها من الطوائف الأخرى…!
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري- باريس