يحرّك النازحون السوريون مشاعر اللبنانيين غير الدفينة.
في شوارع العاصمة بيروت، أو في سيارات “السرفيس”، المشتركة، يكون المشهد وفيراً: رهط من النساء والأطفال، ذوي هندام خاص، برفقة رجل، أو مراهق، أو اثنين، يجولون في المدينة كالسابحين في فضاء مجهول، وعلى وجوههم سؤال عن ملاذ أو حاجة. مشهدهم أقل أذى من أولئك الأولاد النائمين على كرتونة، من دون أهل، ترعاهم أخت كبيرة، تقول ان أهلها هربوهم كلهم الى لبنان، فوجدوا هذا الرصيف يسكنون فيه؛ أو مشهد أولئك العالقين في الهواء الطلق، المحتمين بـ”سقف” بلاستيكي، تمكنت منها نسمات الخريف المبكرة… الى ما لا نهاية من المشاهد…
المهم من كل ذلك، ردة فعل “المواطن اللبناني البسيط”. ماذا يقول؟ سائق “السرفيس”، يمكنك أن تخمن شعوره، من لهجته، أو من الراديو، الذي لم يَعُد يشغّله إلا للإستماع الى “الأخبار”. راديو 8 أو 14 آذار، مع الأسد أو مع الثورة…. إذا كان من الجماعة الأولى، يتنهّد تنهيدة غضب غير مكتوم، ثم يتمتم شيئاً عن عددهم الذي بلغ الثلاثة ملايين، عن شرّهم، عن اقتناصهم للعمل، القليل، والفرص والخدمات والمساعدات، عن مسؤوليتهم بما فعلوه ببلدهم؛ فاللبناني، وإن كان “مواطناً بسيطاً”، ينسى معصيته في زمن الحرب واللاحرب….
أما إذا كان من الجماعة الثانية، فهو يمتنع عن الإفصاح عن ضيقه منهم، تلتبس عليه المشاعر؛ هو من خصوم بشار، والنازحين من ضحايا هذا الأخير، والعصبية الطائفية أو المذهبية تحتم عليه نوعاً من التضامن؛ ولكنه لا يستطيع غض الطرف عن الأضرار والأثقال والأخطار التي ينضح بها وجودهم؛ وإن غمْغمَ بعبارات وأنصاف الكلمات. ولك أن تتصور طبيعة الحديث الدائر بين السائق والركاب، والذي يتكرر في وقائع يومية، مع الجيران والباعة والسنكري والنجار الخ.
ولكن هذا الإنقسام في رجال ونساء الشارع، بتعليقاتهم وردود أفعالهم، يبقى أكثر رحمة مما يرويه سوريون مقيمون في لبنان عن صرخات استنكار عالية لوجودهم في الأحياء البيروتية؛ ليس من قبل حاجز ميليشيوي، أو زعران؛ إنما من ساهرين على شرفاتهم، أو مجرد عابرين في أحيائهم… صرخات تدعو، مثلاً، “إكمش سوري”… أو من ملاكي الشقق السكنية، الذين لا يؤجّرون إلا للنازحين من أبناء الطائفة الفلانية…
في العالم الإفتراضي، ليس الأمر بهذه الصراحة. “الفوبيا الاعلامية بالنازحين السوريين” التي تكلمت عنها بعض الصحف سيطرت على الإرتباك وتدوير الزوايا والصمت والتنديد الدوري؛ وكلها أفعال إيمان يومية متناقضة. صار النازح السوري في بعض اسكتشات البرامج التي تزعم حب الحياة، لفظٌ يتسلل الى متن الإجتماع اللبناني، عبر وسائط لم تكن في الحسبان، مثل المدرسة أو المقهى أو العمارة… فهذا الإجتماع نفسه مصاب بمرض كراهية جاره الأقرب.
أما القيِّمون المفترضون على شؤونه، أي “المسؤولون”، فيخوضون معركتهم الإنتخابية المقبلة، الإفتراضية أيضاً، من باب النزوح السوري. كل مسؤول “فاهم” بالضبط على أي كراهية سياسية “يعمل”، فيكون موقفه من هذا النزوح إستجابة فائقة لهذه الكراهية بالذات؛ مرة بالهجوم اللفظي المباشر والعنيف، وتصريحات العونيين من هذا الطراز. ومرة أخرى بالتضامن الأكثر لفظية مع هؤلاء النازحين، بطلب المساعدات، بالتضحية عما قد يصدر من قاعدتهم الإنتخابية من ضيق وتعثر وإرتباك بهذا الوجود؛ بالعزوف عن إيجاد ترتيبات مستدامة، لا حلول، للإستعصاءات الضخمة للنزوح السوري؛ بحيث ينتزع موضوعه من فتيل التحريض الإنتخابي، العنصري منه والتضامني. تحريض لإنتخابات قد تحصل، وقد لا تحصل. غير ذلك، هم في هذه الاثناء ينتظرون. ولذلك، فلا شيء يحفّزهم على الإستقتال من أجل تنظيم شؤون بلادهم مع هذه الموجة الهائلة من النزوح، التي تفوّقت مرات على النزوح الفلسطيني منذ ستة عقود. هم بالأصل يتركون بلادهم سائبة؛ فكيف يتمكنون من تنظيم مسألة النزوح، “الخارجية”، ومعالجتها على الوجه الأقل عشوائية.
فالحسابات المكشوفة لبعضهم لا تخفي الحسابات الأقل إنكشافاً لبعضهم الآخر، ولا تدخل فيها على الإطلاق مصلحة البلاد، أمنها، اقتصادها، بناها التحتية، خدماتها، كهرباءها، مياهها… وكلها قليلة، شحيحة، للأربعة ملايين لبناني العائشين فيها. وهي “طفّشتْ” ميسورين وفقراء منها. يلجأ السوريون الى لبنان هرباً من طائرات بشار وبراميله، فيجدون لبنانيين يدفعون “تحويشة” العمر من أجل ركوب سفن الموت الى بلاد الله الواسعة. بلد يستقبل ابناء غيره، وهو يلفظ أبناءه في أعماق المحيطات…
اللبنانيون، مواطنين وحكاماً، يسلكون عموما في المسألة سلوكاً خبيثاً، نفعياً. فهم لا يراهنون على أكثر، أو أقل، من الإطاحة ببشار أو تمكينه من الإستمرار في الحكم. أي ان مصير بلدهم مرهون بما سوف “تستقر” عليه الأمور في سوريا. والنازحون السوريون جزء لا يتجزأ من هذا المصير. قدومهم الى لبنان علامة على هذه المعركة التي سوف تقرر وجهه ووجهته. اذن، لم يكن تلازم مسار البلدين يوماً على هذا الوجه من الدقة والتبلور. وعندما يكون مستقبل بلد معني الى هذه الدرجة بمستقبل بلد آخر، يشترك معه بالحدود واللغة والاواصر… يكون من واجب أبنائه التفكير من غير زواياهم المعتمدة؛ هذا واضح في الأفق، كما في التاريخ. ومع ذلك فان ميل اللبنانيين عامة هو إنعدام الشعور بالمسؤولية المباشرة التي يرتبها هذا التلازم. لا يزالون على عهدهم من الأنانية الطائفية-المذهبية؛ يريدون استثمار مصيبة وقعت على الشعب السوري، أو يتركونها تنمو وتتوسع أمام ناظريهم، وكأن لا يعنيهم في كل الموضوع سوى مناكدة أبناء وطنهم بقوة سوريا أو ضعفها. هذه الرؤية المشتركة لدى اللبنانيين، كل حسب طائفته ومذهبه وانحيازاته، هي الرؤية نفسها التي تعطل تشكيل الحكومة، التي تنخر بمؤسسات الدولة المتبقية، وهي الرؤية التي تسخر من الدولة فعلاً وتندب ضعفها قولاً. هي قسمة اللبنانيين المشتركة التي تجعلهم يتشتتون في النظر والتفاعل مع النازحين السوريين، إلا من العدسة اياها. هم ليسوا معنيين، سلباً أو إيجاباً، ولو كذبا ودجلا وتدويرا للزوايا… إلا بالقدر الذي ينال من كينونتهم الطائفية.
إن جبروت مأساة الشعب السوري، وضخامة ما صدّرته الى لبنان يفوق كل الطاقات، الفردية منها والدولية على حدّ سواء. وهي لا تتوقف عن توليد شعور بالعجز والذهول. والقليل من الواجب الإغاثي أو الإنساني الذي ينتاب بعضنا، أو أكثر، يضيع في هول الحاجات الأساسية، في الفقر الأقصى والشقاء المحض. هذان العجز والذهول معطوفان على فراغ في العقول ناجم عن العجز، أيضاً، في صياغة فكرة تفاعلية مع اللاجئين، كموضوع وكبشر. كأن الفكرة تقف أمام سدّ، ليس أمامها غير هذا السدّ. فاللبنانيون يريدون، في خطابهم المعلن، ان يفصلوا بين الزاوية الانسانية الإغاثية والزاوية السياسية عندما يتناولون موضوع النازحين السوريين. هذا الفعل الماكر في اللغة واللفظ يقومون به تلقائياً، لشدة ما هو راسخ في ضمائرهم وعقلهم، لشدة ما نحت بهم نظامهم السياسي. يريدون بهذا تجنّب الإفصاح عن انحيازاتهم الطائفية، التي تملي عليهم ما يرون انها “مصالحهم”، وفي الوقت عينه عدم التلوث بصفة الشعب غير المضياف غير المرحب بمن يلوذ اليه.
الطائفية تدعم هذا السدّ من جانب آخر أيضاً. انها الباطون الذي يتسلح به. انها تخدم الفصل بين الإنساني والسياسي، وتستخدمه في آن. انها تحمل النظرة تجاه النازح بكل التباسيتها وتلاعبها ومراوغتها. وثقل هذه الرذائل الثلاث تجعل النازحين في لبنان مجموعات تائهة، ضائعة، لا سبيل لها غير الشارع، الأرصفة، العراء… من ذاك الذي نراه يومياً في شوارع بيروت أو نخاله منتشراً في البقاع والشمال ومتفرّق هنا وهناك بين إقليم الخروب والجنوب…
لا نستطيع الكثير لإنقاذ النازحين السوريين من الانزلاق في متاهات النفاذ من الموت جوعاً أو برداً. ولا نصدق بأن الآتي من الأيام سوف يعيدهم سالمين مكرّمين الى ديارهم. لا نستطيع الكثير ونحن غارقون في كراهياتنا الأصلية؛ لا إنقاذهم ولا إنقاذ أنفسنا. وهذا ما جنته سدودنا العقلية.
ثمة حاجة فعلية لصياغة رؤية، ولو غير محدّدة بدقة، تجاه المسألة. وأجدر من يقوم بهذه المهمة هم اللبنانيون القلائل الذين لا يزالون يعتقدون أنفسهم مواطنين يسألون عن دولة وقانون. لا جماهير طوائف. هؤلاء وحدهم بوسعهم تناول المسألة بالقدر المطلوب من الإنسانية والسياسة في آن، وبأقل ما يمكن من التشاطر والتسييس الطائفي أو المذهبي.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل