الشفاف- خاص
يتفق المراقبون ان الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية بدأت منذ وصولها إلى السلطة بقيادة رجب طيب اردوغان مطلع الالفية الثالثة نهجا جديدا تلخص بشعار “صفر مشاكل” مع المحيطين العربي والاسلامي.
من هنا كان القرار التركي بالانفتاح على إيران وتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في اكثر من مرحلة، خصوصا عندما قررت طهران اعطاء تركيا هامشاً اوسع واكبر في مساعي حل ازمة الملف النووي، وكانت ترجمته الابرز بمشاركة اردوغان إلى جانب الرئيس البرازيلي “دا سيلفا” بتوقيع ورقة تفاهم طهران حول الملف النووي ثم اصرار طهران على عقد اجتماع دول 5+1 على الاراضي التركية.
دوائر القرار في إيران تؤكد ان زيارة وزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو الاخيرة إلى طهران في العاشر من يناير 2012، صاحب نظرية “صفر مشاكل” كانت خالية الوفاض.
وتعتقد هذه الدوائر ان سياسة “التصفير” ساهمت في زيادة المشاكل والازمات الخارجية لتركيا، اضافة إلى ان انقرة تحولت إلى وسيط للسياسات الامريكية في المنطقة.
وتخلص هذه الدوائر ان داود اوغلو حاول تغليف رغبات انقرة بغطاء نقل رسالة من المسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي كاترين اشتون إلى إيران والمتعلقة بضرورة استئناف المفاوضات النووية بينها وبين مجموعة “5+1”. ليبحث مع القيادة الايرانية التطورات العراقية والسورية ونشر رادرات انذار مبكر لنظام الدرع الصاروخي الامريكي على الاراضي التركية، وان يقدم للجانب الإيراني براهين على حسن النوايا التركية بالتأكيد على نية بلاده رفع مستوى التبادل التجاري والطاقة إلى 30 مليار دولار، وان الحكومة التركية لن تطبق قرار فرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني الذي اقره الرئيس الامريكي باراك اوباما مؤخرا وتنوي دول الاتحاد الاوروبي الانضمام اليه وفرض عقوبات على استيراد النفط الإيراني.
زيارة داود اوغلو تأتي بعد اقرار قانون ادانة المجازر الارمن في البرلمان الفرنسي والكنيست الاسرائيلي وما تركه من اثار سلبية على علاقات انقره، وهي محاولة لاستعادة دور الوسيط بين إيران والغرب في عدد من الملفات المتأزمة.
وفي هذا الاطار كشفت النشرة الداخلية لحرس الثورة الاسلامية الايرانية عن رؤية هذه المؤسسة لابعاد الزيارة الاخيرة للوزير التركي وموقف حكومته من التطورات الاقليمية.
وقد جاء في نص الفقرة المتعلقة بالزيارة ان رد طهران كان واضحا من التطورات الاقليمية والملف النووي فيما يتعلق بالتطورات الاقليمية والملف النووي وقد اعلن عنه في كثير من الاوقات بشكل رسمي، الا انه هذه المرة قد وضع امام داود اوغلو بشكل تفصيلي. وان شروط وموضوعات التفاوض في المرحلة الحالية تختلف كثيرا عن ما كانت عليه قبل سنة من الان. وان إيران ليست بحاجة إلى التفاوض من اجل تبادل الوقود.
وهنا تعتقد طهران والمؤسسة العسكرية ان “الصحوة الاسلامية” في المنطقة والتسونامي الذي قضى على الانظمة المرتبطة بالغرب والانسحاب الاجباري لامريكا من العراق واعلان الادارة الامريكية عن استعدادها للتفاهم مع اعداء الامس في افغانستان من اجل تأمين انسحاب يحفظ لها ماء الوجه من هذا البلد، اضافة إلى استمرار إيران في استكمال انشطتها النووية وتخزين اليورانيوم المخصب، تعتبر او تشكل ابعاد مهمة تفرض نفسها على اجواء المفاوضات تختلف بشكل كامل عن اجواء السنة الماضية.
بالاضافة إلى ان الازمة الاقتصادية في امريكا واوروبا وارتفاع الاصوات المنادية بالانفصال بين هذه الدول إلى حد انها باتت واضحة بين الدول الاوروبية وتغير الاولويات الامريكية وتحولها من اوروبا باتجاه آسيا، كل ذلك يشكل ابعاد تؤثر على العلاقات بين القوى الكبرى، اذ ساهمت في رفع التوتر بين امريكا مع روسيا والصين في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني واخرجته إلى العلن بشكل اكثر وضوحا من السابق.
والاتراك الذي تحولوا إلى صندوق بريد لامريكا في المفاوضات التي استضافتها اسطنبول لم تراع لهم حرمة، قبلوا تولي هذه المهمة من جديد ووافقوا على نقل رسالة السيدة اشتون الامر الذي لن يسمح لهم بلعب دور كبير او لن يمنحهم سوى هامش محدود للمناورة. وعلى الرغم من ذلك فان الرد والمتضمن الموافقة على استئناف المفاوضات كان قد اعطي لداود اوغلو في وقت.
اما الرد الإيراني على داود اوغلو حول الموضوع السوري، فقد اكد على الخطأ التركي الذي ارتكب في هذا الاطار والاضرار التي تلحقها هذه السياسات التي تأتي في السياق نفسه للسياسات الاسرائيلية والامريكية والغربية التي لا يمكن ان تلعب دور المدافع عن الشعوب ومطالبهم المحقة.
في الملف العراق ايضا، تعتقد طهران ان تركيا ولمدة طويلة كانت تعتمد في سياستها الامنية على دعم تيار صغير في هذا البلد، وفي تحول كبير وقفت إلى جانب امريكا وغيرها ودعمت تيارات تثير الشكوك وارهابية وبعثية، والان وبعد اتهام طارق الهاشمي وصالح المطلك ورافع العيساوي بالقيام باعمال ارهابية، فهي قلقة من خسارة ادوات نفوذها في العراق. بالاضافة إلى تركيا تواجه عقوبات اقتصادية في كل من سوريا والعراق، وان الاستمرار في السياسات ستجر عواقب وخيمة على الاقتصاد التركي. وقد يكون هذا الامر احد الاسباب التي دفعت انقرة على تسريع تعاونها الاقتصادي مع إيران للتعويض عن الخسائر التي تسببت بها تردي العلاقات مع سوريا والى حد ما العراق. وقد سمع داود اوغلو ايضا في هذا الموضوع ردا واضحا حتى لا يربط نفسه بالسياسات الامريكية.
اما المحور الابرز الذي تطرقت له المباحثات مع داود اوغلو في طهران فكان مسألة نشر منظومة الانذار المبكر للدرع الصاروخي الامريكي على الاراضي التركية، وقد حاول داود اوغلو التغاضي عن هذا الموضوع في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الإيراني علي اكبر صالحي، خاصة فيما يتعلق بالمخاوف والتحذيرات الايرانية حول الامر، الا ان كلام الوزير الإيراني اجبرت الوزير التركي على القول بان هذه المنظومة لن تستخدم ضد إيران ودول المنطقة الاخرى. ومن الطبيعي ان يكون داود اوغلو عارفا بهذه الكذبة الدبلوماسية، لانه سبق وان وافق على الامر في اجتماع الناتو عندما جرى بحث الموضوع ولا يملك الحق على كيفية استعمال او استخدام هذه المنظومة.
والى جانب ان الزيارة لم تحمل لداود اوغلو شيئا، الا انه لم يعد خال الوفاض من طهران، بل حمل معه رسالة ايرانية واضحة مفادها ان على الامريكيين الخروج باسرع وقت من المنطقة.
اعادة حسابات تركية
على صعيد اخر، وبغض النظر عن الاهداف الاستراتيجية التي حكمت التوجه الإيراني الجديد وتوظيفه على الصعيد الاقليمي والدولي فان هذه الخطوة قد تعيد للتوجهات التركية نحو العالم الاسلامي وقضايا المنطقة الزخم الذي فقدته وسمح لها بلعب دور الوسيط بين طهران وبعض العواصم العربية فيما يتعلق بالموضوع العراقي والقضية الفلسطينية وتطورات الصراع العربي الاسرائيلي.
انقرة بقيادة اردوغان استغلت التراجع والارباك الذي اصاب دور النظام العربي في تصديه لقضايا وازمات المنطقة فتقدمت بسرعة لملء الفراغ على الساحة الاسلامية والعربية ومحاولة اقصاء الدور السعودي الذي بقي صامدا بعد غياب الدور المصري.
ولعل الازمة اللبنانية وتداعيات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري قد فتح الباب واسعا امام القيادة التركية للعب هذا الدور البديل عن السعودية عندما لجأت إلى احتضان النظام السوري في الوقت الذي كان يعاني فيها من عزلة عربية وحصار سياسي عربي ودولي بسبب اتهامه بعملية الاغتيال، فعقدت تحلفا مع دمشق يرقى إلى التحالف الاستراتيجي ووقعت اتفاقيات اقتصادية وامنية متعددة مع الحكومة السورية ولعبت دورا في ترطيب الأجواء المتشنجة بين دمشق والعديد من العواصم الدولية والعربية.
هذا الدور المتنامي لتركيا، لم يكن نتيجة لجهود قام بها حزب العدالة والتنمية واردوغان، بل كانت نتيجة لرغبات الاطراف الاقليمية والدولية، فقد حاولت بعض الاطراف ان تدفع بتركيا للعب دور في المنطقة لمواجهة النفوذ الإيراني المتنامي، اضافة للرهان على امكانية ان ينجح اللاعب التركي المستجد على الساحة العربية والاسلامية في ابعاد دمشق عن طهران وبالتالي اضعاف التحالف الممتد من إيران وصولا إلى لبنان وفلسطين. في حين ان طهران هدفت من وراء تعزيز علاقتها بأنقرة ان تحقق احد هدفين، الاول استخدام الدور التركي في التلويح للدول العربية خصوصا الخليجية بامكانية ان تلعب تركيا الدور القيادي إلى جانب طهران في العالم الاسلامي، اضافة إلى استخدام تركيا كصندوق بريد للرسائل التي تريد إيران ايصالها إلى المجتمع الدولي الاوروبي والاميركي في بعض المسائل والمواضيع المتعلقة بقضايا المنطقة وعملية السلام في الشرق الاوسط.
في المقابل فقد استفادت تركيا من هذا الهامش الواسع الذي استطاعت تحقيقه اما من خلال لجوء الاطراف الاقليمية إلى اسناد ادوار لها، واما من خلال العمل على ترجمة جزء من طموحاتها الموصولة بالحنين لاستعادة بعض التاريخ العثماني في المنطقة والعالم الاسلامي.
الاستثمارات السياسية التركية في المنطقة لم تقف عند هذه الحدود، بل دخلت بقوة على خط الازمة الفلسطينية للتقليل من التأثيرين الإيراني والسوري على حركة حماس واخراجها من دائرة التحالف مع هذا المحور.
وقد شككت ايران في الموقف التركي من حركات “الربيع العربي” ووصفته بالموقف البراغماتي والمصلحي، وتعتقد طهران ان التورط التركي في الازمات التي تشهدها عدد من الدول العربي او دول الربيع العربي قد زاد وضوحا مع حركة الاحتجاج التي تشهدها سوريا، فتخلت عن علاقاتها مع دمشق وما بنته خلال العقد الاخير لصالح المشروع الغربي في مسعى يصب في اطار الجهود التي تبذلها بعض الاطراف الدولية والعربية ودفتر الشروط الذي وضع امام النظام السوري بالتخلي عن تحالفه مع ايران ووقف دعمه لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين.
يبدو من خلال اعتماد تركيا خيار المواجهة مع دمشق انها ذاهبة باتجاه المواجهة ايضا مع طهران التي اكدت عدم تخليها عن حلفائها في المنطقة، وبالتالي فان فاتورة الخسارة التركية في المستقبل في حال فشل رهان القيادة التركية على تغيير النظام في سوريا سيكون كبيرا وغير قابل للتعويض. وستكون عاجزة عن ترميمه لانها تكون قد خسرت اخر مدخل لها على المعادلات الاقليمية من البوابة السورية.
وتعتقد طهران ان القيادة التركية قد دخلت في مقامرة خطيرة وكبيرة وضعت فيها كل ما تملكه من امكانية لعب دور اقليمي على طاولة الرهان انطلاقا من موقفها المعادي لدمشق، خصوصا بعدما تأكد خروجها وانعدام تأثيرها في الوضع العراقي، اضافة الى تزعزع علاقتها مع طهران وافتقادها لدور الوسيط بينها وبين المجتمع الدولي الذي حصلت عليه بقرار ايراني.
والى جانب كل هذه الخسائر، فان حظوظ تركيا في التعويض في منطقة اسيا الوسطى سيواجه نفوذا ايرانيا وروسيا واسعا بين شعوب هذه الدول نظرا للعلاقات والروابط التاريخية التي تربط بينها وبين ايران من جهة، التواجد الروسي التاريخي في هذه الجمهوريات الجديدة.
المعطيات الاخيرة التي يكشفها الارباك العربي والدولي في الموقف من الاحداث السورية، خصوصا بعد قرارات الجامعة العربية، يدفع للاعتقاد ان النظام السوري ما زال يتمتع بتأييد ايراني روسي واسع وان سقوطه امر مستبعد او مؤجل، اضافة الى ان القرار الاميركي بتولي الجيش التركي بطلب عربي وبدعم غير علني ومباشر من حلف الناتو عملية ايجاد شريط عازل داخل الاراضي السورية على الحدود مع تركيا سيكون خيارا يعطي النظام في سورية دافعا قويا للتصدي لمحاولة تقسيم سوريا او ادخالها في معمعة حرب داخلية. وبالتالي فان أي نتائج ستسفر عنها هذه التطورات مرهونة بمدى قدرة النظام في سوريا على التصدي لمحاولات تفتيته بعد فشل محاولات اسقاطه من الداخل عبر المظاهرات الشعبية، وعليه فان فشل هذه المحاولة ستضع تركيا امام خطر خسارة كل اوراقها الاقليمية التي وضعتها على طاولة المقامرة.
fahs.hassan@gmail.com
* كاتب لبناني- دبي
المقامرة التركية: كيف تقرأ إيران مستقبل الدور التركي في المنطقة
هذا تحليل سطحي, تركيا تراهن على الشعوب وهو الثابت بينما إيران نزعت قناع التقية وتراهن على نظام ساقط فمن هو المقامر