من خلال القفز على الحبل المشدود، يمسك فلاديمير بوتين بالورقة السورية بشكل عام، مع مراعاة مصالح إسرائيل وطمأنة إيران ومنظومة بشار الأسد، بالإضافة إلى الضغط على تركيا، ومحاولة عدم قطع الجسور مع الدول العربية في الخليج.
تتسارع التطورات إبان الشهور الصعبة في النزاع السوري، وتُسلط الأضواء الإعلامية على معركة منبج تمهيدا لمعركة الرقة. لكن الوقائع السياسية، هذا الأسبوع، وأبرزها زيارة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو، والاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع الروسي والإيراني والسوري في طهران، تعتبر فائقة الأهمية لأنها تكشف عن القفز الروسي على الحبل المشدود في الساحة السورية ما بين أطراف يفتـرض أنهـا متخاصمة، وكل ذلك تحت سقـف تنسيق جـون كيري – سيـرجي لافروف.
هل يستفيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (لاعب الجودو) من نهاية ولاية باراك أوباما كي تكسب استراتيجيته الملتبسة بالنقاط ويزهو عندها القيصر الجديد بغنيمته السورية؟ أم تبرز الاستحالة لأن تبديد شبح تنظيم داعش سيضع الكل أمام مسؤولياتهم وعندها يتضح من يريد الحل السياسي فعليا، ومن يناور للاحتفاظ بالسلطة أو للإمعان في الاهتراء والتفتيت، وصولا إلى إعادة تركيب الإقليم في فترة لاحقة؟
قبل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى موسكو (ثالث زيارة له إلى روسيا منذ سبتمبر 2015) قام الكرملين بخطوة رمزية تمثلت في إعادة دبابة إسرائيلية شاركت في معركة السلطان يعقوب، التي وقعت خلال حرب لبنان في العام 1982. ويبدو أن إعادة “الغنيمة السورية” من المعركة إلى إسرائيل تأتي في إطار تحسين العلاقات بين روسيا وإسرائيل، خصوصا بعد الدخول الروسي المباشر للحرب السورية. وبالفعل، أعلن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف “أن زيارات نتنياهو المتكررة إلى موسكو هي ثمرة لعلاقات الثقة القائمة”. ولم يقتصر الأمر على التعبير عن مخاوف الجانبين وطمأنة أحدهما الآخر، ولا على التعاون في مجالي الزراعة والتكنولوجيا المتقدمة، بل تعداه إلى تنسيق استراتيجي لتفادي الصدام، كما بالنسبة إلى موقع حزب الله في سوريا وتسليحه، أو كما في نزاع أذربيجان – أرمينيا ونقاط تعارض أخرى منها بيع السلاح الإسرائيلي لجورجيا وأوكرانيا وأذربيجان، وبيع السـلاح الروسي إلى إيران.
لا بد للمراقب أن يلاحظ أن غياب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن مؤتمر باريس حول الشرق الأوسط في 3 يونيو، واكتفاء موسكو بإيفاد ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ونائب وزير الخارجية الروسي، وهذا يعطي دليلا إضافيا على رغبة موسكو في تجنب أي إزعـاج أو نقـد محدود لإسـرائيل في الملـف مع الجـانب الفلسطيني. وهكذا تبدو العـلاقة الروسية – الإسرائيلية متينة ومستندة إلى مصالح متبادلة كثيرة ووجود ديموغرافي هام لليهود مـن أصل روسي في إسرائيل. وهكذا لم يكن عبثـا وصف أرييل شارون يوما لفلاديمير بوتين بـأنه صديق إسرائيل الكبير. بالطبع تبقـى إسرائيـل مقيـدة بتبعيـة استراتيجية إزاء واشنطن، لكن بالرغم من تدهور العلاقة الشخصية بين أوبامـا ونتنياهو، هـناك قراءة إسرائيلية تركز على أنه أيا كان الرئيس الأميركي الجديد، لن تعود واشنطن بزخم إلى الشرق الأوسط، وأنه لا بد من التعامل مع اللاعب الـروسي بصفته من القوى الدولية المؤثرة في الجوار الإسرائيلي. وبحسب مصادر روسيـة فـإن تفاهـم بوتين ونتنيـاهو على عدم التركيز على مصير الرئيس السوري لأنـه “ليس من أولويات إسرائيل”، بل كان الأهم، بحسب هذه المصادر، هو “التعهد باحتـرام المصـالح الأمنية الإسرائيلية”، مقابل دعم إسرائيل لاستمرار تسليم واشنطن بالدور الروسي القيادي في الملف السوري.
والملفت للنظر أن تتزامن نهاية الزيارة الإسرائيلية إلى مـوسكو مع استضافة طهران لاجتماع رفيع المستوى بين وزراء دفاع روسيا وإيران وسوريا من “أجل تنسيق المعركة ضد داعش”، كان هذا في ظاهر الأمر حتى لا تربح واشنطن قصب السباق نحو الرقة، لكن في حقيقة الأمر كان ذلك بغاية دراسة تنسيق المواقف بخصوص وقـف الأعمال العدائية وإطلاق النار بعد بروز مواقف روسية رفضت في الأسابيع الماضية مجاراة إيران والنظام السوري في التصعيد حتى لا يسقـط التفاهم مع واشنطن.
كان هناك عتب متبـادل في طهـران (نتيجة التنسيق الروسي – الإسرائيلي يطرح البعض في طهران والضاحية الجنوبية لبيروت تساؤلات عن اختراقات في اغتيال مصطفى بدرالدين القائد العسكري والأمني في حزب الله) نتيجة الخسائر الكبرى في معارك جنوب حلب، لكن ذلك ترافق مع مسعى إيراني لانتزاع وعود من روسيا للقيام بعمليـات مشتركة واسعة تهدف إلى إسقـاط كل الشمـال السوري، ودفـن الحراك الثوري السوري وتعويم النظام، من خلال استغـلال تركيز واشنطن الحصري على الحرب ضد داعش وعلى قرب دخول الإدارة الأميركية “مرحلة البطة العرجاء”.
من خلال القفز على الحبل المشدود، يمسك فلاديمير بوتين بالورقة السورية بشكل عام، مع مراعاة لمصالح إسرائيل وطمأنة إيران ومنظومة بشار الأسد، إضافة إلى الضغط على تركيا، ومحاولة عدم قطع الجسور مع الدول العربية في الخليج.
يرتبط نجاح التوجهات الروسية بالقدرة على عـدم “استفزاز واشنطن” في حال توسيع العمليـات العسكـرية، خاصـة أن جون كيـري يربط اسمه بمحاولة إنقـاذ المسار السلمي حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة.
تأمل واشنطن، كمـا باريس ولنـدن وبرلين، في أن تلتزم موسكو بما وقعت عليه في فيينا في شهر مايو الماضي، حول بدء الحكم الانتقالي في سوريا في الأول من أغسطـس القـادم. لكن من يسمع خطـاب الأسد الأخير ومجريات اجتماع طهران الثلاثي، يتضح له أن الوعود الروسية ستبقى من دون تنفيذ، وأن غبار المعارك ضد تنظيم داعش كفيل بحجب الرؤية عن حقيقة اللعبة الجهنمية الدائرة على الأراضي السورية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب