نتأفّف من الموت القريب منا. ولكننا عندما نخْلد الى التلفزيون في آخر الليل، ننظر ببرود الى الشريط الاخباري الضيق في أسفل الشاشة وفيه عدد «القتلى» من جراء انفجار سيارة مفخّخة، في بغداد مثلا. برود وقلّة إكتراث مصحوبَان أحيانا بتحليل عن مدى تدهور او تحسن الاوضاع الامنية في بغداد ومحيطها. لا نتصور المأساة الانسانية التي حلّت بأهل كل قتيل؛ ونشعر بالقليل من أحزانهم عندما تلتقط عدسة مصوّر بارع لحظة فجيعة فرد من افراد الاهل هؤلاء. خصوصا الأم.
الاحساس نفسه يسري تجاه قتلى اعاصير او فيضانات او ضحايا حوادث سيارة او قطار الخ. الحوادث البعيدة المكان. لا نتصور احزانهم ولا نشاركهم ، ان شاركنا، الا نظرة عابرة للصورة او للشريط الاخباري في اسفل الشاشة.
نتأفّف من الموت القريب منا. لكننا نذكر قتلى معركة ميسلون أو موقعة بدر، او اجدادانا، او حتى فنانا من العصر الماضي… ببرود اكبر؛ وبعين العلم او التأريخ او الفن. الموتى هؤلاء قضوا منذ قرون او عقود؛ والترحّم عليهم عند ذكرهم، جماعة او افرادا («المرحوم… نابوليون بونابارت» مثلا) يأتي خارج السياق تماماً، مثل الكلمة «الواقفة»، المخلّة بالحالة الآنية. فهذه الاحزان ذابت مع الزمن. واذا وضعنا جانبا الاحزان الدورية على استشهاد الحسين او على جلْجلة المسيح، او اية احزان دورية في اديان او ثقافات اخرى، فلا دوي خاص للموت البعيد في الزمان.
ليس مقصودا هنا بالطبع الدعوة الى الحزن على كل الموتى الذين سبقونا او عاشوا بعيدا من نظرنا. بل الاشارة الى وحدة الاحزان البشرية وتكرارها؛ ومدى نسبيتها حيال بعضها. واللغة هنا لا تلبي وظيفتها المأمولة. ويتعثر الكلام، بعد تعثر الخيال.
في وجدان كل فرد منا موتى حزن عليهم او ما زال. وإضافة موت آخر في سجل الذاكرة يحيي آلام الفقد السابق، ويؤجّج الحزن الجديد. وشيء من اللاعقلانية يتسلل الى ذاك الوجدان. او ربما عقلانية الموت، الخارجة عن عقلانية الحياة، او المكملة لها من دون ان نعرف الشق الثاني من الاكتمال. ربما زيارة قبر الفقيد هي الأكثر بعثاً لراحة الوجدان المفجوع. لكننا لا نعرف السبب. لا نستطيع نحن الاحياء صياغة السبب. كذلك الشعور بأن الفقيد يحوم في مكان آخر؛ كأنه غائب، مجرد غائب. او ذاك الاحساس الآخر الذي يطفو فجأة لدى المفجوع؛ من انه تسبّب بموت العزيز، او لم يستطع تأجيل فقدانه، او لم يكن على ودّ كاف معه، او قصّر نحوه في كذا او كيت من الوقائع، ما يتعارض مع حتمية الموت. أو مع ما نسميه بقليل من الخفّة الدرامية احيانا: القدر.
لغة الموت مستعصية. تأمل عبارات التعزية: كـ«العوَض بسلامتك»، «البقية في حياتك»، «أن تكون خاتمة الاحزان»… وغيرها. تنضح هذه العبارات بالعبثية؛ كأن هناك تعويضا وجوديا عن الموت، او ان «بقية» الحياة معلومة لدى قائلها، او ان للاحزان خاتمة؛ فمجرد موت المستفيد من «خاتمة» الاحزان سوف يتسبّب بأحزان من بقوا.
المـوت ليس قابلا للتعبير اللغوي الذي نسجته حضارتنا، او ربما كل الحضارات. يحتاج ربما الى لغة اخرى وخيال آخر. الاحلام، الشرود، الغسَق، الغنــاء، الطيور الآتية من امكنة بعيدة… قد يكون فيهـــا بعض المعاني العسيرة الصياغة. ثم لماذا الدأب علــى الاستعانة بالخيال الآخر؟ ربما سعياً وراء «فهم» الموت، او ربما مجاورة معانيه، او معناه. او مجرد انهاء الحِداد على الفقيد: أي تصديق رحيله
قصة الموت نفسها، كواقعة. نسردها عشرات المرات. وهذا ايضا جزء من الحداد. بالمؤانسة التي تضفيها الأُذن المستمعة وطقوس الحداد الاخرى، كالصلاة والغناء اثناء الصلاة. الغناء خصوصاً، الذي يبلسم جروح الاحزان الغائرة. يغسل القلوب من الغضب ضد الموت. الغضب المسدود الافق. الغضب الذي لا مجال لمداراته لا بنَيل الحقوق ولا بتحسين الاوضاع. الموت «العادي» اكثر ما يحتاج الى معانٍ. عكس الموت الاستشهادي، المحمول على الظفر. وكيف نصنع معنىً لما يحمل سره بنفسه؟
ومع ذلك، تجد في الموت درجات. فاذا اعتبرنا دنيانا عبارة عن حلقات متواصلة من الحياة والموت، لا بد لنا من ملاحظة ان الموت الكاسر لهذه الحلقات هو الموت الافظع. موت الولد، او البنت. الطبيعي في بلادنا ان تعبر الأم عن حبها لولدها بالقول «تقْبرني»؛ اي، «فلتعش بعد موتي». وهذه اقصى امنية، أقصى الحدْس الرغائبي لدى أية أم. ان تموت قبل ولدها. وغير الطبيعي ان يحصل العكس.
ان درجة الفقدان هي في درجة الحب. ولا حب اقوى من حب الام، ثم الاب. ولا شيء من بعدهما اقوى من حب الحبيب، النصف الآخر، الشريك، الصديق، الشقيق. والوقع المختلف لفقدان الأبوَين. ومن بعدهما تتقلّص الفجائع.
يكتمل معنى مشوار كل انسان بموته. تختتم به قصته. نهاية قصته. فطالما بقي الانسان عائشا، يحتمل مشواره القصص. وعندما يغيب عن دنيانا تنتهي قصصه. هنا تبدو الحياة قرينة الموت. لا تفترق منه الا في الخيالات التي صنعناها اتقاء لقدومه الحتمي، بين لحظة واخرى. ومع ذلك يفاجئنا كلما اتى مرة، كأنه ليس جزءا من الحياة. وهذه واحدة من اسرار الموت. واحد من كنوز اسراره.
dalal.elbizri@gmail.com