ألمْ تسأل نفسك يوماً: ماذا لو أنّ هناكَ مَن لا يستطيع أنْ يفهمَ لماذا عليهِ أنْ يؤمنَ بما أنتَ مؤمنٌ به، ولا يستطيع أنْ يستوعبَ لماذا يتوجّبُ عليهِ أنْ يتبعكَ في معتقدكَ ومقدَّساتكَ وتاريخكَ ونصوصك؟ أليسَ من الإنصاف والحكمة والتقدير هنا أنْ تملكَ من الأساس فهماً لِطريقة تفكيرهِ، وتملكَ أيضاً فهماً لأسلوبهِ في الحياة، وفهماً أكبر لِنزعتهِ الذاتيّة في اختيارهِ وقرارهِ وحريّته.
وهل سألتَ نفسكَ يوماً: ماذا لو أنّ كلّ ما تعتقد به وتقدّسهُ وتدعو إليه قد لا يعني شيئاً لِغيرك، وإنّه فقط يعنيكَ مِن حيث أنّكَ قد وجدتَّ نفسكَ قد وُلدَّتَ فيه ونشأتَ عليه وأصبح فيما بعد كلّ كيانك وتفكيرك ومسئوليتك، وإنّكَ لم تجد غير ما وجدَّتَ أمامك كلّ ما هو متاحٌ من معتقداتكَ ومقدَّساتك، ولم تكن تعرفُ حتّى إنّه من حقّكَ كاملاً أنْ تختار ما تريد وفقاً لقرارك وحريّتك وتفكيرك.؟
ولعلّ قد فاتكَ أنْ تعرفَ أنّ الحياة في أصلها تبقى أبداً ومنذ الأزل وافرة بالتّنوّعات والتلوينات والأنساق والأشكال والأساليب، وتبقى زاخرة في الوقتِ ذاته بالفنون اللامعة وعبقريّات الإبداعات المضيئة والأفكار العظيمة، وتبقى دائماً كما هيَ مفعمة بالنّشوات والأحلام والاشتهاءات والرغبات والدَّهشات والغوايات والمسرَّات، وصِفتها الأصليّة موسومة بالاختلاف والتنوّع والإستمراريّة، ولهذا لم تكن تتوقّع من أنّ الحياة تبقى أبداً أكبر منك، وعليهِ قد فاتك أنْ تعرف إنّكَ لا تستطيع: مطلقاً من أنْ تحصرها في معتقداتكَ ومقدساتك وتعاليمك.
ألاَ يقتضي الانصاف والنبل منك، أنْ تحترمَ وتقدَّر ذلك الذي لا يشارككَ معتقداتكَ ولا مقدَّساتكَ، لأنّه يملكُ من بصيرة الفهم ما يجعله أنْ يقرَّر بما هوَ عليه، ويملكُ أيضاً أنْ يكونَ حرَّاً في حريّة ما يؤمنُ به، لكنّه في الوقتِ ذاته لا يسلبكَ إيمانك ولا تعاليمك ولا قداساتك، ولا يطلبُ منك أنْ تؤمنَ بما يؤمن به، ولا يريدكَ مقتنعاً بما قرَّره لنفسه، لأنّه أصبح يعتقد واثقاً من أنّ الإنسان عليه أنْ يعرفَ جيّداً كيف يجبُ أنْ يملكَ منطقاً وفهماً في اقتناعهِ وقناعاته.؟
