إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(لوحة البلجيكي “ماغريت”: “المحبّون)
*
ماذا لو أنّ الإنسان يحاسب نفسه دائماً، أو يضعها تحت النقد، أو يحاكمها على أخطائها وشرورها، أو يعترف بتقصيرها، أو يقتلع منها الكراهية والتسلّط والعنف؟ ألاَ يكون حينها أجمل وجوداً في الحبّ والتسامح والإيثار والذكاء والتفاني والرحمة والتواضع والشهامة والنبل والشفافية؟ ولماذا لا يشمئز الإنسان من كونهِ، كاذباً أو كارهاً، أو عنيفاً أو منافقاً، أو متسلطاً أو حاقداً أو مخطئاً أو مسيئاً؟ ولماذا يحاول الإنسان دائماً أنْ يبدو متحكّماً ومتسلّطاً ومهيْمِناً وقاسياً؟ ولماذا ينتشي غروراً وتجبَّراً حين يحضر على رؤوس الأشهاد، صارخاً ولاعناً وشاتماً وكارهاً ومبغضاً ومستهزءاً وناقماً؟
لا يكون الإنسان هكذا دائماً بطبيعة الحال، لأنّه بالتأكيد يستطيع أنْ يكون ذكياً ومجتهداً ومتحضّراً وخلوقاً ومحبّاً ومتعايشاً ومخلصاً ومهذبّاً وراقياً وجميلاً ومتواضعاً ومتسامحاً. وفي الوقتِ نفسه لا يشعر أبداً وهوَ في كلّ ذلك، بالضعف أو المهانة أو الهشاشة، أو الضمور أو التلاشي، أو التضعضع أو الانكسار، فقيمته الإنسانيّة إنّما يجدها تتمثّل في ما يستحقّه من وجودهِ إنساناً يعرفُ أنّ عليه أنْ يكون حقيقيّاً في نظرتهِ إلى ذاته، من حيث أنّه يتسامى حضوراً، بما يملكُ من صفاتٍ تجعله محبّاً وخلوقاً ومتحضراً ومهذَباً، ووافر الاتزان والهدوء والتواضع والثقة والصبر. إنّه يرى في وجوده هكذا ساعياً إلى حماية الأخلاق الإنسانيّة من التهميش، أو الطعن، أو التّمييع، أو التشويه، أو التزييف.
هذا الإنسان لا يرى في أخلاق التسامح والتهذيب والتواضع والحبّ والتعايش، ترفاً أو تصنّعاً، بل يرى فيها وجوده الإنسانيّ الذي يكتمل أخلاقاً بوجودهِ إنساناً صانعاً للحياة الخالية من الكراهية والحقد والبغض والتعصَّب والتّعالي والانغلاق. إنّه لا يعجر عن كونه محبّاً ومتعايشاً ومتسامحاً، لأنّ العجز عن ذلك، إنّما هو عجزٌ عن تحقيق إنسانيّته الراقية والمهذّبة والمتسامحة، وعجزٌ عن امتلاك حقيقتهِ التي يرى إنّها بالضّرورة أنْ تكون مقياساً حقيقيّاً لإنسانيّتهِ في قيم الحبّ والتسامح والتعايش والتواضع والرقيّ.
هناك أشياءٌ في الحياة، لا يمكننا إلاّ أنْ نلتفتَ إليها، ونضعها نصب أعيننا، ونسعى إليها دائماً، ونرى فيها حقيقتنا الناصعة، لأنّها في الأساس تبقى دائماً جوهريّة في إنسانيّتنا، وتفكيرنا وطريقتنا، واختياراتنا، وعلاقتنا مع ذواتنا ومع الآخر. إنّها بالتأكيد تلك القيم التي يجد فيها الإنسان قيمته ووجوده وجوهره، ويجد فيها تالياً مقياس الحياة النظيفة والجميلة والنقيّة والذكيّة والمتحضّرة والمعطاءة، ويعتقد راسخاً أنّ معظم الأشياء في الحياة، قد تزول أو تضمر أو تنتهي، بينما وحدها قيم التسامح والتعايش والحبّ والصدق والرحمة والمودة، لا تزول ولا تنتهي، لأنّ فيها يتركّز معظم جهد الإنسان لمحاولة بناء الذات الراقية والمهذّبة والخلوقة والمتسامحة والمتعايشة، وفيها أيضاً تتلخّص كلّ امكاناته في توفير المناخات الخالية من سموم الكراهيات والأحقاد، والعداوات.
إنّ ما تملكه في قلبك وفكرك وسلوكك من قيم المحبّة والتعايش والتسامح، ستراه ماثلاً في طريقك، يأخذكَ إلى أجمل ما تستطيع أن تفعله تجاه الآخر، وإلى أجمل ما يستطيع أنْ يفعله الآخر لك أيضاً، ويأخذكَ إلى ذاتك التوّاقة المحبّة لفعل الجمال الإنسانيّ، لأنّك لا تعايش الكراهية في قلبك، ولا تعتاد على القباحةِ في فعلك، ولا تمارس الكذب في سلوكك، ولا تعتدي على غيرك بالاقصاء والنبذ، لمجرد أنّه يختلف عنكَ في دينه، أو عرقه، أو لونه، ولذلك سترى الآخرين بقلبك وفكرك وأخلاقك وإنسانيّتك، وسيراك الآخرون بقلوبهم وفكرهم وأخلاقهم وإنسانيّتهم.
ولعلّ ما يجدر بنا أنْ نلتفتَ إليه دائماً، أنّه من النادر أنْ نرى هناكَ مَن لا يحملُ في أعماقهِ جانباً جميلاً، فالأمر هنا يتوقّفُ على كيف عليه أنْ يشعر تجاه ذاته، حين يشعر بأنّ عليه أنْ يتقدَّم لِمساعدة ومحبّة غيره، أو أنّه كيف يشعر بالمحبّة والعطف والامتنان لغيره، بمجرد أنْ يشعر بكلّ ذلك أمام ذاته، ولذلك يظهر لنا جليّاً أنّ الإنسان عموماً، مسكونٌ بالمحبّة والتسامح تجاه الآخر، ولكنّه فقط يستطيع أنْ يشعر بذلك في أعماقهِ، متى ما استطاع أنْ يتدرَّب على محبّة ذاته، كي يستطيع أنْ يرى في الآخر جانباً من محبّته وتسامحه، فشعور المحبّة والتسامح والتواضع هنا، هو بالضبط الشعور الذي كان يفتقده، واستطاع أنْ يشعر به، حينما تخلّى عن كونهِ متحيّزاً أو جاهلاً أو كارهاً، أو نابذاً أو منغلقاً، أو متزمّتاً. فالإنسان عموماً يضيق من كونهِ لا يعرفُ كيف عليه أنْ يحبّ غيره، لأنّ شعور الكراهية يصيبه في الأخير بالسأم والتوحش والوحدة والضعف والأنانيّة، وليس أمامه إلاّ أنْ يتخلّص من كلّ ذلك، لكي يشعر بالمحبّة والصفاء والانشراح في أعماقه، ويحيا مزدهراً بالمحبّة والتسامح والتواضع والعطف، لأنّه بذلك يستطيع أنْ يستخلص من جمال هذا الشعور جمال ذاته، وروعة إنسانيّته، وصفاء قلبه، ورقيُّ أخلاقه. ولأنّه أصبح يعرفُ أنّ عليه أنْ يتخلّى عن شرور تعقيداته التحيّزيّة بشأن الآخر، إثباتاً عقلانيّاً منه باستحالة أنْ يكون كلّ الاخرينَ أشراراً، أو فاسدينَ، أو مخربينَ، أو كارهينَ، ومن خلال ذلك يستطيع أنْ يكون أقربُ كثيراً إلى فهم الحياة والإنسان على نحوٍ متنوّع ومنفتح ومتجدد وجميل.
في الحبّ أنتَ تلامس جوهر وجودك، وفي التسامح أنتَ تكتشف معنى الآخر، وفي التواضع أنتَ تحترم ذاتك، وفي الامتنان أنتَ لا تقلّل من قدر ذاتك، بقدر ما تزيدها تهذيباً واحتراماً وعرفاناً وشكراً في غيرك. وفي العطف أنتَ لا تشعر بالضعف أو التراجع، فكلّ ذلك من شأنهِ أنْ يمدَّ أعماقكَ بالحبّ والاحساس والعاطفة والانسجام مع ذاتك، وهيَ التي تخبركَ دائماً أنّكَ قد تعرَّفتَ كثيراً على جوهر وجودك، وعلى أصل الحياة، وجمال السعادة، فالحياة تميل دائماً إلى أولئك الذين يمدُّونها بالحبّ والتسامح، والتواضع والعطف والامتنان، لأنّها في الأصل تكون حيث تكون كلّ تلك القيم أساس وجودها، ومنبع إنسانيّتها، ورقيّ جوانبها، وبدائع تفنّناتها، وفنون جمالها وروعتها.
كيف يستقيم أنْ تطلبَ محبّة واحترام وتسامح الآخرين، وتعاليمك وموروثاتكَ تزدحمُ بالكراهية والعنف والنبذ والشتائم لهم؟ منتهى الوقاحة أنْ تستبشع في الآخرين قِيمهم وانجازاتهم وطريقتهم وأخلاقهم، لِمجرد أنّهم ليسوا على دينكَ، أو موروثاتكَ، أو مذهبك. فحين لا تستطيع أنْ تخرج من سجون كراهياتك، ولا من هلوسات تعاليمك الاقصائيّة، لا تستطيع أبداً أنْ ترى في الحبّ حياةً، ولا تملكُ أن تعرفَ أنّ في التسامح جمال التعايش، ولا تفهم لماذا عليكَ أنْ تتخلّى عن كلّ ما يجرُّكَ إلى التزمت والتعصب والعنف، ولا يمكنكَ أنْ تفهمَ أنّ في جمال الحبّ والعاطفة والتسامح والتواضع، وجد الإنسان توقه الشديد بالحياة الرائعة، ووجد فيها أيضاً ولعه الكبير بالفنون والتنوّع والانفتاح والتغيير والتكامل والخَلق والإبداع. فالإنسان عندما يُغرم بكلّ ذلك، سيدركُ حتماً كيف عليه أنْ يجد فيه حبّه وتسامحه وتواضعه وعاطفته، ويتأكّد أنّه في كلّ ذلك أيضاً يولد متعافياً من شرور الكراهيات والعنف والنبذ والحقد والتعالي.
الحياة دائماً تصبح جميلة بالتّسامح والحبّ والتعايش، لأنّ هناك دائماً مَن يستطيع أنْ يمنحكَ مِن ذاته جمال التفهّم، ووعيّ التنوّع، وبصيرة الانفتاح، ومحبّة القلب. فكلّما تخفّف الإنسان من أثقال الكراهيات، يقطع أشواطاً كبيرة إلى معرفة أنّ الحياة تبقى أبداً حرَّة وملهمة، ومبدعة وجميلة، ومتنوّعة في ثقافات التسامح والتعايش والحبّ، وهذا بالتأكيد ما يمنح الإنسان رؤية أجمل للحياة، من حيث إنّها تبقى دائماً تتشكّل إبداعاً وتنوّعاً ولمعاناً في مراحات الجمال الإنسانيّ. وتصبح تالياً زاد الإنسان في معايشة الواقع وفقاً لحقيقةِ أنّ الجمال ندركه كثيراً حين نختاره، ونصنعه ونرعاه بإنسانيّتنا الواعية والمبصرة والراقية والمحبّة والمتسامحة.
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي
جميل ومبدع كالعاده فحين لا تستطيع أنْ تخرج من سجون كراهياتك، ولا من هلوسات تعاليمك الاقصائيّة، لا تستطيع أبداً أنْ ترى في الحبّ حياةً، ولا تملكُ أن تعرفَ أنّ في التسامح جمال التعايش، ولا تفهم لماذا عليكَ أنْ تتخلّى عن كلّ ما يجرُّكَ إلى التزمت والتعصب والعنف، ولا يمكنكَ أنْ تفهمَ أنّ في جمال الحبّ والعاطفة والتسامح والتواضع، وجد الإنسان توقه الشديد بالحياة الرائعة، ووجد فيها أيضاً ولعه الكبير بالفنون والتنوّع والانفتاح والتغيير والتكامل والخَلق والإبداع. فالإنسان عندما يُغرم بكلّ ذلك، سيدركُ حتماً كيف عليه أنْ يجد فيه حبّه وتسامحه وتواضعه وعاطفته، ويتأكّد أنّه في كلّ ذلك أيضاً يولد متعافياً… قراءة المزيد ..
كيف يستقيم أنْ تطلبَ محبّة واحترام وتسامح الآخرين، وتعاليمك وموروثاتكَ تزدحمُ بالكراهية والعنف والنبذ والشتائم لهم؟