أن تقرأ لبعض أقطاب الفكر في “العالم العربي” أفضل من أن تسمعهم أو تراهم أو تكون في حضرتهم وجها لوجه وتدخل معهم في علاقات تبادلية. فشتّان بين أن تتأمّل في ما كتبه ” العلاّمة” من آراء تثير فيك الإعجاب وتدعوك إلى الإبحار في عالم المعرفة وأن تعاين على أرض الواقع سلوك” المثقّف الكبير”، حينها تصاب بالإحباط وبخيبة الأمل وتتبدّد أحلامك.
“المفكّر العملاق” والعبارة لهشام جعيط متشائم إلى حدّ كبير يتهم الجميع بالقصور والتقصير ويرى الرداءة و الانحطاط من حوله ولا يعجبه العجب العجاب إلاّ إذا استثنينا المديح حينها يستعذب المثقّف خطاب التمجيد ويصمت في حرم المدّاحين . فالمثقف كأغلبية الشعراء والفنانين والساسة وغيرهم، شغوف بنفسه مولع بإنجازاته وفتوحاته المعرفية ، حريص على هذا الإعجاب، يتلمّسه في عيون الآخرين وفي كلامهم ويبحث عنه في كلّ مجلس ويتوقّع أصداء له في وسائل الإعلام ، فإذا ما وجدها أخذته “عزة الخيلاء”، وكأنّه يعيش حالة التماهي مع النجوم.
إنّ هذه النزعة الاستعلائية ليست إلاّ علامة على مدى تغلغل النسق الفحولي في ثقافتنا. فالذات المستعلية، تجعل صاحبها يصاب بحالة عمى مستديمة. فهو المركز والآخرون في الهامش ولا مجال للحوار بين الأنا والآخر المختلف لأنّ شرط المحاورة ، من منظور من تضخّمت أناه هو المُماثلة في المقام: المعرفة والطبقة والجنس. ولا غرابة في ذلك فما ترسّخ في المتخيّل وما حفظته الذاكرة الجمعية هو أنموذج الأنا المتضخّمة المتفرّدة الملغية للآخر والطاغية. ولعلّ خير من عكس هذا الأنموذج المتنبّي حين قال:
• أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
• فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
• ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
أنا الثريا ودان الشيب والهرم
“المفكّر العملاق” صاحب المؤلفات العديدة التي قدّمت إضافة إلى الفكر العربي، إن كان ذلك على مستوى المنهج أو النتائج المتوصّل إليها أو المواقف التنويرية التي اتخذها والقضايا الشائكة التي عالجها بعمق وجرأة ، هو نموذج يدعوك إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء ازدواج المعايير لدى فئة من المثقفين وعن مدى تمثلهم لقيم الحداثة.
فالمثقّف الذي روّج للفكر الحداثي وأشاد بقيم الحداثة كالكرامة والحرية والمسؤولية واحترام حقوق الإنسان، لا ينبري عن تجريح الآخر وانتهاك كرامته وتبخيسه في كلّ المناسبات وإلغاء وجوده كذات إنسانية من حقها أن تستفسر وأن تسأل وأن تحاور. ولا غرابة أن يصدر عن المثقّف مثل هذا السلوك العدائي فعقدة تضخم الذات ومنطق التفحّل المعرفي يقتضي ممارسة التسلّط والقهر والإخصاء حماية للمنزلة والطبقة، وفي حالات دفاعا عن الجنس ورغبة في تشكيل صورة يحب أن يظهر عليها: صورة الفحل الذي يهابه الجميع ويخشون بطشه. فأين هي منزلة الحوار؟ وهل هو شعار نروّج له عبر الكتابة ونعجز عن ممارسته على أرض الواقع المعيش؟
لئن أشاد المثقّف بأنّ الديمقراطية تكمن بالأساس في عدم استعمال العنف ضد الرأي المخالف وعدم فرض الآراء بالقوّة، وهي تقتضي معاينة القضايا الاجتماعية وتحليلها فإنّ الواقع يشير إلى نتائج أخرى. فمتى وُضع المثقّف على محكّ التجربة واختبرت قيمه وأفكاره انقلب إلى متسلّط منغلق على اختصاصه الضيّق متمسّك بفضائه الأكاديمي.
والمفكّر الذي أبدى إعجابا كبيرا بالفلاسفة وفضّلهم على سواهم يتناسى الأسس التي قام عليها فنّ المحاورة والجدل، كحسن الإصغاء والاستيعاب والصبر والأناة… وسرعان ما يضيق صدره وتغيب اللباقة وغيرها من المبادئ التي تكون الآداب الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي ترتكز عليها العلاقات التبادلية بين الناس بقطع النظر عن معتقدهم ولونهم وجنسهم وعنصرهم.
والمفكّر الذي طالما علّم الأجيال النسبية والرصانة العلمية وعدم التسرّع في الوصول إلى النتائج لا يتوانى عن تقديم ملاحظات انطباعية قائمة على التعميم. فلا أحد قرأ أعماله وفهمها ولا أحد استوعب خطابه وقدّر حجم الكشوفات المعرفية التي توصّل إليها.
والمفكّر الذي طالما ألحّ على أنّه “يجب أن ينتزع من الطغاة احتكار الكلام واحتكار التأثير على الجماهير” (هشام جعيط ، أزمة الثقافة الإسلامية،دار الطليعة، بيروت، 2000، ص 121) يفضّل أن تكون العلاقة بينه وبين الجمهور علاقة قائمة على التقبّل والإصغاء والتتلمذ والتلقين تسترجع الأنموذج الأصلي في العمليّة التربوية أو التأديبيّة أو التدبيرية :الشيخ والمريد، المعلم والمتعلّم ، الراعي والرعية ، الكبير والصغير ، الرجل والمرأة، السيّد والعبد .
هذه الذات المستعلية الملتذّة بتفوّقها تصنع صورة للأنا وللآخر. فالأنا غارقة في عالم الأسطرة والقداسة والآخر لم يفارق وضعه التقليدي، وإن اختلفت التسميات السائدة في خطاب المثقف. لقد انتقلنا من عبارات ‘العامة’ و’الغوغاء’ والبله’ والوخش’ إلى عبارات البليد، والقاصر ذهنيا، والجاهل ، والمنحط ، والتافه…ولئن كان الظاهر يوحي بأنّ المثقف الذي يقصي الآخر ويحتقره يعيش حالة من الطمأنينة والسكينة فإنّ المتأمل في هذا السلوك ينتبه إلى أنّ مصدر التشنّج في عديد المرات، هو الشعور بالتهديد وبالخوف وبالخطر . فمتى ادعى “المفكّر العملاق” أنّ مشاهدة التلفاز مضيعة للوقت إذ لا يليق بالمفكر الحقيقي أن يهدر طاقاته في متابعة ما يعرض من مواد إعلامية تافهة فوراء هذه الادعاءات عجز عن مواكبة العصر والانخراط في قضايا المجتمع وقصور عن الانفتاح على علوم العصر. فما يعرض على الفضائيات العربية ‘تافه” من منظور،”المفكّر العملاق” ولكنّ المقاربات الحديثة في العلوم الإنسانية صارت تولي التافه Le banal أهميّة كبرى في فهم الحياة اليومية وتحليل الظواهر الاجتماعية والسلوكية والبنى الرمزية والأنساق وغيرها.
ولئن اعتبر المفكر الفذ أن لا مجال للاهتمام بخطاب الدعاة وشيوخ الإفتاء فلأنه بقي حبيس الوثائق التاريخية والمصادر المكتوبة والأطر المعرفية التي تولي الكتاب الأهمية الكبرى في العمل الأكاديمي وفات ،”المفكّر العملاق” أنّ علوم الميديا تفرض نفسها اليوم بقوة فنحن أمام تعدد الاختصاصات ” الميديا والدين” ، الميديا والمرأة”، ” الميديا والعنف” ونحن إزاء تحليل برامج متنوعة Talk Shows
;Reality Television وغيرها.
ثمّ إنّ هناك فرقا بين مشاهدة التلفاز للإستئناس به ومتابعة البرامج بحثا عن الفرجة واتخاذ البرامج مصدرا للدراسة وفق مناهج دقيقة تفرض شروطا محددة لممارسة المشاهدة (Practices of Watching). ولئن أبى،”المفكّر العملاق” الاعتراف بأنّ الثقافة التي يعمل على تأسيسها والقائمة على العقلانية ونزع الأسطرة وغيرها من المبادئ قد أصبحت في الهامش ولم تعد تشكلّ المتن المعرفي .كما أنّها باتت ثقافة مهدّدة تواجه اليوم منافسة حادّة أتت لتفرض هيمنتها على شرائح كبرى من الناس وهي ثقافة الصورة وثقافة الدعاة والشيوخ. إنّ هذه الثقافة زحزحت منزلة المثقّف عن مكانها وجعلت صورة الداعية مسيطرة على الألباب ومهيمنة على العقول. وهكذا انتزعت استراتيجيات الهيمنة من يد المثقّف الذي ظلّ يعيش على التصنيفات القديمة للعلوم والمعارف: العلوم الشرعية والفاضلة في مقابل العلوم المرذولة.
إنّ هذه الحالة الدرامية التي تعيشها فئة من المثقفين تبعث على الاكتئاب وتدعو إلى مزيد التمحيص للبحث عن الخلفيات والعوامل والأسباب المؤدية إلى هذا الارتداد إلى الذات.
فقد آثر هؤلاء البقاء في أبراجهم العالية وتقوقعوا على ذواتهم وكلمّا تمت دعوتهم للالتقاء بالجمهور تهجّموا على الآخر وهكذا ينفلت العقال وتتجلّى نرجسية المثقف .
وما من شكّ أنّ تمسّك “المفكّر العملاق” بحق التميّز و عجزه عن تمثيل مختلف الفئات الاجتماعية والحفر في تلك القضايا التي غالبا ما تنسى ويغفل أمرها هو الذي خلق حالات التبعيّة والإحباط واحتقار الذات، ومعنى ذلك أنّ دور المثقف صار التدمير لا البناء، القهر والازدراء لا الاحترام والإصغاء إلى هموم الآخرين.
إنّ حيازة السلطة المعنوية والأدبية لا تبرّر ممارسة العنف وإدانة المختلف: استنقاص الآخر من أجل إعلاء الذات مسلك لا ينمّ عن تقبّل لقيم الحداثة واستيعاب فعلي لمنظومة حقوق الإنسان وانخراط في فكر الاختلاف. وليس احتقار الآخرين وكرههم إلاّ علامة على احتقار الذات.
إنّ حيازة السلطة ‘الأبوية’ لا تشرّع نسف جهود الآخرين وإن اختلفت قيمة ومنهجا ونتائج بدعوى ‘علوّ الدرجة وحكم السنّ’ . فمن حقّ جميع البشر أن ينعموا بمعاملة قائمة على معايير سلوكية قوامها احترام إنسانية الإنسان، و لا يمكن السكوت على الانتهاكات التي تصدر عن “المفكّر العملاق” بل ينبغي فضحها بكلّ شجاعة • فقد آن الأوان لتحويل سلوك المثقف إلى موضوع للنقد والمراجعة في إطار السعي إلى تأصيل دوره. فليس التراث أو الموروث الاجتماعي أو المعرفة التقليدية أو الخطاب الديني وغيرها من القضايا محل إعادة نظر وتأسيس فحسب ، إنّما نحن بحاجة إلى إعادة النظر في صورة المثقف وفضح ازدواجية المعايير لديه والفجوة التي تفصل بين ما حبّره والكلم الذي نظمه وبين الفعل في الواقع وأمام الآخرين. إنّ العمل على نقد سلوك المثقف، أمر مشروع خاصة بعد أن فقد أسلحته “وضاعت هيبته”، وأصبح يشكّل وجهاً من وجوه الأزمة الثقافية.
إنّ هذه الممارسات التي لا تنمّ عن وعي أخلاقي تكشف النقاب عن وقوع المثقف تحت الأسر وعجزه عن التحرّر من ضغوط الواقع المادي والسلطوي والنفسي، والأيديولوجي والديني والطبقي والعرقي والجنسي، تلك الضغوط التي تكبّل الإنسان وتحد من رؤيته لذاته وللآخر وللكون. فما يميّز المثقف ليس دفاعه عن الحق والحرية وانطلاقه في حفريات معرفية وتخلصه من ‘السرديات الكبرى’ فقط، بل هو أيضا ما يتمتع به بالفعل من حرية داخلية، تلك الحرية التي تسمح له بأن يفارق الالتزامات المفروضة بحكم الولاء والانتماء والرغبات والمصالح، وهو ما يؤهله لتبني سلوك أخلاقي مسؤول منسجم مع الآراء التي روّج لها. ولابد من استلهام بنية جديدة تجعل المفكّر قادرا على خلق نمط من العلاقات المختلفة والتحرّك في فضاءات أرحب لا تبني الجدران العازلة بين الأنا والآخر المغاير بل تحقق اللقاء والتفاعل الخلاّق.
amel_grami@yahoo.com
* جامعية تونسية
“المفكّر العملاق”: الوجه والقفا
الزمبلة العزيزة آمال
تحية
كان الأجدر أن تذكري السياق الذي دفع بك إلى ” مهاجمة” الدكتور جعيط بكل هذا العنف .
“المفكّر العملاق”: الوجه والقفا
تماما كما ينظر معظم المثقفين من ما يسمى بدول المركز الى المثقفين من دول الاطراف.
“المفكّر العملاق”: الوجه والقفا
السيدة آمال،
إنها فعلا أزمة حقيقية. وليس لقارئك إلا الاعتبار بهذه التجربة القاسية المفيدة في آن : فيبدو أن الوقت قد حان لوضع المفاهيم العميقة محل تساؤل، أعني أسس العلم الحقيقية من تواضع وانفتاح ذهني لا يُكتفى بتحبيره عل الكتب بل يمارس في الواقع.
“المفكّر العملاق”: الوجه والقفامفهوم الصنم -خالص جلبي – أرسل لي من الرياض الأخ عمر يسأل عن مفهوم الوثن؟ وهي المسألة الجوهرية التي ناقشها القرآن. وقصة الطالبان مع تدمير صنم بوذا تفتح النقاش حول مفهوم الصنم فما هو ؟ قد يكون الصنم حجراً أو بشراً أو (أيديولوجية)، ولكنه يتظاهر دوماً بأنه متعال ما فوق بشري، يملك صفات خارقة، ويتلّون حسب العصور، ويفرض على العقل الإنساني الانصياع والرهبة أمام (سيطرته). لذا وصف الفيلسوف (محمد إقبال) أن الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الأزمنة:(تبدل في كل حال مناة … شاب بنو الدهر وهي فتاة). ولم تهدأ معركة (الصنم) و(الفكرة) عبر التاريخ. فقد يكون… قراءة المزيد ..
“المفكّر العملاق”: الوجه والقفا
لك مني اجمل التحايا.الحقيقة اني ارغب بالحصول علي مؤلفك الاخير فقد قرات عته و وددت قراءته.خاصة ان مقالاتك تتميز بالعمق و الجدية و الطرافة.و هو امر لا اجده الا قليلا.