منذ عقود والنساء العربيات يتجاوبن مع تلك الثورة الكونية الصامتة، والمتمثلة بخروج الغالبية العظمى من أخواتهن نساء الارض من مكانهن الخاص، من بيتهن، حرمتهن… الى خارجه، ذاك المكان الذي احتكره الرجال لآلاف من السنين. تجاوبن بقدر استطاعتهن، بقدر ما كانت مجتمعاتهن تتيح لهن من سُبُل. كان يصلهن رذاذ من هذه الثورة. وهذا الرذاذ، هذا القليل، أصعدهن الى خشبة المشهد العام، في الخريطة الاجتماعية اذا جاز التعبير. فصرتَ تراهن اينما كان، في الادارات في الشارع، في الاعلام، في السياسة، في الرواية، في مجمل عالم صناعة المعاني… ولكن ضآلة ما وصلهن من رذاذ هذه الثورة الصامتة، وتواضع درجة تجاوبهن معها، جعلهن في أسفل سلّم معايير هذه الثورة. فقياسا الى نساء الارض، هن الأقل تحصيلا لحقوقهن التي تمليها ثورتهن، الأقل حرية، الأقل مشاركة في الدفاع عن مصالحهن ومصالح مجتمعاتهن. كن في المرتبة ما قبل الاخيرة. افريقيات بلدان ما بعد الصحراء الكبرى وحدهن تفوقن عليهن بحجم الظلم والإغفال اللذين يتعرضن له.
أضف الى ذلك، أو ربما بسبب كل ذلك، كانت ردة فعل الرجال العرب على بلوغ هذا الرذاذ القليل ديارهم المحمية: ردة فعل عنيفة ومرعوبة، وفي افضل الاحوال مهمِلة، أو مشفِقة، مستخّفة، ودائما بالكثير من السخرية الصفراء. عموم الرجال العرب، الليبرايين من بينهم، ذوي اللسان المعسول والمدرب والفعل النقيض. ومعهم، بداهة، التقليديون، من زمنيين ودينيين، الذين رأوا في هذه الثورة الصامتة والبطيئة تهديدا لامتيازات يعتقدون بأن الله أو القدر وهبهم اياها. ما جعل التنصّل من النسوية طقسا ميكانيكيا، تمارسه النساء المتعلمات، ونساء ذوات شأن، وذلك طَلبا للاحترامية والمهابة الاجتماعيَين.
لم نكن في أفضل الاحوال عندما اندلعت الثورة الاخيرة…
ثم جاءت الثورات… واشتركت بها النساء كما لم يسبق ان اشتركن. وكان متوقعا لهذه الثورة ان يليها، كما إثر كل ثورة، صراع على السلطة. أي الى استبعاد النساء الاوتوماتيكي عن مجريات ما بعد الثورة. اذ لا يرتقي الى مستوى طرف من أطراف هذا الصراع على السلطة الا من تمرّس عليه طويلا، سواء كان مواليا أو معارضا للسلطة القديمة. والنساء، مثل ثوار التحرير، لا عهد لهن بالسياسة وأحابيلها ومهاراتها. هذا اول تحدّ كان يُفترض ان تواجهه النساء. أما الثاني، فهو صعود الاسلامية السياسية، المالكة لجماهير ووجوه وشخصيات كلها نسائية، ولكنها القادرة في الوقت عينه ان تعيد النساء الى حظيرة الماضي. الاسلاميون، وقبل ان يتمكنوا من السلطة، لمجرد انهم يشعرون بأنهم السادة المقبلون، باشروا اولى غزواتهم اللسانية الاعلامية ضد النساء. النقاب عنوانهم الأسمى، يليه الفصل الصارم بين الجنسين، في كل الاماكن. هذه أولى إشاراتهم وأوضحها. خلف الشعارين يمكنك ان تستنبط المتبقي، وتجده في كل ادبياتهم. وجلّه ثورة مضادة ضد الثورة النسوية الصامتة، تحت عنوان الأصالة والدين القويم.
الخيارات قليلة، تلك المتاحة امام النساء المدركات لهذا التحدّي الثاني الأخطر. دع عنك هلع اللحظات الاولى، والصدمة والقرف والسلبية امام هذه التطورات الدراماتيكية، مع انها كانت متوقعة. دع عنك ايضا حفلات التعري التي دشنتها المدونة المصرية علياء المهدي، وهدفها خلق صدمة مضادة، او ربما مجرد شهرة وذيوع. فهي لم تفعل غير إضعاف مسألة النساء وجرّها الى مزيد من الضياع.
من ضمن الردود السريعة ايضا على هذا التحدّي، فكرة جديدة قديمة، كانت الدكتورة نوال السعداوي واحدة من رائداتها: فكرة إنشاء حزب نسائي نسوي، «سياسي»، ويكون «برنامجه واهدافه وتركيزه على ادوار النساء في صنع القرار»، «أحزاب نسوية تخوض الانتخابات وتطالب بـ«كوتا» الـ30%». وتضيف الفكرة ان هذا الحزب، الذي تسميه حزب «نساء الحداثة»، قد يتواجه مع حزب آخر مشكل من «نساء التقليد». «فليكن» تختم. انه «صراع ديموقراطي«…
فكرة إنشاء حزب نسائي يشوبها عيبان: انها تختصر قضايا المرأة في مسألة المشاركة السياسية، وتعود فتختصر هذه المسشاركة بالصراع على «مراكز بلوغ القرار»، أي النيابة أو الوزارة أو الرئاسة. انها الفكرة النخبوية المعهودة، والتي لم تلقَ تجاوبا شعبيا بسبب إنشغالها بالصراع على السلطة في الأعالي، ولو «ديموقراطيا«… صراع يتعالى على ما يهم ويطال جموع النساء من صحة وعمل واولاد وقوانين شخصية مجحفة… الخ.
ولكن المدهش في هذه الفكرة، وهذا عيبها الثاني، انها لا تختلف عن الفكرة الاخوانية حول هذه المشاركة. في صحيفة حزب الاخوان، كتب أحد «منظّريهم»، الدكتور عبد الرحمن البر: «لا مانع من ترشح المرأة للانتخابات النيابية وخروجها للتصويت مع ضرورة التزامها بالضوابط الشرعية، خصوصا ان هذا الترشح يضع المرأة المسلمة في معركة تواجه فيها النساء غير الاسلاميات». فيما «المطلب الملح« بالنسبة له هو ان تحمل المرأة الاسلامية «المشروع الاسلامي الى ساحة مواجهة نساء يحملن مشروعا يعمل على افساد المجتمع».
ان الفكرتين، الحزب النسائي «الحداثي» والحزب النسائي «الديني، التقليدي»، تنبثقان من ديناميكية واحدة، هي حسابات فئوية منصبّة على خوض صراع من اجل السلطة. في الفكرة الاولى القول واضح، نخبوي الطابع، وفي الثاني الفعل أوضح، شعبوي التوجه. لكن الاهم في عيوب هذه الفكرة، ليس فقط انها تفرّق ولا تجمع، تذرّر «المعسكرين« الاسلامي وغير الاسلامي، إنما عيبها الاساسي انها تفوت علينا جميعا فرصين قدّمهما الاسلاميون على طبق من فضة:
الفرصة الاولى هي ان الاسلاميين، في خضم استعجالهم «ضبْضبة« النساء، اطاحوا في طريقهم، او هم في طريقهم الى الاطاحة، بمسألة الاقليات الدينية والعقيدية، وبكل اشكال الحريات الفردية والعامة، الثقافية والفنية والمعيوشة… على حدّ سواء. أي انهم، فوق انهم ركبوا على اكتاف ثورة، طعنوا بالطاقة الفكرية التي أطاحت الديكتاتور، فكرة حقوق الانسان الكونية، وحقوق النساء من جوهرها، (وليس فقط «من ضمنها»). وهم بذلك اوجدوا جبهة واسعة من المعترضين على توجهاتهم، النساء من بينهم هن مقدمة المدفع، هن الجندي الامامي. ولكن الرجال ايضا، ليس المتعلمون من بينهم فقط، أو «المتنورون» أو «الذين رأوا بلدانا اخرى»…. بل كل الرجال الذين يشعرون بالإعصار القادم الخانق للحريات. وهم لا يحتاجون الى غير من يعطي المعنى الصادق لهذا الاختناق. فبدل تفتيت جبهة النساء، والرجال أيضا، لدى النساء مجال واسع من التفكير والمبادرة الى صياغة استراتيجيات جديدة، تضم كل من ينال منه هذا الإعصار.
أما الفرصة الثانية، فهي تلك التي يتيحها لنا الاسلاميون بإعادة التفكير بقواعد تفكيرنا الحداثي. الصراع الآن الذي نحن مجبرات على خوضه رغما عنا هو ذاك الذي يتواجه فيه التقليد مع الحداثة. هذه العناوين للصراع هي مجال أول للتفكير، أو درجته الاولى اذا جاز التعبير: لا المنظر الاخواني ولا الداعية الى اقامة الحزب النسائي يصفان واقعا قائما. الحداثة والتقليد متداخلان، ليس فقط في الانساق الثقافية والفكرية والسلوكية لغالبيتنا العظمى، وان بدرجات متفاوتة. فالذي أصاب المرأة الاسلامية من الحداثة هو تقريبا ما اصاب المرأة غير الاسلامية من التقليد. المجال الثاني للتفكير هو ان الحداثة نفسها عرضة للشوائب، وبالتالي للنقد والمراجعة. ورذاذ نتوءاتها بلغ ديارنا ايضا، واندماج في بيئتنا المحلية، ووسم شخصياتنا ونمط حداثتنا الاولى. لذلك، لا يمكننا ان نكون حداثيين الآن من دون ان نكون ما بعد حداثيين، أي آخذين بعين الاعتبار عيوب الحداثة وتسميتها وصياغة نقد جذري بحقها. والا فان فراغا سوف يحصل في هذا المجال يملأه الاسلام السياسي من دون عناء «الديموقراطية» وأهوالها.
طبعا كل هذا الجهد مضنٍ ويرغم على إعادة النظر باشياء كثيرة. ولكنه فرصة لصياغة نسوية متأصلة بتجارب حقيقية، لا بمجرد أفكار غائمة أو ثقافة سطحية أو لسان ركيك أو شهرة فارغة المضمون. الخوض بهذا الجهد هو بمثابة الوفاء لفكرة الثورة الاولى التي رفعها كل النازلين الى ساحات الربيع العربي….. فكرة الحرية.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
“نوافذ” المستقبل