نالت اندونيسيا مؤخرا ثناء نادرا من المجتمع الدولي بصفة عامة و من الولايات المتحدة واستراليا بصفة خاصة لجهودها التي وصفت بالرائعة في مكافحة الإرهاب و ضرب شبكاته الأخطبوطية. و جاء ذلك على خلفية اعتقال الإرهابي و المقاتل السابق في أفغانستان و جنوب الفلبين “ابودجانة” في التاسع من يونيو المنصرم في عملية مداهمة في وسط جاوه، والذي أدى بدوره إلى اعتقال إرهابي كبير آخر هو “شركسي” الذي تبين انه القائد الأعلى لما يسمى بالجماعة الإسلامية المتهمة بالوقوف خلف العديد من أعمال التفجير و القتل في اندونيسيا و أماكن أخرى من جنوب شرق آسيا.
و الحقيقة أن حكومة الرئيس الاندونيسي “سوسيلو بامبانغ يودويونو” تستحق مثل هذا الثناء لأكثر من سبب. ففي عهدها الذي بدأ في سبتمبر 2004 على اثر فوز “يودويونو” في أول انتخابات رئاسية مباشرة تجرى في البلاد منذ استقلالها في عام 1949، تراجعت العمليات الإرهابية إلى حد كبير، و استطاعت الأجهزة الأمنية توجيه ضربات متتالية إلى الشبكات الإرهابية عبر اصطياد كبار رموزها و أدواتها. و لولا وجود بعض القوانين المقيدة لعمل هذه الأجهزة – مثل قانون مكافحة الإرهاب لعام 2003 الذي لا يسمح بحجز المشتبه بهم أكثر من سبعة أيام إلا في حالة تمكن السلطات الأمنية من تقديم أدلة دامغة ضدهم خلال هذه الفترة القصيرة غير الكافية لجمع و توثيق القرائن – و لولا صخب و ضجيج جماعات حقوق الإنسان التي يندس فيها الكثيرون من المتعاطفين مع الإرهابيين، لكان بالامكان تحقيق نتائج أفضل شبيهة بتلك التي حققتها سنغافورة و ماليزيا المجاورتين واللتين تتيح قوانينهما توقيف و حبس المشتبه فيهم في قضايا الإرهاب دون محاكمة لزمن غير محدد.
ويمكن القول أن جزءا كبيرا من نجاحات جاكرتا هذه يعزى إلى إدارة “يودويونو” الحاسمة والقوية والمختلفة تماما عن إدارات الزعماء الثلاثة الذين توالوا على الحكم منذ سقوط نظام الديكتاتور احمد سوهارتو في عام 1998 و بدء الحقبة الديمقراطية، و تميزت عهودهم بالتردد والضعف وإمساك العصا من منتصفها لأسباب انتخابية و مصالح خاصة. فعلى العكس من أسلافه الثلاثة يوسف حبيبي و عبدالرحمن وحيد و ميغاواتي سوكارنوبوتري، جاء “يودويونو” إلى السلطة بتخويل شعبي مباشر لعبت فيه نزاهته و نظافة كفه دورا كبيرا. كما أن خلفيته العسكرية الطويلة لعبت دورا في انتهاجه لسياسات حاسمة لا تقبل بأنصاف الحلول و لا تتهاون في مسائل الضبط والربط.
لكن الأهم من هذا أن العلاقات الشخصية القوية التي استطاع بناءها مع الإدارة الأمريكية، من بعد علاقات متوترة في عهود أسلافه، ساهمت كثيرا في تخفيف ضغوط واشنطون على جاكرتا، فضلا عن مساهمتها في عودة المساعدات العسكرية و الأمنية الأمريكية لاندونيسيا بزخم اكبر. و في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى الدور المحوري للمفرزة 88 في مكافحة الإرهاب، و التي لولا تدريبها على يد مختصين أمريكيين و تزويدها بأحدث الأسلحة و التقنيات الأمنية الأمريكية لما استطاعت أن تبرز كأحد أهم وحدات مكافحة الإرهاب على مستوى العالم.
وتعود قصة هذه المفرزة التي تضم نحو 800 من عناصر النخبة في القوات الاندونيسية الخاصة، و تشمل مهمات أفرادها المقنعين القنص و مداهمة المواقع و تفكيك الألغام و المتفجرات، إضافة إلى أعمال جمع الأدلة و فحصها و تقديم العون إلى رجال الشرطة و التحقيقات، إلى عام 2003 الذي شهد ميلادها بتمويل من جهاز الأمن الدبلوماسي في وزارة الخارجية الأمريكية، و ذلك ردا على تفجيرات بالي الأولى في أكتوبر 2002. و يقال أن الرقم 88 في اسم المفرزة يشير إلى عدد السياح الاستراليين الذين قضوا في هذه التفجيرات، فيما تقول رواية أخرى أن اختيار هذا الرقم تحديدا كان بسبب شكله الذي يشبه القيد الذي تقيد به الشرطة أيادي المعتقلين.
وعلى الرغم من تأسيس المفرزة في عهد الرئيسة “ميغاواتي سوكارنوبوتري”، فإنها لم تبدأ نشاطها الفعلي إلا في عام 2005 ، ربما بسبب عدم جاهزيتها أو بسبب تلكؤ إدارة “ميغاواتي” الضعيفة في منحها صلاحيات كافية. و منذ العام المذكور الذي شهد تفجيرات بالي الثانية و حادثة الاعتداء على السفارة الاسترالية في جاكرتا، حققت المفرزة إنجازات مشهودة على صعيد ضرب الشبكات الإرهابية في البلاد. فاستطاعت مثلا القبض على ما لا يقل عن 220 عنصرا إرهابيا خطيرا، و نجحت في قتل احد أهم المطلوبين وهو الماليزي “أزهري بن حسين” الذي وصف هو ومواطنه الفار “نورالدين محمد توب” بأنهما من كوادر الجماعة الإسلامية العليا المسئولة عن تجنيد الانتحاريين و التخطيط لعمليات التفجير، كما تمكنت من الاستيلاء على كميات ضخمة من الأسلحة و المتفجرات و المواد الكيماوية من مخابيء في وسط و شرق جزيرة جاوه.
على أن إنجازها الأخير، المتمثل في القبض على “ابودجانة” و “الشركسي” الملطخة اياديهما بدماء المئات من الأبرياء في حوادث العنف منذ عام 2002 ، له أهمية خاصة كونه اثبت، من خلال ما أدلى به المعتقلان من معلومات، زيف الادعاءات القائلة بأن “الجماعة الإسلامية” مجرد وهم أو اختراع غربي لضرب القوى الإسلامية المناهضة للولايات المتحدة، على نحو ما كان يردده رجل الدين الاندونيسي من اصل حضرمي المثير للجدل “ابوبكر باعاشير” ، والذي تبين من اعترافات “ابودجانة” انه كان على علم بتفجيرات بالي الأولى، بل كان بمثابة المحرض والمستشار الفقهي للجماعة.
إلى ذلك، هناك من يعتقد أن هذا الإنجاز سوف يدفع بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى تغيير مواقفهم المعارضة لتقديم المزيد من المساعدات العسكرية و الأمنية إلى جاكرتا في عام 2008 ، بل مواقفهم الداعية إلى تقليص هذه المساعدات بذريعة أن جاكرتا لم تقم حتى الآن بإصلاحات ملموسة في مؤسستها العسكرية، و لم تحاكم بعد جنرالاتها المسئولين عن أعمال القمع و التنكيل في تيمور الشرقية إبان خضوع الأخيرة للسيادة الاندونيسية، بل و تحاول تمرير قانون في البرلمان يسمح بإعطاء القوات المسلحة دورا في حفظ الأمن الداخلي و مطاردة الإرهابيين وإجراء التحقيقات، أي على نحو يشبه ما كان سائدا زمن الديكتاتور سوهارتو.
وأخيرا فان ما تحقق لا يجب أن يعطي انطباعا خاطئا بان حقبة الإرهاب في اندونيسيا قد أوشكت على الانتهاء. فالتحديات التي تنتظرها المفرزة 88 و غيرها من أجهزة الأمن الاندونيسية في القادم من الأيام كثيرة و كبيرة، خاصة في ضؤ الاعترافات و الأدلة و المعلومات المتجمعة التي تؤكد أن كوادر “الجماعة الإسلامية” و أنصارها سواء داخل اندونيسيا أو في جنوب الفلبين المسلم قد بدأوا تنفيذ مخطط لإشعال حرب دينية شاملة في منطقة “بوسو” في إقليم “سولاويزي”، عبر استغلال الاحتقان القائم فيها أصلا ما بين المسلمين و المسيحيين، و الذي تسبب في مقتل نحو ألفين من سكانها قبل التوصل إلى هدنة هشة في عام 2002 برعاية الحكومة المركزية.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh