من السهولة بمكان على مجتمعنا العربي المسلم، القابع وسط حريات نسبية لم تشفع له كثيرا، والمؤطر بثقافة أصولية فقهية تاريخية، طاردة للرأي الناقد المختلف، ومقصية الآخر الجارح تحت عنوان الثوابت، أن يبرز فيه مفهوم البشر المقدسين، في حين هم ليسوا بمقدسين، ليضع شخوص الغالبية العظمى من المخالفين والمختلفين والناقمين والناقدين لهؤلاء المقدسين تحت بند نشر الكراهية، هكذا بكل سهولة. لذا، أعتقد أن أسئلة لابد أن تطرح في هذا الإطار وهي: هل يمكن وصم بعض التفسيرات الدينية بأنها تحمل أجندة تحث على الكراهية لمجرد أنها مختلفة متباينة متنافرة يرفضها الآخر ولا يتحمل رؤاها ضد المقدس؟ وهل يتوافق هذا الوصم مع حرية التعبير؟ وهل يحق لطرف ديني أن يلغي طرفا دينيا آخر تحت عنوان “عدم الاعتراف به علميا وفقهيا” لأنه طرح رأيا دينيا تاريخيا مزعجا؟ ما هو موقع حرية الرأي في محاسبة من يعتبر رأيه مسيئا للسنة أو للشيعة؟ وهل الإساءة للسنة أو للشيعة تحتم التحريض، ولو من خلال القانون، على إقصاء الرأي وإقصاء الشخص من المجتمع؟ بعبارة أخرى، هل حرية الرأي تتعارض مع النقد اللاذع للرموز الدينية؟
في تقديري، أن مشكلة حرية الرأي وإقصاء التعبير وإلغاء الآخر وطرده من المجتمع، تتعلق بصورة واضحة وجلية بما يحتويه الفقه الديني السني والشيعي من تلك العوامل الطاردة للرأي ولصاحب الرأي والتي تقع تحت بند الولاء والبراء. فمشكلة أصحاب الولاء والبراء أنهم لا يستطيعون أن يتعايشوا مع المختلفين دينيا، كما لا يملكون من أمرهم شيئا إلا أن يحثوا على إقصائهم اجتماعيا، حتى يستريح بالهم أمام باريهم.
ومفهوم “الوحدة الوطنية” المطروح حاليا في مقابل حرية الرأي، أصبح بمثابة المؤسسة المسوّرة بأغلال من حديد يملكها الإقصائيون من أجل ممارسة مزيد من إقصاء الرأي والرأي الآخر وقمع أصحابه، حفاظا – حسب زعمهم – على الوحدة الوطنية. فبات يلعب هذا المفهوم دورا سالبا تجاه مسائل الحريات، بدلا من أن يكون محفزا على مزيد من الاختلاف في الرأي، وباعثا على العيش في إطار تنوع الكلام، وداعيا إلى تفوق النقد على المدح.
لقد لعب الدين، أو بالأخص الفقه الذي يعتبره ممثلوه هو صوت الدين الأعلى، دورا رئيسيا في قمع الآخرين، بحجة المحافظة على ثوابت الدين ومقدساته. وتجارب تلك الممارسات القمعية تثبتها الأحداث بدءا من الكويت ومرورا بإيران والسعودية وأفغانستان والسودان ومصر والجزائر وانتهاء بغيرها من البلدان التي استكبر الفقه فيها حتى بات أداة المقصين القوية، أداة تجاوزت كل الأعراف الإنسانية والقانونية، فمارست العنف بكل أنواعه من دون أي خجل أو خوف.
وفي حين أن الحرية، بجميع مكوناتها وأنواعها، يحب أن تنتزع من المجتمع، رغم ما يشوب ممارساتها من مثالب تجعل البعض يتحاشاها ويصد عنها. لكن، يجب ألا تكون تلك المثالب دافعا للتراجع عن الدفاع عنها، أو أن تكون فكرة الحرية في إطار القانون دافعا لتشريعات تحجم من دور الحرية في المجتمع.
ثم، من يستطيع ان يسكت “الأشرار” و”الخبثاء” في عالم الحرية والمعلوماتية الراهن؟ هل سحب الجنسيات وإلغاء المواطنة كفيل بذلك؟ هل التهديد بالقتل كفيلة أيضا؟ في تقديري أن مفهوم الحرية القانونية تجاوز المساحة الجغرافية ليصبح مفهوما عالميا بحيث لا يمكن حصره في إطار تشريعات محلية فحسب. لذلك، أعتقد أن القائمين على التيار الديني والمنتمين له، وكل من رضخ لآرائهم الرافضة للحريات، وكل من استخدم الدين عصاة للجم مخالفيه بحجة المحافظة على الثوابت والمقدسات الدينية، لا يعون بأن مسألة الحريات في عصرنا الراهن تفوق الفهم القاصر الذي يتبنونه. فإذا لم يعالجوا هذا الفهم فإن أدواتهم الإلغائية الإقصائية لن تشفع لهم ولن تساهم في الذود عن المقدسات، فإما قبول مفهوم الحرية العالمي الجديد بكل تفرعاته، وإما إلهاء المجتمع بمشاكل وخلافات تعيق في الدرجة الأولى الخطط الرامية إلى تحسين الحياة الإنسانية.
فرغم أن الغالبية ترفض وتستهجن وتستنكر وتهدد من يتعرض للثوابت والمقدسات الدينية، إلا أنه من يريد في المقابل الاستمرار في منوال نقده اللاذع والعنيف قادر على ذلك بكل أريحية، من خلال الحماية اللازمة التي يتلقاها من منظمات حقوق الإنسان، ومن خلال هامش الحرية العالمي الكبير الذي أوجدته العولمة المعلوماتية. بعبارة أخرى، أن مبعث الاستمرار هو الواقع العالمي الحقوقي الجديد المرتبط بالحريات وبحقوق الإنسان. ففي ظل هذا الواقع لا يستطيع أحد أن يدوس على الكابح أثناء سيره في شارع الحرية “المحلي”، أو أن يضع إشارة “نأسف للإزعاج” في ذلك الشارع من أجل إصلاح حاجات الحرية فيه، لأن طريق الحرية “العالمي” سالك وبسلاسة مما يجعل الناقد في غير حاجة للحرية المحلية الناقصة.
لذلك، لابد من البحث في أمر آخر، وهو، في تقديري، يكمن في التفكير في كيفية قيام الإسلاميين والليبراليين والمتشددين والأحرار والعقلانيين و”المجانين”، بتقديم تنازلات تتعلق بمفاهيم الحياة المعاصرة، وذلك من أجل العيش بسلاسة مع واقع الحرية العالمي الجديد.
إن الملابسات التي تصاحب النقد اللاذع ضد ما يسمى بالمقدسات، عادة ما تعري بصورة واضحة رؤى الإسلاميين الذين لا همّ لهم سوى الإنشغال بأحداث التاريخ وبصراعات أفراده المتوفين منذ مئات بل وآلاف السنين. إنهم يصرون على التمسك بهكذا إنشغالات، لذا لا أرى إلا أن يكون التعليم الحديث إحدى المعالجات الضرورية من آثارها، وفي إطار ذلك يبدو فصل الدين الفقهي عن التعليم مساهما رئيسيا في العلاج وعاملا أساسيا للوصول إلى رؤى دينية جديدة متصالحة مع الحداثة ومتوافقة مع الحياة العصرية.
ولأن الكويت مقبلة بين فترة وأخرى على هذا النوع من الأزمات (الطائفية)، فقد يكون السبب في ذلك هو الموقف الحكومي غير القادر على تحديد وجهته من الصراعات، وقد يكون في مواد بالدستور الكويتي، وقد يرى آخرون أن الخلل في الحريات النسبية الموجودة في المجتمع الكويتي، أو في التطورات المتعلقة بحرب تحرير العراق وفي الدور الشيعي الجديد المتنامي في المنطقة، أو في السياسة الحكومية الجديدة تجاه الشيعة. وفي خضم كل ذلك، لابد من صناعة مؤتمرات بحثية تستطيع أن تطرح حلولا علاجية تستند إلى مكونات الحياة في العصر الحديث، وإلا فإننا مقبلون على أزمات أشد من دون طرح حلول واقعية لها..
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com