وأليسَ ما يجعلكَ إنسانيّاً في معتقداتكَ ومقدَّساتك، هو أنْ تملكَ من ثقافة التّهذيب وعيّ التّسامح وعقلية الانفتاح والتقبّل وجمال الفهم والتّفهّم، وإنّكَ في كلّ ذلك تنزع من مقدَّساتك ثقافة الكراهية، وتوجِد في نفسكَ قبل كلّ شيءٍ مساحةً كبيرة من الحبّ والنبل والتسامح، وإنّك هنا تعمل على تغييب الكراهية وتراهن في الوقتِ ذاته على حضور الحبّ. وما تملكهُ من ثقافة التهذيب والتسامح هو ذاته الذي يمنحكَ من صفاء الحبّ أخلاق التعايش، وكلّما كنتَ في مقدَّساتك إنسانيّاً كنتَ في أخلاقكَ متعايشاً، وستعرفُ لاحقاً بِأنّ ما يجعلكَ سعيداً في إيمانك، هو قدرتكَ الذاتيّة على منح الحبَ، وسعيكُ الدائم إلى طمس الكراهية.؟
إنّكَ لا تستطيع أنْ تجد الجمالَ في غيرك، ما دمتَ في مقدَّساتكَ كارهاً له، إنّها مقدَّساتكَ التي ترى أو تحاولُ أنْ ترى من خلالها أنّكَ الأفضل والأنقى والأطهر، وإنّها في كلّ شيء هيَ تملكُ وتمنحكَ أيضاً الأفضليّة والنقاوة والنزاهة والطَّهارة. وإنّكَ مهما حاولت فلن تستطيع أنْ تجد في غيرها شيئاً من جمال الإنسان أو الحياة أو الفكر أو الإبداع، ومهما ذهبتَ بعيداً فلن تستطيع أنْ تتلمّس في مقدَّسات غيرك أفكار الحريّة والفنّ والجمال والحبّ والإبداع والإنسانيّة. لأنّك لا ترى في مقدَّساته سوى القبح والدمامة والنّجاسة والإنحراف، فكيف تمنح الحبّ لغيرك ما دمتَ تعتقد أنّ في مقدَّساتهِ تطاولاً على مقدَّساتك، وما دمتَ تعتقد أنّ في مقدَّساته تهديداً لِمقدَّساتك، وما دمتَ تعتقد أيضاً أنّ في مقدَّساتهِ تقليلاً لمقدَّساتك. إنّكَ لا تستطيع إلاّ أنْ ترى فيها نقصاً وخراباً وفساداً ومجوناً، ولا تستطيع أنْ تعرفَ أبداً ما معنى أنْ تكونَ في الحبّ إنساناً ما دمتَ لا تقدّس في الآخرِ حريّته واختياره وقراره.؟
ما أبشع أنْ تكونَ متوافقاً مع استعراضاتِ مقدَّساتك هنا وهناك، وأنتَ لا تملكُ في استعراضكَ المهول هذا شيئاً من رزانة المنطق، ولا تملكُ فيه أيضاً شيئاً من جمال المعرفة والفكر، ولا من وقار الأخلاق والتّهذيب شيئاً، ولا من نظافة القلب ونقاء الضمير شيئاً آخر. أنّكَ في استعراضكَ هذا لا تنتصر لِمقدَّساتك ومعتقداتك، بِقدر ما تريد أنْ تتأكّد مِن أنّكَ توجدها انتصاراً لتعصَّباتكَ وانحيازاتكَ ومذهبيّاتك وتاريخك وأمواتك، وتوجدها تأكيداً منك على حاجتكَ الدائمة إليها، تستفرغُ من خلالها صراخاتك وبذاءاتك ودعواتك. إنّك لا تجد فيها حاجتكَ إلى التّحديق أو التفكير أو الإبداع أو الحبّ. ما أغباكَ أيّها الإنسان لا تتعصَّبُ إلاّ انحيازاً لجهالاتكَ وشرورك وجهلك المقدَّس، وما أتعسكَ وأنتَ تصنع مِن استعراضات مقدَّساتك قيوداً وأغلالاً على فهمك وحريّتك وإنسانيّتك.
ألمْ يخطر في بالكَ يوماً: ماذا لو حضرتْ كلّ مقدَّساتك الغائبة أمام عينيك، وتمثّلتْ أمامك وأصبحتْ بين يديك، ألاَ تفقد حينها مهابتها وضخامتها وقدسيّتها؟ إنّكَ ترى في مقدَّساتك ضخامةً مهولة ومهابةً عظيمة وقداسة مطلقة، لأنّكَ لم تختبرها أمامك ولم تكتشف حقيقتها في عينيك ولم تحاورها يوماً أو تُساءلها. وألم يخطر في بالك أيضاً: ماذا لو لم تستطع كلّ مقدَّساتك أنْ تحضر أمامك أو تتواجد في حضورك؟ إنّك لا تفكّر على هذا النّحو، لأنّكَ تريدها أنْ تبقى أبداً هناكَ في المستحيل عصيّةً على التناول، وصعبةً على الفهم، وخالية من الهنّات والعيوب والضعف، وتريدها كما تخالها دائماً أكبر وأقوى وأضخم منك، وتريدها في مهابة هذا الغياب المقدَّس بعيدةً هناك عن أيّ سؤال أو نقد. إنّك دائماً ما تخافُ من شيءٍ لا تستطيع أنْ تراه أو تعايشه أو تعرفه أو تفهمهُ. إنّك تريد أنْ تبقى في خوفك هذا، لكي تبقى مقدَّساتك أهمُّ وأعظمُ منك، وتبقى أنتَ كما تحبُّ أنْ تكون، تعترفُ دائماً بضعفكَ وارتجافكَ، وعجزكَ ومذلّتكَ، وجهلك، في مقابل أنْ تبقى مؤمناً بمقدَّساتك قويّة وعظيمة ومقدَّسة ومنزّهة وقادرة ومقتدرة.
أنتَ يا مَن ترى في مقدَّساتكَ كلّ مجدكَ وكلّ تاريخكَ، وكلّ وجودكَ، وكلّ عظمتكَ وارتفاعكَ وتعاليك. يا مَن ترى فيها مجداً يتشامخُ صخباً وهديراً وبريقاً من فوق هامات تعاليمكَ وكتبكَ ومنقولاتكَ بِالهتافات والاستعراضات والتّفاخرات. ألاَ ليت كلّ مقدَّساتكَ تلك تتشامخُ صمتاً ، أو وقاراً، أو أخلاقاً، أو إنساناً، أو منطقاً أو وعياً أو جمالاً أو اتّزاناً، أو استحياءً أو ذكاءً أو فنّاً.
وأليسَ ما يدعو إلى الأسى أنّكَ لا تستطيع أنْ تعتقد بالإنسان، لأنّكَ فقط تعتقد بِمقدَّساتك، وحتّى أنّكَ لا تعتقد بِذاتكَ أو وجودكَ، أو قيمتكَ أمام ما تعتقده بِضخامة وقداسةِ مقدَّساتك.؟ إنّكَ لا ترى في الإنسان قيمةً أو وجوداً أو كياناً حتّى، لأنّكَ ترى في مقدَّساتكَ كلّ الوجود والحضور والأهميّة والقوّة والوصاية والسُّلطة. إنّكَ لا تستطيع أنْ تجد ذاتكَ في إنسانيّتك، لأنّكَ قد وجدتّها من قبل في مقدَّساتك، وحتّى أنّكَ لا تستطيع أنْ تجد الإنسانَ في أصل الإنسان، لأنّكَ دائماً ما كنتَ ترى نفسكَ خاضعاً، ومرتجفاً، وضعيفاً، ومتضرعاً في مقدَّساتك. وما أهميّة ما يقوله الإنسان، أو يعتقد به، أو يقرّره أو يختاره، أو يتفّننُ به ويبدعه، ويبتكره ويصنعه، في مقابل ما تؤمنُ به من مقدساتٍ تبقى تراها الأقوى والأضخم والأنفع والأجدى منه ومنك.
