ما العلاقة بين “المصالحة” وقيادة السيّارات في السعودية؟ لا شيء، وكل شيء تقريباً.
يمكن لمَنْ شاء، طبعاً، التدليل عل بطلان المقارنة. ويمكن لمّنْ شاء العثور في بلورة سحرية على صلة من نوع ما. من جانبي أرى أن الأمرين، قبل كل شيء آخر، ومع كل شيء آخر، يتجليان في سردية (narrative) متعددة المعاني والطبقات، يتسابق لاعبون كثيرون على احتكارها، وعلى الحق في تأويلها، ولكنها ذات حياة مُستقلة، ويمكن للزمن أن يضيف إلى معانيها المختلفة، أو يطرد منها، ما غيّبته المصلحة، أو فرضته، في وقت مضى.
ففي السعودية، مثلاً، أفرج أمر ملكي عن حق النساء في قيادة السيّارات. هذا حدث وقع في مكان وزمان محددين. وما يثيره، ككل حدث آخر، من تصوّرات، أو يستدعي من أفكار، يجد تجلياته المحتملة، العاجلة والآجلة، في كلام يحكي حكاية. الحكاية سرد، والسرد نظام المعنى، الذي تصطرع فيه وعليه سياسات ورهانات الحقيقة، والمعرفة، والقوّة.
ولو افترضنا أن كائناً فضائياً علّق على الحدث، فلن يخلو تعليقه من: أن السعودية الوحيدة في العالم التي تنكر على النساء الحق في قيادة السيارات. وأنها تفعل ذلك بتأويلات دينية. وأن إنكار الحق، كما تأويله، جوبه على مدار عقود باستهجان، صامت وناطق، في أربعة أركان الأرض، كما جوبه بتحديات في الداخل السعودي فرضها نشوء طبقة وسطى حديثة ومتنوّرة أصبح الثوب السياسي والديني للدولة القائمة ضيّقاً عليها.
ومن تضافر كل ما تقدّم ـ يضيف الكائن الفضائي ـ مع محاولة تصعيد جيل جديد إلى سدة الحكم هناك، أصبحت الدولة معنية بتحسين صورتها في الخارج، واسترضاء جانب من مواطنيها في الداخل. والملاحظ في حال الإباحة، كما المنع، أن الدولة مكّنت المؤسسة الدينية من القيام بدور المُحلل.
ولكن، لا يفكر أحد من الناس العاديين، خاصة في مكان وزمان الحدث، على طريقة الكائنات الفضائية. ففي مخيال هؤلاء، وعلاقاتهم الشخصية والرمزية بالحدث ما يحرّض على استدراج دلالات بعينها. لذا، شعرت نساء في السعودية، كما شعر مناصرون، أنهن انتصرن، وأن كفاحهن أثمر، وأن الدولة رضخت.
مثلاً، عقّبت ناشطة سعودية بالقول: “الناشطات ساعدن على رفع وعي المجتمع، ولم يستسلمن للمألوف”. وكتب عبد الله الغذامي، المحسوب على “الليبراليين”: “شكرا لبناتنا ممن ناضلن بحق من أجل حق نضالا وطنيا وعقلانيا ومخلصا للوطن”. وهذا، بالذات، ما أثار حفيظة أحد أمراء العائلة الحاكمة، الذي انخرط في سجالات مع أشخاص راودتهم شطحات خطيرة كهذه. لم يعجبه أن النساء لم يستسلمن، واستفزته حكاية النضال.
ففي رده على الأولى أنكر دور الناشطات، بل وألقى على عاتقهن مسؤولية التأخير: “الطريقة التي تعاملت بها بعض الناشطات .. استفزت المجتمع مما أدى لتأخر القرار”. وفي رده على الغذامي عزز الفكرة نفسها بالقول إن “من ناضلن بحق من أجل حق نضالا وطنيا وعقلانيا لسن المعنيات بتغريدات”. ومن الواضح أن حكاية النضال حرّضته على رد على ناشطة ثانية لتذكيرها “بحقائق” من نوع أن: “نضالك العظيم ما له دور”، (استخدم كلمة العظيم على سبيل السخرية) وزاد: “هذه البلاد وحكومتها لا تسيرها ضغوطات تيارات وناشطات”.
لا يمثل أطراف السجال، هنا، انفسهم بطريقة حصرية، بل يعبّرون عن اتجاهات داخل المجتمع والسلطة على حد سواء. لذا، نعثر في هذا كله على خط التماس الساخن في سردية النساء وقيادة السيارات. فالسلطة البطريركية رضخت، لكنها ترفض الاعتراف، وتمقت بشكل خاص مفردات من فصيلة “النضال”. فالمفردة، بما يُشتق منها وما يتوّلد عنها من دلالات، تعني اعترافاً ضمنياً بحق المواطنين في ممارسة الضغط على السلطة لتغيير مواقفها. ففي أمر كهذا ما يعني تحوّلا في علاقات القوة من ولي أمر ورعيّة، إلى حاكم وموطنين.
وفي السردية المذكورة يلوح، من بعيد، خط إضافي للتماس: إذا كانت السلطة البطريركية قد غطّت ظهرها في زمن المنع بمسوّغات دينية، فهي تتغطى في زمن الإباحة بالمسوّغات نفسها. بمعنى أن المسوّغ الديني يمكن أن يُحرّم أو أن يحلل الشيء نفسه، إذا كان في هذا أو ذاك ما يُشبع حاجات السلطة.
بمعنى آخر، سردية النساء والسيارات ساحة صراع بين تأويلات مختلفة، ومرآة لموازين القوى المادية والرمزية. والأهم من هذا وذاك أنها أصبحت ذات حياة مستقلة الآن. وإذا حاول شخص في يوم ما التأريخ للتحوّل الراديكالي في بنية الحكم في تلك البلاد، فلن يتمكن من ذلك ما لم يعد بالذاكرة إلى ما وقع على خطوط التماس في سردية حاسمة، تتخلّق الآن، من مجابهات.
لم يبق الكثير من المساحة للكلام عن سردية “المصالحة”. ولكن فهمنا مما تقدّم معنى وطريقة عمل أشياء كهذه، وما تفتح من خطوط للتماس، ويحتدم فيها وعليها من صراعات. والسؤال الأهم: ما هي سردية “المصالحة” ممن تتكوّن، وعلى ماذا تقوم من مرافعات، وماذا تحتمل من تأويلات؟ وماذا تفتح وينفتح فيها من خطوط التماس. “حماس” نزلت عن الشجرة العالية، بعد خراب مالطا.
ثمة ما يفيض عن الحاجة من تصريحات وبيانات تتجلى فيها سياسات، ورهانات الحقيقة، والمعرفة، والقوّة، ويمكن اختزالها في سردية عامة تعيش سيولة وفوضى هائلة. ومع ذلك، يبدو فيها ومنها، أن نجاح “المصالحة” مشروط بفقدان الذاكرة، وتفادي الاقتراب من خطوط التماس. وفي هذا ما يبرر أكثر من عودة إلى، وجولة على، خطوط التماس.
khaderhas1@hotmail.com