اما وقد دخلنا الى الاستحقاق الفعلي لإستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يتجاوز لبنان الى الإقليم والتسويات المقبلة على المنطقة، فقد وصلنا الى المواجهة التي لا مفر منها، حيث سينطلق الكباش العنيف داخلياً بموجبات خارجية.
جهابذة الممانعة يعرفون جيداً ما الذي ينتظرهم في الآتي من الأيام. ببساطة، لأنهم يعرفون ماذا فعلوا ويعرفون ان خصومهم على بينة بما فعلوا، ولا سيما عندما ردد الحريري انه سيطلع رئيس الجمهورية ميشال عون على الأسباب التي افضت الى الاستقالة، مشدداً على شرط “النأي بالنفس” الذي يراه بوابة لحوار يعيده الى المشاركة في الحكم، ويرونه بوابة تأخذ البلد الى الجحيم.
لذا نشهد الاستشراس في استخدام الاعلام بغية تحريف الحقائق القابعة خلف ما حصل في الأسبوعين السابقين وحرف الاهتمام عن أساس الاستحقاق الفعلي.
الواضح في هذا الاستخدام ان الممانعة أمام تهديد فعلي، ومواجهة الآتي تستوجب كل هذا التصعيد الذي يتناقض مع نغمة التغني بالانتصارات الإلهية التي تفرض على الآخرين ان يعلنوا هزيمتهم ويرضخوا لشروط المنتصر.
يبدو ان الممانعة لا تملك مجالاً للتراجع ولو خطوة واحدة صغيرة، ما سيمهد لإنهيارها الكامل.
فالكمّ الهائل من الأكاذيب الإعلامية يُبرز ضعفاً يهدد من يفبركه. والإصرار على ان ما سيقوله الحريري من بيروت سيكون تحت الابتزاز جراء بقاء عائلته رهينة في السعودية، والاكتفاء بتكرار مفردة “الاعتقال” في أسئلة لا أجوبة عندها، لأن الهدف هو ترويج السؤال بمعزل عن الأجوبة.
وإزاء ما سيحمله الاستحقاق الفعلي، وفي خطوة استباقية، صرحت إيران بأن فرنسا تؤجج أزمات المنطقة بسياستها “المنحازة”.
فرنسا من جهتها، أوقفت التحضير لزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لايران تلبية لدعوة من الرئيس الايراني حسن روحاني، ربما في انتظار ما تتطلبه المستجدات المتعلقة بالتسوية الإقليمية.
للدلالة على صعوبة المرحلة، أكد الحريري في حديثه للإعلاميين ان “النتيجة الاساسية لكل ما حصل هو هذه الحالة من التضامن الوطني والتفاف كل الناس حول الاستقرار وليس حول سعد الحريري”، مضيفاً أن “مسؤوليتي الا تضيع هذه اللحظة وان نجيّرها لصالح لبنان لأن لبنان يستحق ولكن على الجميع ان يدرك انه مسؤول ايضاً”.
وتساءل الحريري “إلى متى أتحمل وحدي وإلى أي حد تعتقدون أنّ البلد يحتمل ألا يكون هو أولويتنا الأولى؟”.
في المقابل، بدأت تصريحات جهابذة الممانعة المصرة على الهروب الى الامام، تشير الى ما ينتظر الحريري إن هو أصر على “النأي بالنفس”، وما ينتظره هو رفض مسبق لأي طرح يخلخل ما هو قائم، لأن المطلوب ان يعود الى الصيغة التي كانت سائدة قبل الاستقالة، والا ستعتبر مواقفه وشروطه تسهيلاً للمشروع السعودي الإسرائيلي.
وكيف لا؟ فالممانعة تعتبر ان عدم تدخل “حزب الله” في اليمن من خلال خبرائها الذين يدرّبون حوثيين على التخريب داخل السعودية، يسهل المشروع الإسرائيلي.
كما ان خلية العبدلي في الكويت شائعة واتهام باطل يخدم إسرائيل وكأن لا قضية ولا اعترافات ولا أسلحة مضبوطة، ولأن طريق القدس تمر بالقصير وحمص وحلب والرقة و… ولا لزوم للحديث عن التدخل في سوريا لمصلحة النظام الاسدي الذي يتمسك به الولي الفقيه. بعد ذلك يأتي من يتصور ان في امكانه وضع شرط “النأي بالنفس” على الطاولة، ويتعمد الإساءة الى المقاومة.
ولأن الاحتياط واجب، ستتواصل الحملات الإعلامية المفبركة بهدف فرط عقد القوى الرافضة وضع لبنان تحت الاحتلال الإيراني، التي انتعشت وبدأت تبني على إيجابيات الاستقالة لمصلحة لبنان، وبهدف زرع الشك لدى الرئيس سعد الحريري في شأن حلفائه وحتى أقرب المقربين اليه، على أمل ان يتمكن محور الممانعة من إضعاف الحريري وابتلاع حضوره السياسي بعد القوة التي اكتسبها جراء استقالته، ولا سيما بعدما ساهم هذا المحور بتكريس هذه القوة مكرهاً لا بطلاً، او على أمل الافادة من فوضى الشائعات لتبرير مخططات دموية تقلب الطاولة وتعيد لبنان الى مرحلة شبيهة بما حصل عام 2005 لأن الظروف التي تهدد الممانعة بالانهيار تتطلب ذلك.
لكن المسألة التي ولدت في الرياض، ستكبر في لبنان. وهنا بيت القصيد في هذا النضج السياسي الذي يكتسبه الحريري من خلال تجاربه الشاقة، تماماً كما المحكوم بالاشغال الشاقة. فما تعلمه من التجربة اللبنانية، ومنذ اللحظة الاولى يرعب أكبر رجال السياسة، لكنه يتابع محكوميته بجدارة ويعكس أداؤه السياسي هذه الأيام، حكمة يترجمها الهدوء العاصف في كل كلمة وتغريدة منذ ما بعد بيان الاستقالة.
لذا لا مفر من المواجهة مهما حاول فريق الممانعة التفوق على نفسه في اللعب الوسخ لخلط أوراق الاستحقاق الآتي لا محالة، ومهما حاول التهرب وتجاهل ما يصدر عن مجلس وزراء الخارجية العرب. المواجهة ستحصل مع الطرح الجدي لمسألة سياسة “النأي بالنفس”، التي تقع مسؤولية الالتزام الجدي بها على كاهل رئيس الجمهورية المطلوب منه تفعيل خطوات فعلية لا لبس فيها… والا بوابة الازمات المستعصية ستفتح على مصراعيها.
sanaa.aljack@gmail.com
- المصدر: “النهار”