مات اخي زهير.
وهذه ليست مرثية له.
مات أخي زهير في زمن بهتت فيه كل المراثي، في حمى الجنازات المتناسخة في الوطن والشتات. حيث تدخل قضية موت الفلسطيني حيزا اسطوريا، وضمن طقوس خرافية، تسترجع الماضي بحنبنه وبتلاوة مزامير رحيله…. ولا تعود سيرة الفقيد تنحصر في سيرة حياته او عدد سنوات عمره، بل تتعداها الى رواية رحلة آلامه وعلاقته بالقضية.
لم تبدأ علاقتي بزهير بكير يوم اختارتنا اقدارنا لنكون اخوة..انما بدأت يوم قرر أخي ان يوجه قدري نحو القضية التي سكنت وعيه المبكر….
لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري يوم فقدت مقعدي في مدرسة اتحاد الكنائس الانجيلية في برج البراجنة، بسبب تأخرنا في الاردن، يوم زارت أمي اسرتها هناك…
” أرسليها الى مدرسة الانروا هذه السنة، وسنحجز لها مقعدا في السنة القادمة”
هذا ما قاله ابو فريد الجرّاح مدير المدرسة والذي ربطته بوالديّ صداقة منذ ايام عكا.
ذهبت الى مدرسة الانروا. راعني مشاهدة البؤس الذي استشعرته دون ان افقهه. لكنّ الاختلاف كان واضحا حد الاحباط. ومدارس الأنروا هي تلك المدارس التي أنشأتها وكالة غوث اللاجئين لأبناء اللاجئين الفلسطينيين. وكان جل طلابها انذاك من جيل النكبة الذين سكنوا تلك الخيام، التي لا ترد بردا او حرّا، وأرضها رمال حمراء تتبلل مع اول غيث الخريف، وفي وقت الاستراحة كنت ارى كيف يتدافع هؤلاء التلاميذ نحو وجبة طعام تقدم لهم مجانا.
بكيت لأمي، وضربت الارض بقدميّ، فأنا اريد العودة الى مدرستي الاولى التي اعتدتها، لكن لا امل بذلك. بعد موجة بكاء طويل وصراخ كان يتقاطع مع محاولات تهدئة امي لي تارة باللين وتارة بالغضب والتهديد، دخل أخي زهير الغرفة التي سرعان ما غادرتها امي مرددة بحزم قرارها النهائي! سحبني اخي من اذني التي شدها بشيء من العنف:
” هدول شعبك وناسك يا كلبه”!
لم افقه شيئا. امسك بيدي وسار بي في ازقّة برج البراجنة، التي تظللها اشجار الليمون والصبار، وتتزين مداخل بيوتها بالزنبق الابيض وشجرات الزنزلخت… لم ادر كم من الوقت استغرقت مسيرتنا، من حي المنشية الى مشارف تلة رملية كبيرة، تحيط بها منطقة عازلة ومفرغة من البيوت والاشجار… رايت خياما كاكية اللون تتموضع على تلك الرمال… ورأيت اطفالا يصعدون التلال بسرعة ويتدحرجون على تلك الكثبان، وكل ما فكرت فيه انذاك كيف يتمرغون في الرمل، الا يخشون عقاب امهاتهم؟؟
هناك كان درسي الاول في جغرافيتي المضيعة، وفي تاريخي الحزين. عند عودتنا سألتني امي اين كنت، فرمقني اخي بنظرة فهمت منها الّا ابوح بشيء!! وبحس طفولي ربطت بين ما رأيت وسمعت من اخي، وبين ما اعتدت ان اراه في بيتنا، حين تلتقي امي بصديقاتها، يستمعن الى اغاني فيروز” سنرجع يوما الى حينا” و” اذكر يا بيسان يا ملعب الطفولة” ويبكين، فأبكي معهن دون ان اعي سببا لذلك. كانت جلسات التعبّد هذه ترتبط بركوة القهوة الى جانب الآلة الكبيرة ذات الشريط الكبير، فيدور ويدور فتصدر الاغاني منه. جهاز كان نادرا اشتراه ابي ربما من الكويت او بمال جلبه من هناك.
بدأ وعيي ينمو ويكبر، يغذّيه اخي بأحاديثه اليومية. كنت انتظر حضوره. فهو لا يتعبني الاستماع اليه، ولا هو يمل من اسئلتي. وقد اعتاد ان يدخل البيت بحذر اللص، ويغادره خلسة يخفي اوراقا محرّمة داخل قميصه…والتي غالبا ما كان يطلب مني اخفائها دون ان استطيع قراءتها، الى ان بدأت أعي معنى المناشير والبيانات السرية، وعرفت منذ ذاك اني كنت توأما مع شقيقة لعينة اسمها النكبة!!!
اتممت دراستي الابندائية في النكبة وضياع ارضنا، ووعد بلفور وتقسيم فلسطين و 15 ايار على يد اخي فخرجت معه في المظاهرات، بدأت بالهتافات وانتهيت بالخطب واصبحت مخزن اوراقه المحرمة…
عرفت لاحقا بان زهير كان من الرواد الاوائل لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر اللبناني، يوم كان بعثا واحدا وقبل عملية الانشطار، حيث شكل القطران اللبناني والفلسطيني فرعا واحدا. وحين تقرر فصل القطرين كان زهير من المؤسسين الاوائل لفرع فلسطين. وبدأت ذاكرتي تحفظ وتخزن بعض الاسماءالتي تجول في فلك اخي، د. عبد الوهاب الكيالي، الذي زرته في مكتبه في مبنى الكارلتون، نقولا فرزلي، د. عدنان سنو، الشاعر موسى شعيب، تحسين الأطرش واكرام شمص التي عرفني بها لتكون اول مرشدة حزبية لي في احدى حلقات الحزب، وكثرٌ غيرهم اضاعتهم الذاكرة، وبعضهم بكّر بالرحيل غدرا او تصفية جسدية. ونجا زهير من واحدة من تلك المحاولات على طريق مطار بيروت.
المسيرة بدأناها معا، و حين اينع موسم زوار الفجر للشباب داخل وخارج المخيمات، كنت اغطي غيابه عن البيت، واستقبل معه زواره المبكرين صباحا، يقودونه بقليل من العنف احتراما لعلاقتهم بأبي، لكنهم يريدون “فرك اذنه” ليتربى ويهتدي، محذرين ابي لأنه قد يفسدني. كان العازوري رحمه الله الأكثر اثارة للرعب عند الشباب بسبب قسوته وضخامة جثته. كانو ينبشون البيت بحثا عن الكلمات المنثورة فوق اوراق تفوق خطورتها السلاح في ذلك الوقت. وحين نستشعر الخطر كنت اقوم باتلاف الاوراق واحيانا نقلها مساء الى مقبرة الرادوف في منطقة المريجه، حيث اسلمها لبعض الرفاق هناك اذكر منهم محمد جمال الدين من بعلبك، ومحمود مزهر الذي عمل ساعيا للبريد الى جانب دراسته، ومثل آخرين كثر كثرت زيارات اخي ” لبيت خالته” وهو الاسم الحركي لمراكز التوقيف، ليخرج منها حليق الرأس” عالقرعة” كدرس في التربية الأخلاق. ولم يجد معه نفعا نقله من مدرسة الشويفات الى مدرسة حومال الداخلية في الجبل.
استمرت رحلة زهير مع فصائل المقاومة لاحقا … وزهير هو الاسم الرمزي لجيل كامل حلم بالتحرير والوحدة والتغيير وخال نفسه نسرا يسكن الاعالي لكنه انتهى في السفح تستبيحه الهوام والحشرات. في ظل م ت ف، اكتشف اختلاسات بملايين الليرات اللبنانية، فرفع كتابا بذلك للمسؤولين. لم تتأخر مكافأته! بل جاءت في اليوم التالي وكانت “نقلا تأديبيا” من بيروت الى طرابلس في الشمال!!!
تناقلته ” الزنازين الشقيقة” واقتيد مع الرجال الى معسكر انصار، وحين اخبر جلاديه هناك بأنه يعاني من مرض السكري، فبادروا لمعالجته فورا باجباره على تجرع كأس من الماء والسكر صباح كل يوم! وحين غادر المعتقل كان قد فقد نسبة كبيرة من بصره! وبعدها استضافته زنازين شقيقة لم تكن ارحم من سابقتها، فلم يبق له من حاسة البصر الا القليل الذي يسمح له بالتحرك.
عندما توقفت سيارة وترجل منها شابان ملتحيان، كان زهير يجلس في مقهى رصيفي، حيوه بأدب، قائلين: مطلوب التحقيق معك، فهل تفضلت معنا؟ كانا على لطف ودماثة بحيث سار معهما بدون نقاش او ربما ادرك انه لاحول ولا قوة له لأي معارضة! في مكتب التحقيق الذي دخله، حياه المسؤول قائلا:
” اهلا يا رفيق!”
وهذا ما أعطاه المزيد من الراحة، رغم تيقنه انه في كنف تيار ديني! سألوه ان كان قد تعرف اليهم، لم يقل، كيف لي ذلك وانتم ملتحون! بل اجاب: “لا فالذاكرة تجذل احيانا، والبصر يخون في مثل حالتي!”
اجاب احدهم:
“نحن تلامذتك! فقد تعلمنا الف باء الوطنية على يديك!”
فقد كانوا من العناصر التي تربت تحت رعايته. أضاف آخر قائلا:
” كان المطلوب منا التحقيق معك ومراقبة كل تحركاتك ونشاطاتك! لكن اليك هذا الرقم الخليوي، وفي حال اي ازعاج او تدخل اتصل بنا فورا!” ودّعوه بمثل ما استقبلوه من حفاوة وتكريم.
ادرك لاحقا كم تغيرت الاحوال، وادرك ان الشباب قد تفرقوا ايدي سبأ، وتوزعوا بين تيارات دينية او يسارية او علمانية، كل بحسب تفاعله وردات فعله اتجاه سلسلة الاحباطات التي ضربت الامة. كما اصبح بعضم ” بزنس من – رجال بزنس ورجال أعمال” ودخلوا عوالم الأثرياء….
زهير … اعرف ان لون الغياب حزين، وان لحظة الفراق تجرح الروح….يكفيك انك مت نقيا شفافا، وان المخلصين قد قدروك حق قدرك…لأنك لم تتقن تجارة بيع الاسمنت لبناء المستوطنات في ارضك، ولم تحتكر لنفسك تجارة اجهزة الكمبيوتر، ولم تبرع في عمليات تهريب الاجهزة الخليوية، في وقت يموت فيه شعبك وناسك بسلاح بعضهم بعضا، او بحصار عربي يمنع عنهم رغيف الخبز وحبة الدواء. في آخر لقاء معك اخبرتني ان سماع البرامج التافهة والاغاني “البايخه” افضل من سماع اخبار من صدقوا انهم اصبحوا دولة او امارة! وكل العزاء انك لن تشهد قتامة القادم من الايام!!!!!
albakir8@hotmail.com
* كاتبة وروائية فلسطينية من لبنان
تقيم في أوسلو – النرويج
الموت الفلسطيني: لمحات من بيوغرافيا الراحلينمات زهير في صباح مشرق، هادئ الشمس، حين ناقوس الكنيسة يدق في صمت كما الأذان. مات زهير في ذلك الصباح الضاحك، وصعدت روحه تاركة رائحة الثرى بكل ما فيها من الروائح الشديدة. ولم يكن فيها، في تلك اللحظة بالذات، سوى تلاوة مزامير رحيله. تاركا من خلفه لفحة الشمس، ليمد ذراعه نحو السماء، نحو مكان آخر حيث كائنات أخرى، منزهة عن البطش والسفك والاغتصاب والاعتداء. هناك حيث الأرواح الخالدة. رحل زهير ، مودعا من ترك من عزيز في ألم وأمل. رحل بنفسه إلى الأعلى وترك شجن عميق ولحظات صامتة طويلة. ترك أشياء كثيرة وراءه. ترك صفاء… قراءة المزيد ..
الموت الفلسطيني: لمحات من بيوغرافيا الراحلين
جميلة تلك الكلمات؛ طالما كانت مرتبطة بقضية تختزل في أشخاص ضحوا لأجلها ومات واقفين، هم في مفهومنا ليسوا إلا أناس عاديين وفي التاريخ الشفوي بين الناس ما هم إلا محاربين على جبهة شعبية أكثر إرهافا من مقاومة الجبهات والمنظمات.
شكرا حنان بكير
شكرا لزهير بكير
ولكل من كانوا يقفون على خط المواجهة
الموت الفلسطيني: لمحات من بيوغرافيا الراحلين
لا يسع المرء حين قراءة المقال الّا ان يطلق زفرات الألم على زمن عربي ضاع وجهاد جيل تلاشى هباء وحصاد نصف قرن ذهبت في مهب الريح وما في ايدينا الّا قطرات سم لمن يمتلك شعور بالحس الانساني يتجرعها لينتحر… ليت ان الوضع بقي جامدا. بل انه في تدهور مستمر…
البقية بحياتك واشكرك على هذا القلم الصادق والجريء…
حماس وفتح باقتتالهما وبفساد قياداتهما قد ساهموا في ضياع ما تبقى من امل في الحق الفلسطيني .. على زهير وعلى احلامنا العربية الرحمة اسكننا نعيم جناته واسكن الخونة والطغاة والفاسدين جهنم وبأس المصير…