كيف لا تستطيع أنْ تشعر بِالخزيّ من وجودكَ، وبِالإشمئزاز والنّفور من نفسكَ، وأنتَ في مقدَّساتكَ لا تستطيع إلاّ أنْ تأتي معتدياً على الآخرين، متوعداً ومتربّصاً بهم ومنتقماً منهم، ومحاسباً وناهياً وآمراً عليهم، وتحسبُ كما تحسبُ نفسكَ دائماً واعظاً وناصحاً لهم، وأنتَ فيما أنتَ فيه مِن تطاولٍ واعتداءٍ وتفاخر وتبجّحٍ ، لا تملكُ في كلّ ذلك تفسيراً منطقيّاً، أو إنسانيّاً، أو واقعياً عن فائدة ما تؤمن به من مقدَّساتكَ للآخرين. إنّكَ لا تستطيع أنْ تفهم أنّه مهما توافرتْ لديك من مقدَّساتٍ، فمن الجميل أنْ تجرّدها دائماً من سُلطة الوصاية والاستحواذ والهيمنة والتّوجيه. ومن الأجمل أيضاً أنْ تراها تقبل الجميع من دون أنْ تشترط عليهم باعتقادٍ أو إيمان أو طاعة. إنّها بِذلك لا تتوعَّد أو تسوقُ أحداً إلى الهلاك والعذاب، ولا تجرّد أحداً من حقّهِ كاملاً في الاختيار والقرار والمصير والحريّة.
وأليسَ مِن الجميل أنْ تجدَ ذاتكَ تسمو نبلاً وأخلاقاً وتهذيباً في إنسانيّتكَ، وليسَ في تقديسكَ الأعمى لِمقدَّساتك، لأنّكَ في تقديسها المطلق لا تستطيع إلاّ أنْ تكونَ متحيّزاً ومعتدياً، وفيها لا ترى غير جهلكَ المقدَّس وجهالتك بذاتكَ وإنسانيّتك وعقلك.؟ إنّكَ لا تستطيع أنْ تعرف السبب من وراء تقديسك الأعمى لِمقدَّساتك، ولا تهتمُّ أصلاً إلى معرفةِ ما يجعلكَ غارقاً في جهلكَ المقدَّس هذا، لأنّكَ على الدوام مُثقلٌ بالوهم. الوهم الذي يقطع عليكَ سُبل المعرفة، ويحتلُّ عقلك، ويصيبهُ بالعطب والشّلل والتّلاشي، ولأنّكَ دوماً مقيّدٌ بالخوف. الخوف الذي يختمر طويلاً في الشعور، ويترسَّخُ توجّساً وارتجافاً في النفوس والقلوب والعقول، ويُحيلها تالياً إلى خرائبَ وأطلال.
إنّكَ دوماً وأبداً تمضي مطمئناً إلى سلامة ونزاهة مقدَّساتك، وتعتقد جازماً خلوّها من الهنّات والتّعسفات والرداءةِ والمساوىء، لأنّكَ لا تستطيع أنْ ترى ما هو عكس ذلك، ولا تريد أنْ تفكّر لحظةً في خلاف ذلك، ولا تستطيع أنْ تصدَّق أنّه حتّى وراء أكثر القداساتِ تقديساً قد تتكاثر الأكاذيب والأوهام والخرابات، ولا تعرفُ كيف تجري الأمور في عقول مَن هُم ليسوا على مقدَّساتك، ولا تحاولُ أنْ تسأل نفسكَ يوماً لماذا أنتَ مطمئنٌ هكذا بالمطلق إلى مقدَّساتك ولا يشغلك شيءٌ في الحياة سواها، بينما الآخرون يمضون إلى حياتهم ألقاً وإبداعاً وتقدَّماً، وتفنّناً وازدهاراً، لا يشغلهم على الاطلاق التعلّق الأعمى والتعصَّب المقيت لمقدَّساتٍ ما في حد ذاتها.؟
ولأنّكَ تحسبُ بما أنتَ فيه مِن مقدَّساتك أنّكَ تنتصر فيها أبداً، حيث تراها ملاذك الوحيد في حياتك وفي كلّ شعورك وتفكيرك وسلوكك، ولذلك لا تستطيع أنْ تعرف أو لا يُمكن لكَ أنْ تتخيّل كم يستطيع عقل الإنسان دائماً أنْ يتخطَّى، ويتجاوز، كلّ ما مِن شأنهِ أنْ يضعه تحت الوهم، أو الخوف، أو التّعصَّب، أو الخرافة، أو البلادة، أو الجهل أو المهانة.
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي