كان المفكر المبدع البريطاني جورج أورويل مميزا كإنسان وككاتب. وككل شاب كان أورويل يملك الكثير من التعاطف الإنساني والمشاركة الوجدانية الثرة. ثار في البداية على النظام الاجتماعي لعصره ولأمته وتحمس للثورة الروسية وللاشتراكية ودافع عنها بفكره وقلمه وخاض المخاطر من أجلها ولكن سرعان ما تحطمت آماله بالثورة البلشفية بعد ما حل بالتروتسكيين على أيدي الستالينين في الحرب الأهلية في اسبانيا. إن فجيعة جورج أورويل بالثورة الروسية هي التي دفعته إلى كتابة روايته «مزرعة الحيوانات» التي بنى فيها عالما متخيلا من الحيوانات يسرد فيه تاريخ الثورة البلشفية،وكيف انتهى بها الحال في إطارالاستبداد الستاليني.
وجدير بالذكر أن مجلة التايم اختارت هذه الرواية كواحدة من أفضل مئة رواية إنكليزية صدرت بين عامي (1923– 2005) وفي تصنيف صدر من دار النشر الأمريكية العريقة راندوم هاوس صنفها النقاد في المرتبة 32 من 100 على مستوى روايات القرن العشرين. وفي تصنيف أخر لنفس الدار تم بناء على رأي الجمهور، تم تصنيفها في المرتبة 21. ومع ذلك، كانت الرواية محظورة في الكثير من الدول والكثير من المكتبات حين صدورها باعتبارها رواية سياسية خطيرة. هذه الرواية تذكرني بكتاب كليلة ودمنة وقصصه الرائعة التي تدور في الغابة وعلى ألسنة الحيوانات، ولكن قارئ رواية مزرعة الحيوانات لا يستطيع أن يتجاوز التشابه الكبير بين شخصيات الرواية وبعض الشخصيات الحقيقية في الثورة البلشفية.
حين كتب أورويل «مزرعة الحيوانات» بوصفها «أول كتاب حاولت فيه، بوعي كامل لما أقوم به، أن أدمج السياسي والهدف الفني في بوتقة واحدة» كما سيقول أورويل نفسه في نص عن الكتاب جاء في كتابه «لماذا أكتب؟». ثم كتب موضحا غرض وظروف كتابة مزرعة الحيوانات: «خلال السنوات العشر الأخيرة بت على قناعة تامة بأن نزع القناع الواقي عن خرافة السوفيات، أمر ضروري إن كنا نريد حقاً إعادة الحياة إلى الحركة الاشتراكية» ويتابع: «لدى عودتي من اسبانيا، وجدت أن في إمكاني أن أكشف حقيقة الخرافة السوفيتية الستالينية في قصة يمكن أي امرئ أن يفهمها بسهولة… كما يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى. غير أن التفاصيل ظلت عصية عن الوصول إلى أن شاهدت ذات يوم في قرية صغيرة كنت أعيش فيها، صبيا يسوط جواده بعنف في طريق ضيقة يبتغي المرور بها. على الفور واتتني الفكرة: لو كانت هذه الحيوانات واعية بقوتها لما كان في إمكاننا أن نتسلط عليها. أما الناس فإنهم يستغلون الحيوانات بالطريقة نفسها التي يستغل بها الأغنياء الفقراء البروليتاريين..».
لقد عرفت جورج أورويل من خلال هذه الرواية منذ ربع قرن أو أكثر عندما كنت أعيش في لندن.و حسب الفيلسوف الشهير برتراند راسل أن كتابات أورويل السياسية هي التي ستبقيه في ذاكرتنا وبخاصة روايته «مزرعة الحيوانات». قارن راسل هذه الرواية مع رحلات غوليفر للأديب البريطاني (جوناثان سيوفت) ولا سيما المقطع الذي يتحدث عن الهويننمس(الأقوام التي التقاها غوليفر في رحلاته). يقول: «من الصحيح أن حيوانات أورويل بما فيها الحصان النبيل، لا تشبه تجسيدات سويفت للعقل الصقيعي. لكن أورويل شأن سويفت انتمى بعد موت الملكة آن إلى حزب مهزوم وكلاهما عانى من الهزيمة ومن ثم اليأس. وكلاهما جسد اليأس الذي أحسا به بهجاء لاذع وساخر. لكن وفي الوقت الذي يعكس فيه هجاء سويفت كراهيةً كونية مشوشة، نجد عند أورويل رقة باطنة: فهو يكره أعداء من يحبهم، بينما لا يستطيع سويفت إلا أن يحب (وبشكل باهت) أعداء من يكرههم. وأكثر من ذلك فإن بغض سويفت للبشر ينشأ بكليته من طموح محبط، بينما تنشأ كراهية أورويل من خيانة المدافعين، بالاسم فقط، للمثل الكريمة. إن أورويل لا يشارك سويفت أيا من هزائمه. ففي مقالة لافتة عن غوليفر يعلن أورويل بإنصاف وإقناع، عن صغار آمال سويفت وغباء مثله”.
إن الكاتب جورج أورويل مفكر سياسي ومبدع روائي وناقد اجتماعي وكاتب مقالة فذ ومناضل مبدئي وهو شخصية خلافية وهامة في تاريخ الفكر السياسي البريطاني بل والغربي المعاصر. تأثر أورويل منذ طفولته بكتابات برنارد شو وسومرست موم وصاموئيل بتلر وقرأ كافة أعمال هـ. ج. ويلز وكان كومبتون ماكنزي قد أشعل حرائق الدهشة في نفس الصبي إيريك بلير بروايته المذهلة شارع الفساد والتي قرأها أكثر من خمس مرات.إن أورويل- هذا الاسم الشهير غير حقيقي وهو اسم مستعار اتخذه أريك بلير المولود في 25 حزيران 1903 في قرية مونتهاري بولاية البنجاب الهندية لعائلة من الطبقة الوسطى.لكن بلير لم يستخدم هذا الاسم إلا عندما ألف كتابه الأول (التشرد في باريس ولندن). ثم نشر كتابه الثاني «أيام بورما» وبعده رواية « ابنة قسيس »التي أتبعها برواية أخرى بعنوان « لتبقى زنبقة الإسبديسترا تحلق عاليا »في عام 1936 .وفي هذا العام نفسه تزوج للمرة الأولى وفتح دكانا صغيرا يعمل فيه بالنهار ويكتب بالليل وفي نهاية هذا العام توجه إلى اسبانيا ليعمل مراسلا صحفيا هناك وكانت ثمرة خبراته في الحرب الاسبانية كتاب بعنوان «تقديرا لكاتولونيا»وفي كتابه « الطريق إلى ويغان بير» عاد أورويل لفترة وجيزة إلى نقد الفقر والنظام الطبقي الانكليزي والاشتراكية التقليدية واستمر نقده بعد ذلك في أعماله السياسية اللاحقة.
يقول في هذا الكتاب: أردت أن أهرب من كل أشكال هيمنة الإنسان على الإنسان، والبناء الاجتماعي السائد في ظل الإدارة الاستعمارية في بورما كان أساسه الهيمنة على الآخرين.. ليس فقط البورميين بل أيضا الإنجليز من الطبقة العاملة. وقبل أن يبدأ في كتابة روايته المشهورة عالميا “مزرعة الحيوانات” كان قد التحق بهيئة الإذاعة البريطانية وبعد أن ترك عمله بها عمل محررا أدبيا في صحيفة تريبون.
في عام1938 أصيب أورويل بمرض السل وسافر إلى المغرب وقضى هناك بعض الوقت وألف روايته الخروج من أجل الهواء وفي عام 1946ألف روايته الأخيرة (1984) والتي أحدثت دويا قويا لا بل شديدا عند صدورها على كافة المستويات الأدبية والفكرية والسياسية لأنها مرافعة قوية ضد الطغيان واحتجاج صارخ ضد إهدار كرامة الإنسان وسلب حرياته وما زال هذا الدوى يتزايد مع مرور الزمن.
في هذه الرواية أثبت جورج أورويل أنه ليس أديبا متألقا فحسب بل أثبت أنه مفكر سياسي كبير لم يكتفِ بتحليل الفكر الاستبدادي وتحليل طريقة عمله بل تجاوز ذلك ليتنبأ بنبوءة مستقبلية متكاملة مذهلة لما سوف يؤول إليه هذا الفكر إن استمر حاله على ما هو عليه. وقد ذهب البعض أن ما تتحدث عنه الرواية ينطبق على جمهوريات الخوف والبطالة في العالم العربي أكثر مما تنطبق على أي مجتمعات أخرى. ويرى عزيز ضياء رحمه الله مترجم هذه الرواية إلى العربية بأنه رغم فظاعة الطغيان الذي يصفه جورج اورويل في روايته إلا أن الرواية بتفاصيلها المرعبة تتسم بشيء من الإنسانية قياسا بما عاشه الإنسان تحت طغيان جمهوريات الخوف والبطالة. يرى جلال أمين في كتابه (شخصيات لها تاريخ): «أن صانعي القرن العشرين كثيرون من ستالين وهتلر إلى آينشتاين وبيكاسو ولكن قليلين هم من عبروا عن ضمير القرن: الذين كرهوا العنف وشجبوا الحرب ووقفوا إلى جانب الفقراء واحتقروا الكذب والدعاية السياسية وغضبوا لأي مساس بكرامة الناس ولم يروا أي مبرر للتمييز بين الأبيض والأسود أو لتفضيل الأوروبي على الآسيوي أو الإفريقي أو للرجل على المرأة وحلموا بمستقبل جميل للجميع وعبّروا عن كل ذلك بفصاحة مؤثرة وفعالة إن هؤلاء هم ضمير القرن العشرين ولابد أن يأتي جورج اورويل قريباً جداً من رأس القائمة…» والبليهي الكاتب المعروف يقول: «إن جورج اورويل يعتبر أن الطغيان السياسي هو الآفة الأولى في الحياة البشرية لأنه يذل الناس ويلغي عقولهم ويطمس فردياتهم ويفسد لغتهم وتنقلب المفاهيم والمعاني إلى ضدها ويبرمجهم على القبول التلقائي والاستسلام المهين فيفقد الإنسان امتيازه الذي خصه الله به وبهذا التدجين والطمس والإلغاء تضمر قابليات الإنسان العظيمة وتستفحل قابلياته السيئة ويتوقف نمو المعرفة وتتراجع الحضارة كما أن اورويل يستهجن الانتفاش الارستقراطي ويحتقر الطبقات الطفيلية ويتعاطف مع الكادحين ويدافع عن المظلومين وينحاز انحيازا كاملاً للفقراء وينفر من المظاهر الفارغة ويمقت النفاق ويحرص على الوضوح ويؤمن بالمساواة الإنسانية أمام القانون وفي تكافؤ الفرص ويرمي بنفسه بمواقع الخطر من اجل هذا الإيمان.. …» .
لقد استطاع جورج أورويل في روايتيه الأخيرتين أن يحيل الكتابة السياسية إلى فن كما أراد وعبر في مقاله “لماذا أكتب؟”. وبقى أن نذكر أن جورج أورويل كان عصاميا في بناء ذاته وتكوين نفسه فكريا ومعرفيا ولم يتجاوز في الدراسة النظامية المرحلة الثانوية. وفي عام 1950 مات المفكر المبدع جورج أورويل الذي شغل الدنيا بأعماله ولم يتجاوز في عمره السابعة والأربعين قضاها في الكفاح والفقر والمعاناة والجوع والتشرد. لكن كل ذلك لم يثبط عزيمته ويضعف إرادته ولم يصرفه عن أداء مهمته في الحياة كانسان حر وكمثقف حقيقي ملتزم.
soubhidarwish@gmail.com
كاتب سوري ـ باريس
المفكر المبدع جورج أورويل
قرأت الرواية كاملة عدة مرات وعشت لحظاتها فوجدتها وكأنها كتبت في العام2011 وكاتبها يعيش في إحدى المدن العربية لا سيما ذوات النظام الجمهوري..
مشكور أخي الكاتب فلن نجد رواية تصفنا ـ نحن العرب ـ إلا هذه الرواية، ويمكننا استدعاء جورج أورويل ليكون شاهدا علينا في حين ما بعد الثورات العربية.. لا سمح الله
المفكر المبدع جورج أورويل
الاستاذ صبحي درويش
تحية عطرة
لم استطع اكمال رواية 1984 لاصابتي بهلع شديد حين شهدت التشابه العظيم بين الواقع الذي كنت اعيشه في الثمانينات في واحدة من جمهوريات الخوف وبين تفاصيل الرواية خاصة عند قيام احد الاطفال بالابلاغ عما يعتمل في راس ابيه وهو نائم
مثل هذا تكرر كثيرا وكنت شاهدة عليه،وكان الاباء يعذبون ويعدمون استنادا الى اقوال ابنائهم
لقد استطاع هذا الرجل ان يتكهن بما سوف تكون عليه الانظمة الشمولية وهذا اعظم انجاز لجورج ارويل
حتى يومنا هذا لا اعرف كيف انتهت عليه رواية ارويل ولا اريد ،فبعض العلم يؤرق
مقالة لذيذة جدا
سلمت اناملك
المفكر المبدع جورج أورويل
كاتب ممتاز وقرأت له رواية مزرعة الحيوان وقمة في الروعة
الرائع جورج
هو أصابهم في مقتل منظري الثورات الفاشله في العالم الثالث خاصه والعالم ككل عامه للأسف هذه حقيقه مايجري في كل تلك البلدان المهم حظيت بشرف قراء الروايه (مزرعه الحيونات الثورية ) هكذا كانت مترجمة للعربية فعلى كل من يقوم بثورة أن يكون الأنسان في صدارة مايهتم به مباشرة بعد بيان الثورة , جورج شكرا