ود كثير من الكمبوديين، ممن تعرضوا لإنتهاك كراماتهم وحقوقهم بأبشع الصور أو تعرض أقاربهم للقمع الوحشي على يد نظام الخمير الخمير الذي حكم كمبوديا ما بين 1975 و 197 لو أن العمر إمتد بهم ليروا زعماء ذلك النظام المتوحش خلف القضبان أو معلقين على أعواد المشانق. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهم. فالإجراءات البيروقراطية، معطوفة على مخاوف بعض القوى الإقليمية والعالمية من إفتضاح مؤامراتها في كمبوديا فيما لو فتحت كل ملفات الماضي أمام القضاء الدولي، حالت دون محاكمة رموز وقادة الخمير الحمر في الوقت المناسب، الأمر الذي فوّت على العالم معرفة كل حقائق وأسرار تلك الحقبة الدموية القبيحة في تاريخ كمبوديا. فبمقتل زعيم الخمير الأكبر الجزار “بول بوت” على يد رفاقه، ثم وفاة رفيقه الأعرج “تا موك” لاحقا، لم يبق على قيد الحياة سوى حفنة صغيرة من الذين لعبوا دورا ما في أعمال الإبادة الجماعية أو مارسوا القتل والتعذيب والتجويع والإغتصاب داخل ما عـُرف بإسم “حقول الموت”.
هذه الحفنة الصغيرة التي يتقدمها أربع رجال وإمرأة واحدة وهم: المنظر الإيديولوجي لنظام الخمير الحمر “نيون تشيا”(84 عاما) ، ووزير خارجية النظام “يينغ ساري”(85 عاما)، وزوجة الأخير/ وزيرة الشون الإجتماعية “يينغ تريت”(79 عاما)، ورئيس جمهورية الخمير “خيو سامفان”(79 عاما) هم الذين بدأت محاكمتهم في السابع والعشرين من الشهر الماضي أمام محكمة دولية مستقلة مدعومة من الأمم المتحدة.
ومن المنتظر أن تستمر هذه المحاكمات لمدة طويلة بسبب تعقيدات الجرائم المرتكبة ووحشيتها، ووفاة الكثير من شهود الإثبات، ناهيك عن إستمرار وجود خلافات وجدل حول المسائل الإجرائية، وتولي محام فرنسي بارع ذي صيت عالمي في تبرئة مجرمي الحروب (جاك فيرغيس) مهمة الدفاع عن المجرمين المذكورين. والجدير بالذكر أن محاكمة أجريت في يوليو 2010 لمجرم من مجرمي الخمير ممن كانوا قيد الإعتقال وهو القائد المعروف بإسم “دوتش” فحــُكم عليه بالسجن لمدة 30 عاما فقط. وتلك المحاكمة ، كما هو الحال في المحاكمة الحالية، لم تشد إنتباه الكثير من الكمبوديين لسبب بسيط هو أن 50 بالمئة من الشعب الكمبودي هم من فئة الشباب التي ولدت في حقبة ما بعد إنهيار نظام “بول بوت”، وبالتالي لم تر أهواله ولم تتجرع مراراته.
ولعل من أكثر الأمور تعقيدا في المحاكمات الجارية، والتي وصفت بأنها الأكثر إثارة منذ محاكمات نورمبورغ بحق زعماء النازية، هو إرتباط الكثيرين من رموز النظام الحالي في فنوم بنه بحقبة الخمير قبل إنشقاقهم عن الأخير وإسباغ صفة “دعاة الديمقراطية والسلام” على أنفسهم. بل أن رأس النظام الحالي رئيس الحكومة “هون سين” نفسه كان ضمن قادة حركة الخمير الحمر يوما ما، ويتخوف اليوم من إحتمالات أن تــُفتح ملفاته ويــُكشف عن دوره في جرائم الماضي، بدليل إنتقاداته في أكتوبر الماضي لأمين العام الأمم المتحدة “بانك كي مون” على خلفية تحمس الأخير للإسراع في محاكمة قادة الخمير الأحياء قبل أن يختطفهم الموت، ناهيك عن دعوة وزراء في الحكومة الكمبودية الحالية للمجتمع الدولي بضرورة إغلاق ملف الخمير نهائيا، والكف عن التدخل في الشئون الداخلية الكمبودية.
وفي دفاعه عن موقفه المذكور، يرى “هون سين” أن فتح ملفات الماضي قد يشعل الغضب في مناطق معينة من البلاد من تلك التي دانت بالولاء للخمير الحمر لأسباب عرقية او عائلية أو مصلحية، وبالتالي قد تدخل كمبوديا مرة أخرى في نفق اللاإستقرار.
على أن “هون سين” ليس وحده المتخوف مما قد تكشف عنه المحاكمات الجارية من أسرار حقبة الخمير الحمر السوداء أو في الحقب السابقة أو التالية لها مباشرة. فهناك ، كما أسلفنا، دول لعبت أدوارا مختلفة سواء لجهة توفير المبررات للخمير للقفز إلى السلطة في فنوم بنه كما فعلت الولايات المتحدة، أو لجهة دعمهم للبقاء في السلطة كما فعلت الصين، أو لجهة دعهم من أجل إستمرارهم في حروب العصابات بعد خسارتهم للسلطة كما فعلتا تايلاند ولاوس. وهناك أيضا شخصيات ملكية تثار حولها الأقاويل لتعاونها مع الخمير أو السكوت على جرائمهم أو عدم التنديد صراحة بهم. وفي مقدمة هؤلاء الأمير سيهانوك الذي ترك بلاده ولجأ إلى الصين إحتجاجا على قيام فيتنام بإسقاط نظام الخمير، رغم ما ألحقه الأخير به وبالأسرة المالكة من إهانات وإذلال.
فإذا ما أجرينا قراء سريعة في تاريخ الخمير الحمر، نجد أن هذا الإسم إختاره “الحزب الشيوعي الكمبودي” لنفسه، من بعد أن حدد أهدافه البعيدة المتمثلة في إحداث ثورة جذرية على النمط الماوي في المجتمع الكمبودي لتطهيره من البرجوازيين والإقطاعيين وأنصارهم من المثقفين والتكنوقراط ، وهو ما أدى، بمجرد وصول الحزب إلى السلطة في عام 1975 ، إلى قيامه بعملية إبادة جماعية حصدت نحو مليوني نسمة، ناهيك عن تهجير مئات الآلاف من الكمبوديين الأبرياء إلى الأرياف البعيدة من أجل إعادة تأهيلهم على غرار ما فعله ماو في ثورته الثقافية المجنونة في ستينات القرن المنصرم.
والمعروف أن جرائم الخمير الحمر لم تنته بفقدانهم السلطة في فنوم بنه بعد عام من التدخل العسكري الفيتنامي في ديسمبر 1978. حيث لجأ قادة الخمير وأتباعهم إلى المناطق النائية المتاخمة للحدود مع تايلاند، حيث شكلوا ميليشيات مسلحة تحت إسم “الجيش الوطني لكمبوتشيا الديمقراطية” لمشاغبة الحكومة الجديدة. ورغم أن هذه الميليشيات أصيبت بنكسة بوقوع موقعها الحصين في مقاطعة “آن لونغ فينغ” في أيدي القوات الحكومية، فإنه لا هذه النكسة ولا نكسة مقتل الرفيق رقم 1 “بول بوت” في إبريل 1998 خففت من حماقاتهم أو أوقفت مخططاتهم الوحشية الهادفة إلى خلق “مجتمع الطهر الثوري”. تلك المخططات التي لم تستثن أحدا من القتل والتعذيب والتجويع والإغتصاب، ولاسيما من أطلق عليهم أنصار الإقتصاد الحر والليبرالية الغربية من المثقفين والفنانين والأكاديميين والإعلاميين. بل أن تلك المخططات شملت ايضا فصل الأطفال بالقوة عن أسرهم، وإرسالهم إلى مراكز للتمرن على القتل والتعذيب بإستخدام الحيوانات الداجنة، وهو الأمر الذي وصفه أحد المراقبين بـ “أحد أبشع أساليب التوحش عند الخمير الحمر”. لكن هناك عمل أبشع – من وجهة نظري – إرتكبه الخمير وهو ما فعلوه من منطلق تحقيق الإكتفاء الذاتي. حيث كانوا لا يعالجون المرضى والجرحى والمصابين بحجة عدم وجود أدوية أو وسائل طبية من صناعة محلية.
ونختتم بالقول أن تاريخ الحركة الشيوعية الكمبودية التي أفرزت هذه الجماعة الإجرامية مر بست مراحل هي:
• مرحلة التأسيس كحزب شيوعي لعموم الهند الصينية في عام 1920 ، حيث كان معظم أعضاء الحزب من الفيتناميين بقيادة “هوشي منه”
• مرحلة الإنفصال وتأسيس الحزب الشيوعي الكمبودي بعد تحرر الهند الصينية من الإستعمار الفرنسي، وبعد تضاءل تأثير ونفوذ شيوعيي كمبوديا على الجماعات الشيوعية الأخرى في الهند الصينية
• مرحلة تغيير الإسم إلى “الحزب الثوري الشعبي للخمير الحمر” وسيطرة “بول بوت” ورفاقه العائدين من الدراسة في فرنسا على قيادته إبتداء من عام 1960، وتوليه تقديم الدعم لقوات “فييت منه” التي كانت تقاتل الأمريكيين في فيتنام الجنوبية.
• مرحلة النضال ضد نظام “لون نول” المدعوم إمريكيا، إلى أن تمت الإطاحة به في إبريل 1975 .
• مرحلة توليه السلطة ما بين 1975 و 1979 .
• مرحلة خسارته للسلطة على يد قوات الفيتنامية الغازية، وتحوله إلى ميليشيات تقاتل الأخيرة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh