هل تدرك نُخَب العرب مغزى المعركة الدائرة حالياً في لبنان؟ وهل تفهم أن الصراع الدائر ليس صراعاً بين اللبنانيين والسوريين، ولا بين شيعة وسنّة، ولا بين مسلمين ومسيحيين؟ وهل تعي هذه النُخَب أن معركة الرئاسة في لبنان ستؤثّر في مستقبلها هي، أي في مستقبل شعوبها، وفي الصراع الدائر بين قوى التنوير والتقدّم والديمقراطية والليبرالية، وبين قوى العنف والتزمّت الديني والمذهبي، وقوى الإستبداد الذي يغلّف هراوته بإسم “خصوصية” وهمية؟
بعض الكتّاب العرب، وفي طليعتهم كتّاب من سوريا وفلسطين واليمن والمغرب، كتبوا أجمل المقالات تأييداً لـ”انتفاضة الإستقلال” اللبنانية التي أرغمت جيش الإحتلال البعثي على سحب جنوده من لبنان. ولكن اللبنانيين “عاتبون” على نُخَب عربية أخرى ما تزال “تتفرّج” على المعركة الدائرة، إما لأنها لا تفهم ما يجري، أو لأنها لا تُدرِك أن لبنان يخوض مرّة أخرى معركة المستقبل العربي.
المغزى اللبناني والعربي للصراع اللبناني الحالي هو موضوع حديث “الشفّاف” مع النائب اللبناني سمير فرنجية.
*
الشفّاف: كيف تصف الوضع الراهن قبل أسبوعين من الموعد الحاسم الذي حدّده رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية؟
سمير فرنجيّة: يعيش لبنان وضعاً إنتقالياً بالغ الخطورة.
لقد خسرت قوى 8 آذار المعركة. الوقائع تثبت ذلك: فقد أرغمت سوريا (الأسد) على الإنسحاب. ثم جاءت حرب تموز/يوليو 2006، والقرار 1701، لتنهي ورقة جنوب لبنان التي كانت تبرّر وجود مقاومة مسلّحة وتسمح للمحور السوري-الإيراني بفرض نفسه كطرف رئيسي في النزاع العربي-الإسرائيلي. أخفقت، كذلك، المحاولات المختلفة لتعويض خسارة جنوب لبنان عبر الإستيلاء على السلطة في بيروت.
لكن، إذا كانت قوى 8 آذار قد خسرت هذه المعركة، فإن قوى 14 آذار لم تربحها. فالدولة ومؤسّساتها تظلّ، إلى درجة كبيرة، خاضعة لسيطرة سوريا، التي تسعى للعودة إلى المسرح اللبناني بجميع الوسائل، بما فيها الإغتيالات السياسية.
لقد آن الأوان لكي ينتهي هذا الوضع الإنتقالي، بهذا الإتجاه أو بالإتجاه المعاكس، مع إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. وذلك هو السبب في التوتّر الشديد الذي يسود لبنان حالياً.
الشفّاف: من هذا المنظور، ألا يشكّل إقتراح الرئيس برّي ببدء حوارٍ من أجل التوصّل إلى مرشح توافق حلاً يحول دون المواجهة؟
سمير فرنجية: الواقع أن هذا الإقتراح يندرج في إستراتيجية على مرحلتين.
تمثّلت المرحلة الأولى في تعطيل الإنتخابات الرئاسية لإرغام المجموعة العربية والمجتمع الدولي، اللذين يبديان خشيتهما من نشوء حالة فوضى في لبنان، إلى الدخول في مفاوضات حول ملفّين تعتبرهما سوريا وإيران في غاية الأهمية: الملفّ النووي الإيراني، وملفّ المحكمة الدولية. واتخذ هذا التعطيل شكلين:
* شكل “دستوري”: فالمعارضة تعتبر أن الإنتخابات الرئاسية تقتضي نصاباً لا يقلّ عن ثلثي النوّاب وأنها، بالتالي، غير جائزة بدون موافقة نوّاب “8 آذار”.
* وشكل “عنفي”: فاحتلال محيط مبنى البرلمان و”اعتصام” حزب الله مستمرّان منذ 1 ديسمبر 2006. كما يتواصل التهديد بإجراءات مضادة “كارثية” في حال إنتخاب رئيس للجمهورية بالأغلبية المطلقة.
أما المرحلة الثانية فتمثّلت في المبادرة إلى إقتراح “حلّ” للمشكلة التي نجمت عن هذا التعطيل، عبر إطلاق فكرة مرشح “التوافق”. والحقيقة أن هذا الإقتراح يرمي إلى ما يلي:
* تعطيل أي نقاش حول القضايا الأساسية، حيث أن “التوافق” المقصود لا يشمل القضايا السياسية وإنما ينحصر بشخص المرشّح.
* “تحييد” موقف أوروبا التي تعتبر نفسها معنيّة جداً بالتوصّل إلى حلّ سياسي في لبنان، وذلك خصوصاً بسبب مشاركة وحداتها العسكرية في القوة الدولية المنتشرة في جنوب لبنان.
* واستطراداً من عدم التوصّل إلى إتفاق سياسي، تأمين إنتخاب رئيس للجمهورية يبقي على الأمر الواقع ويتيح، بالتالي، للمحور الإيراني-السوري كسب الوقت الذي يحتاجه بانتظار التغييرات التي قد تطرأ على الصعيدين العربي والدولي.
من هذا المنظور، فمبادرة الرئيس برّي لا تمثل حلا للمشكلة التي يطرحها إنتخاب رئيس للجمهورية. ميّزته الوحيدة كانت أنه أتاح تخفيف حدّة الصراع واستئناف الإتصالات التي انقطعت في أعقاب حرب تموز/يوليو 2006.
الشفّاف: هذا يعني أن مبادرة برّي محكومة بالفشل! في هذه الحالة، كيف يمكن أن يتطوّر الوضع، وما العمل للحؤول دون استفحال الأزمة واتخاذها شكل مواجهات أهلية كما حدث في كانون الثاني/يناير الماضي؟
سمير فرنجية: مبادرة الرئيس برّي ليست بالضرورة محكومة بالفشل. لكي تصبح عملية، ينبغي لهذا المبادرة أن تتحوّل إلى مبادرة “سياسية”، أي أن تنتقل من مرحلة البحث عن إسم إلى مرحلة نقاش كل المشكلات السياسية المتنازع عليها، وأن تحدّد ما إذا كان التوافق المطلوب تحقيقه هو توافق بين اللبنانيين أو توافق سوري-لبناني، باعتبار أن الجانب السوري ممثّل ضمنياً في قوى “8 آذار”، وكذلك أن تعيّن الضمانات الضرورية لأي إتفاق يتمّ التوصّل إليه… أي، باختصار، إعادة ترتيب الأولويات بصورة معكوسة.
الشفّاف: ما هي فحوى الشق السياسي الذي تتحدّث عنه؟ وماذا تطلبون من المعارضة؟
سمير فرنجية: نحن لا نطلب أكثر من الحقوق الأوّلية للبنانيين:
* حق العيش بسلام في بلد مستقل، ليس “مقاطعة” سورية، ولا “ورقة” في يد قوى إقليمية أو دولية، ولا “ساحة مفتوحة” لصراع الآخرين على أرضه.
* حق العيش في ظل دولة سيدة، يُناط بها وحدها اتخاذ القرارات التي تشمل بمفاعيلها جميع المواطنين، ولها الحق الحصري في امتلاك القوة المسلحة واستخدامها. ليس هناك من بلد في العالم يضم جيشين يخضع كل منهما لسلطة مختلفة ويعتمد على مصادر خاصة به في التسليح والتمويل.
* حق العيش في دولة تقوم على الحق، وتحترم القوانين التي يسنّها المواطنون من خلال ممثليهم المنتخبين ديمقراطياً، ويخضع حكامها أنفسهم لأحكام القوانين العامة، دولة لا تقتصر فيها الديمقراطية على إسقاط ورقة في صندوقة الاقتراع مرة كل أربع سنوات، بل تتيح للمواطنين أشكالاً كثيرة من المشاركة عبر هيئات لحظها اتفاق الطائف.
* حق العيش في دولة لا تبقى خاضعة على الدوام لنزاعات زعماء الطوائف، دولة ينبغي لها أن تمارس سيادتها على الطوائف نفسها، بإلغاء حالة “الدول داخل الدولة”، مع احترام التنوع الديني والثقافي الذي يؤمن انفتاح المجتمع اللبناني على عوالم مختلفة.
* حق العيش في مجتمع يبطل فيه الهبوط بالدين إلى مستوى المصالح السياسية أو الحزبية، لأن الله بكل عظمته ليس بحاجة لطوائف، أو أحزاب، أو ميليشيات، أو منظمات إرهابية، سواءً مسيحية أو إسلامية، للدفاع عنه.
الشفّاف: هذه “الحقوق الأولية”، كما تسمّيها، هل تثير إعتراضاً عند أي فريق؟
سمير فرنجية: نعم، بالتأكيد. فلم يحدث إطلاقاً في تاريخ لبنان الحديث أن انقسمت البلاد إنقساماً جذرياً مثلما هو حاصل الآن. هذا الإنقسام ليس إنقساماً طائفياً. ففي كلّ واحد من المعسكرين المتنازعين هنالك مسيحيون ومسلمون، وسنّة وشيعة ودروز. كذلك، فهذا الإنقسام ليس سياسياً بالمعنى الحصري للكلمة لأنه لا يتعلق بكيفية تسيير شؤون الدولة، بل يتعلق بطبيعة الدولة ودورها.
إن الإنقسام الحاصل يقع على مستوى مختلف تماماً. فهو إنقسام على المستوى الثقافي يقوم على رؤيتين للعالم الواحدة منهما نقيض الأخرى:
* رؤية تقوم على ثقافة السلم، وترى أن ازدهار الانسان، فرداً أوجماعة، إنما يرتبط بانفتاحه على الآخر المختلف، وبإعطائه الأولوية لفكرة العيش المشترك.
* وهناك رؤية أخرى تمجّد ثقافة العنف، وترى أن توكيد الذات لا يتم الا باستبعاد الآخر المختلف وبالانطواء على الذات.
الشفّاف: بعد 15 سنة من الحروب و15 سنة أخرى من الهيمنة السورية، هل ما زال اللبنانيون يتقبّلون ثقافة العنف التي تحدّثت عنها؟ ألم يستخلصوا دورس التجربة المرّة التي عاشوها؟
سمير فرنجية: رفض اللبنانيون ثقافة العنف هذه بصورة عملية في يوم 14 أذار 2005، حينما تغلّبوا على ماضيهم المليء بالحروب، والآلام، والإذلال، واليأس، لكي يمسكوا مجدّداً بمصيرهم الوطني. إن قوة حركة 14 آذار وجاذبيّتها الإستثنائية، سواءً على الذين شاركوا فيها مباشرةً أو على الذين تابعوها في مختلف أنحاء العالم، هو أنها أظهرت، بصورة مفاجئة لم يتوقّعها أحد، إرادة اللبنانيين في “العيش معاً”، ضمن إطارٍ وطني حدوده مرسومة بوضوح، ويملكون وحدهم حق إتخاذ القرارات داخله. لكن اللبنانيين الذين اكتشفوا ثقافةً أخرى، هي ثقافة السلام، لم يُعطوا لا الوقت ولا الوسائط اللازمة لتجذير هذه الثقافة في حياتهم السياسية. فمنذ الأسبوع التالي لـ”14 آذار”، انطلقت الحملة السورية الرامية إلى إعادة لبنان إلى ما كان عليه قبل “إنتفاضة” الإستقلال.
الشفّاف: هل تسمح معركة إنتخاب رئيس للجمهورية باستعادة روح “14 آذار”؟
سمير فرنجية: يتمتّع هذا الإستحقاق بأهمية حاسمة:
* فهو يمكن أن يسجّل نهاية “ربيع بيروت” والعودة بلينان إلى ما كان عليه خلال السنوات الثلاثين الماضية، أي إلى بلد يمكن لهذا الفريق أو ذاك أن يمارس فيه عنفه بأقلّ كلفة ممكنة وبدون الإخلال بالتوازنات الإقليمية، هذا العنف الذي تقبّله بعض اللبنانيين إقتناعاً منهم بأن مستقبلهم يتطلب المزيد من الدماء، والمزيد من الآلام، والمزيد من الدمار. هذا العنف الذي تمثّل نموذجه الأكثر تطرّفاً في ما حدث في غزة، التي تسوسها الآن “محاكم التفتيش” تحت غطاء إعتبارات المقاومة.
* بالمقابل، يمكن لهذا الإستحقاق، إذا ما مثّل الطموحات العميقة لـ”ربيع بيروت”، أن يسهم في خلق بلدّ يحلو العيش فيه، ودولةٍ قادرة على تحمّل مسؤولياتها.
الشفّاف: ما المطلوب لاجتياز هذا “القطوع” الصعب؟
سمير فرنجية: سيكون الحلّ المثالي هو أن يعي حزب الله أن مشروعه الذي يرمي إلى إعادة لبينان إلى الحظيرة الإيرانية-السورية محكوم بالفشل، وذلك لسببٍ بسيط جدّاً: أن الأغلبية الساحقة من اللبنانيين لا تريد هذا المشروع. هل يمكن لحزب الله أن يتوصّل إلى مثل هذا الوعي، وأن يجنّب لبنان خضّات جديدة؟ لا أدري، لأن الضغوط التي يمارسها النظام السوري عليه كبيرة جداً.
إن تغيير موقف حزب الله يمكن أن يؤثّر بصورة إيجابية في لبنان، ولكن أيضاً في العالم العربي والإسلامي. ذلك لأنه سيتيح توفير حرب أهلية بين السنّة والشيعة على مستوى المنطقة كلها، وسيفتح المجال لمجهود تأمّل في مشاركة الإسلام بالبحث عن عولمة ذات طابع إنساني.
الشفّاف: وإذا لم يغتنم حزب الله هذه الفرصة؟
سمير فرنجية: في هذه الحالة، لا يتبقّى لنا سوى أن نقوم بواجبنا في تأمين إستمرارية المؤسّسات عبر إنتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المِهَل التي ينصّ عليها الدستور، رئيس قادر على إدراك إرادة التغيير التي عبّر عنها اللبنانيون في آذار/ مارس 2005، وقادر على إعادة تأهيل فكرة الدولة بعد أكثر من 30 سنة من نظام الميليشيات والمافيات.
مواضيع ذات صلة:
النائب سمير فرنجية لـ”الشفّاف”: قوى 8 آذار خسرت المعركة ولم تربحها 14 آذار
هل يقبل سمير فرنجية التخلي عن مشروعه ” لبنان = حاريريستلن = شركة خاصة ” مقابل تخلي حزب الله عن مشروعه أيضاً
هذا ما يريده جميع اللبنانيين وشكراً