الميريتوقراطية تختار القادة بناء على أعمالهم، والديمقراطية تختارهم بناء على شعاراتهم
الميريتوقراطية تـُعرّف بأنها فلسفة سياسية مفادها، ببساطة شديدة، أنّ السلطة ونظام الحكم والإدارة يجب أن تـُمنح للشخصيات (أو للطبقات) التي تملك تاريخا حافلا من الانجازات، والذكاء، والمصداقية، والعزيمة والسلوك المتميز، بغض النظر عن الأدوات الديمقراطية المتبعة في الغرب. ولعل أفضل مثال على نجاح تطبيق النظام الميريتوقراطي هو ما حدث في سنغافورة حينما تبناها الراحل “لي كوان يو”، فاستطاع عبرها أنْ يحقق من الانجازات المذهلة ما تساوت شكلا وحجما ونوعا مع تلك التي حققتها الديمقراطيات الغربية.
أما السبب الذي دعانا اليوم لتناول هذا الموضوع فهو الجدل الدائر بين بعض الأكاديميين والباحثين الآسيويين، منذ أنْ صدر كتاب “مستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط: الإسلاميون واللاليبرالية” للباحث “شادي حسين” من مؤسسة بروكينغ الامريكية للأبحاث في قطر، والذي يـُعرف عنه تخصصه في مجال علاقات واشنطون بالعالم الاسلامي.
يرى المؤلف أنه ليس شرطا في مناطق كالشرق الأوسط وآسيا الوسطى وغيرهما من مناطق العالم الثالث أن تسير الديمقراطية والليبرالية جنبا إلى جنب، أو أنْ ينجب أحدهما الآخر، مضيفا أنّ المتوقع في هذه المناطق أنْ نجد نشوء ديمقراطية غير ليبرالية، بمعنى ظهور مـَنْ يستخدم الوسائل الديمقراطية والأغلبية البرلمانية التي حصل عليها لإعاقة أمور من صلب النظام الليبرالي مثل المساواة الجندرية، وحرية المعتقد، وغير ذلك مما بات من المسلمات والثوابت في الديمقراطيات الغربية.
ويقول إنه وصل إلى قناعة ـ بعد لقائه في أوقات مختلفة بالمئات من قادة الحركات الاسلامية المسيسة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ـ كيف أنّ هذه الحركات تغيرتْ مع مرور الوقت بفعل الضغوط وعمليات الحصار والمجابهة التي تعرضتْ لها، بحيث أضفتْ بعض المرونة على سياساتها لجهة الإئتلاف مع منافساتها، والتخلي عن إصرارها على تطبيق الشريعة وحلم إقامة الدولة الإسلامية. لكنه يستدرك فيقول إنّ ما حدث خلال “الربيع العربي” المزعوم بعث الأمل لدى تلك الحركات والجماعات الإسلامية بامكانية تحقيق أهدافها القديمة، الأمر الذي جعلها تعود إلى التشدد. وهنا راح شادي حميد يضرب المثل بجماعة الإخوان المسلمين في مصر كمثال. فهذه الجماعة تصالحتْ مع العديد من الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية المنافسة لها، وأبدتْ حرصها على مصالح الشعب والوطن العليا، فيما كانت تخفي في الواقع طموحاتها القديمة لجهة أسلمة المجتمع بالقوة. وحينما وصلت إلى السلطة بإرادة الشعب سرعان ما انقلبت على حقوق الشعب وخياراته ليعود الشعب ويحتمي بالجيش كمنقذ. والخلاصة ـ طبقا للمؤلف ـ أنّ المثال المصري عرّى الإخوان وأثبت أنّ الجماعات الإسلامية قاصرة ومراوغة، ولا تؤمن بالديمقراطية، ولا تستطيع إدارة الأوطان بحكمة وكفاءة، كما أنه أثبت من ناحية أخرى أنه طالما بقي الدين يلعب دورا في الشأن العام فإن الأحزاب الإسلامية ستبقى قوة هامة في دهاليز السلطة أو المعارضة.
لم يختلف الكاتب والباحث الهندي “أخيليش بيلالاماري” في مجلة “ذ ديبلومات” الرصينة الصادرة في طوكيو، مع آراء “شادي حميد” سالفة الذكر، لكنه أضاف قائلا أنّ مشكلة الديمقراطية في شكلها الغربي تكمن في أنها قابلة للإختطاف من قبل قوى لها مصالح وأجندات خاصة، أي بعكس نظرية ألكسندر هاملتون التي تقول أنّ الجماعات بإمكانها إلغاء بعضها البعض وفق فكرة العملة الجيدة تطرد الرديئة. ويُعزي أسباب رأيه هذا إلى أنه من المحال أنْ تشارك مئات الملايين من الناس مباشرة في الحكم، لذا فإن الجماعات المالكة للمال والقوة والنفوذ هي التي تتصدر المشهد وتؤثر في السياسات الحكومية، وتزعم أنها تفعل ذلك باسم الشعب وإرادته.
والحقيقة أنّ مثل هذا الرأي يحمل قدرا كبيرا من الصواب، بل هو مُعاش على أرض الواقع منذ عقود في ديمقراطيات عريقة ذات مكونات عرقية وثقافية متنوعة كالديمقراطيتين الأمريكية والهندية. ففي هذين البلدين على سبيل المثال اللاحصري عادة ما يُطرح تساؤل مفاده ما العمل حينما تعجز الدولة عن تطبيق مظاهر الحكم الرشيد بسبب أفراد أو جماعات يعملون من داخلها على الإخلال بقيم الديمقراطية، في الوقت الذي يحتمون فيه بدرع الديمقراطية للبقاء في السلطة؟
الإجابة على السؤال السابق جاء سريعا من العديد من المعلقين الذي وجدوا في النظام الميريتوقراطي الآسيوي خير بديل! إذ يقوم هذا النموذج على نظام للحكم يتجنب الشمولية في شكلها المطبق في كوريا الشمالية من جهة، ويتجنب من جهة أخرى منح حريات واسعة لبعض المؤسسات المنتخبة لجهة المساءلة والمحاسبة ووضع العراقيل الإجرائية الطويلة التي قد تؤدي في مجملها إلى تأخير التنمية وإبطاء إتخاذ القرارات الحاسمة إزاء الملفات الداخلية والخارجية على نحو ما يحدث في النظام السياسي الأمريكي.
وهذا في واقع الأمر ليس سوى ترويج لنظام أوتوقراطي شبه ليبرالي على نحو ما كان سائدا في عصر التنوير الأوروبي في القرنين الثامن والتاسع عشر، حينما كان الحكم يدار من قبل الأوليغارشية التي كانت تعتمد بدورها على أفراد من التكنوقراط وذوي العلم والمعرفة من أجل التحكم في النظام، بغض النظر عن شكله وطبيعته الدستورية. حيث كانت القرارات تصدر وتنفذ في أعلى المستويات، مع تدخل نسبي قليل من خارج مؤسسة الحكم. لكن الأهم أن الجماهير كانت حرة فيما يتعلق بحياتها اليومية التي كانت تمضي دون قمع رسمي أو توجيه وتقييد من الدولة يحدد أطرها وشكلها، مما أتاح لها تحسين أوضاعها وفقا لإجتهادها ونشاطها
إلى ما سبق أشار بعض المعلقين إلى النموذج الصيني كنموذج سياسي مستقبلي قابل للتطور لجهة الحكم الرشيد والديمقراطية، لأنه يحمل بصمات الميريتوقراطية السياسية بل أن أحدهم وهو الكندي دانيال بيل، الذي يعمل كأستاذ للفلسفة والنظريات السياسية في جامعة بكين، ذهب إلى حد القول أن الديمقراطية موجودة في النموذج الصيني في المستويات التنظيمية الدنيا التي تمثل غالبية الشعب، مضيفا أنه في النظام الأوتوقراطي الصيني من الممكن إكتشاف أشياء كثيرة بالتجربة والبرهان (مثل الرموز والشخصيات الموهوبة والمتميزة التي تستطيع الصعود شيئا فشيئا بسبب مرونة النظام الدستوري وإستقرار نظام الحكم)، ناصحا بالمريتوقراطية على حساب الديمقراطية لأن “الأولى تختار قادتها إنطلاقا مما فعلوه وانجزوه، بينما الثانية تختار زعمائها إنطلاقا مما قالوه وأطلقوه من شعارات أثناء حملاتهم الانتخابية أو إنطلاقا من نفوذهم المالي وسطوتهم الاجتماعية.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh