في الوقت الذي تدافع فيه العلمانية الليبرالية بصلابة عن المساواة وتحارب بشراسة مختلف أشكال التمييز، يطرح الإسلاميون تساؤلا حول إمكانية تبني الفكر الديني الإسلامي هذه المسؤولية، أي الدفاع عن المساواة بصورتها الحديثة ومحاربة كافة أشكال التمييز.
مما لا شك فيه أن العلمانية الليبرالية لا تعادي الأديان، وليس من مسؤوليتها محاربة الأديان، بل سيتحول الإيمان في ظلّها إلى شأن معنوي خاضع للإنتخاب وغير خاضع للإكراه، سيكون شأنا يختاره أو يرفضه الإنسان استنادا إلى قناعته الشخصية الفكرية والثقافية والروحية دون ضغط من جهة أو خوف من سلطة.
ولا يخفي المنتمون إلى التيار الديني الإسلامي عداءهم للعلمانية الليبرالية، بل هم يشددون على محاربتها، لأنها في اعتقادهم باتت تضيق الخناق على دور الدين في الحياة. في المقابل، تشير أدلة الواقع إلى أن العلمانية الليبرالية استطاعت أن تطرح إجابات مقنعة وواقعية عن أسئلة الحياة قد عجز الفهم الديني عن طرحها. والإجابات الدنيوية – أو الإجابات العلمانية – تعتبر عاملا أساسيا في إضعاف دور الدين وتواضعه في الحياة، وفي المقابل ساهم تواضع دور الدين وعجز إجاباته في تقوية دور العلمانية.
لقد كان الدين يعبّر في الماضي عن “كل شيء” في الحياة، عن الثقافة والسياسة والاقتصاد والطب والهندسة، كان مسؤولا عن جميع المسائل الدنيوية والأخروية، لكن راهنا بات يعبّر عن “شيء ثقافي خاص”، أصبح غير قادر على مجاراة أسئلة الدنيا المتعددة المتنوعة المتباينة، بل وجدت تلك الأسئلة ضالتها في العقل غير الديني، العقل العلماني.
ورغم أن التيار الديني يرفض هذه النتيجة، إلا أنه يصر على المكابرة، وفي مكابرته تلك يتراجع مسافات عن الواقع، يتجه صوب الماضي، وهذا التراجع بات يبعده عن التأثير، ويضر بلغته الفكرية التي يواجه من خلالها أسئلة الحياة، ويؤثر في مكانة الدين المعنوية، ويظهره عاجزا أمام المسؤوليات، وضعيفا في مواجهة التحديات، وغير صادق مقابل الشعارات التي يرفعها.
فرجل الدين في الماضي كان إماما وقاضيا ومعلما وطبيبا ومعالجا نفسيا إلى غير ذلك من الأدوار والمسؤوليات، وهو لم يكن ليمارس تلك الأدوار ويتحمّل المسؤوليات إلا بعد ما صار الدين “كل شيء” في الحياة، ما انعكس على دوره في الحياة.
لكن الحياة في العصر الحديث شهدت تفكيك تلك المهام وتخصيصها وتوزيعها، فبات رجل الدين فاقدا دوره التاريخي وامتيازاته القديمة، وأصبح متمرسا في الشؤون الدينية (رغم اختلاف تعريف مسمى الشؤون الدينية).
ويعود السبب الرئيسي في فقدان رجل الدين لدوره التاريخي القديم، إلى تحوّل الدين من شأن كبير في الحياة بالماضي، إلى شأن متواضع وصغير في العصر الحديث.
وعلى الرغم من أن التيار الديني الإسلامي يصر في الوقت الراهن على التمسك بالدور القديم للدين في الحياة، الدور الذي سيطر الفهم الديني خلاله على مختلف الشؤون، وتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إلا أن ذلك الإصرار اصطدم بجدار العلمانية الذي بات يمثّل حاجزا قويا في وجه المزاعم الدينية الماضوية، حيث استطاع أن يتحمّل مسؤوليات الحياة ويقدّر أمورها وينفّذ مهامها ويجيب عن أسئلتها بدقة واقتدار.
من تلك الأسئلة ما يتعلق بالمساواة والتمييز. فالفهم الديني التقليدي لا يزال يعيش بصورة تاريخية في العصر الراهن، صورة فتحت المجال للتمييز ليفعل مفعوله. فبعدما كان يمارس دوره بشكل طبيعي في الماضي، دون أي عراقيل اجتماعية أو نفسية، ودون أن يتعارض ذلك مع العادات والتقاليد القديمة، لكنه لم يعر أي اهتمام لتبدل معايير الحياة وتغيّر قيمها واختلاف صورها، لم يلتفت لتطوّر العادات والتقاليد، ومارس دوره الماضوي في ظل واقع مغاير ومختلف، فواجه صدا، وفقد روح المبادرة والتغيير، وعجز عن لعب أي دور حضاري، بل بات أحد الأدوات المساهمة في زيادة صور التراجع والتقهقر.
فالفهم الديني لا يستطيع إلا أن يعود إلى التاريخ وإلى النص التاريخي لكي يستنبط أحكاما لحياة الحاضر، ما ساهم في عجزه عن إيجاد إجابات مقنعة عن أسئلة التمييز الراهنة. هو لا يزال يميز بشكل تاريخي وبصورة منافية لحقوق الإنسان الحديث: بين المسلم وغير المسلم، وبين الحر والعبد، وبين المرأة والرجل، وبين المذاهب الإسلامية، وبين العالِم والعامي.
وعلى الرغم من المساعي الدينية المتواضعة جدا الهادفة إلى تضييق هوة التمييز، لكن الهوة لا تزال واسعة جدا مقارنة بما يحمله العصر الحديث من ثقافة حقوقية محاربة للتمييز، وهو ما يجعل التيار الديني غير قادر على السير إلى الأمام، بل هو دائم السير نحو الخلف.
لذلك، يبدو أحد الشروط الأساسية التي يستطيع الفهم الديني أن يرفض من خلاله التمييز، وأن لا يكون عضوا مؤثرا في نادي المعارضين للمساواة، هو قبوله مبدأ العلمانية الليبرالية، إذ يمثل ذلك ضمانة بأن يتحول من دين يشرّع بصورة ماضوية منافية للحياة الحديثة ولحقوق الإنسان الحديث، إلى دين يركز على الإيمان، ومن ثم قد يساهم ذلك في تحوّله إلى عنصر قادر على العيش بسلاسة في إطار الحداثة. فمن دون العلمانية الليبرالية لا يمكن للفهم الديني الماضوي أن يتعايش مع العصر، ولا يستطيع إلا أن يدافع عن ماضويته التشريعية المناهضة لحقوق الإنسان.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
المكابرة الدينية
الاخ فاخر السلطان كم تعجبني كتاباتك ، كم يعجمني عقلك ، اتمنى من اعماق عقلي أن يتوصل الانسان العربي الى الادراك لمعنى الحرية ، فالانسان ولد حرا من دون قيود او اغلال ، وحرية الانسان الفعلية تتمحور في حقه في أن يقول ما لا يحب سماعه الآخر فهل نحن مستعدون الى قبول الآخر وسماع ما يقوله من رأي ، ام عليناان نكون ديل وآذان صاغية من دون فلتر العقل الى ذاك الملقن الذي يدعي العلمية والمفهومية وامتلاك الحقيقة المطلقة