تتعامل الكثير من الأطراف مع المسألة السورية على أنها مسألة إرهاب ولاجئين، وتنسى العمق المتمثل بطبيعة النظام وجعل سوريا جسرا للمشروع الإمبراطوري الإيراني، ومنصة لإعادة النفوذ الروسي إلى الشرق الأوسط.
وصلنا في 28 نوفمبر الماضي إلى الجولة الثامنة من مسار جنيف للمفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة في سوريا والذي انطلق عام 2014 تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن تشهد عاصمة كازاخستان يومي 21 و22 ديسمبر الحالي، انعقاد الجولة الثامنة من مسار أستانة للمحادثات بين النظام والفصائل العسكرية المعارضة تحت إشراف روسي- إيراني- تركي، علما أن هذا الترتيب بدأ بعد منعطف حلب أوائل 2017، وتقرر إبان جولته الأخيرة إطلاق مسار جديد تحت مسمى “مؤتمر الحوار الوطني السوري” الذي أخذت موسكو توجه الدعوات إلى ممثلي “شعوب سوريا” (ربما بمعنى مكونات أو شرائح) لانعقاده في منتجع سوتشي في فبراير 2018، مع أمل وطيد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أن يحل هذا المسار مكان المسارات الأخرى ويعتمد “الحل السياسي” العتيد للمحرقة السورية.
يتضح من تضارب مسارات المفاوضات وكثرة المؤتمرات المتنقلة بين العواصم والمدن في عدة قارات، بالإضافة إلى عدد اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، أن المسألة السورية شهدت، كما لا يضاهى من المناورات الدبلوماسية والرهانات المتنـاقضة في موازاة ترجمة ذلك، تدميرا للبشر والحجر والدولة. وهكذا في أواخر 2017 على مشارف الذكرى السابعة لانطلاق الأحداث السورية، تسود موجة تفاؤل مصطنع ومبالغ به عن نهاية حقبة الإرهاب واستتباب الأمر للنظام وقرب إعادة الإعمار. لكن الواقع الفعلي هو على العكس من ذلك ويدلل على الحلقة المفرغة للفعل الدبلوماسي كما تؤشر جولات جنيف المتكررة من دون نتيجة، ومناطق خفض التصعيد وحصادها المتباين واستمرار عجز ما يسمى المجموعة الدولية وذلك في ظل سعي “القيصر الجديد” لتركيب حل تجميلي لبقاء النظام كي يكون “بطل السلام” كما كان “بطل الحرب”، أو في ظل استمرار غياب الدور السياسي الفعال لواشنطن والذي لا تستر عوراته بيانات ريكس تيلرسون عن “نهاية حكم عائلة الأسد” ويذكر ذلك تماما بمقولة الأيام المعدودة لحكم الأسد حسب باراك أوباما في أغسطس 2011.
وتتعامل الكثير من الأطراف وخاصة الأوروبية مع المسألة السورية على أنها مسألة إرهاب ولاجئين، وتنسى العمق والخلفية وسبب المأساة الحقيقية المتمثل بطبيعة النظام وجعل سوريا جسرا ونقطة ارتكاز للمشروع الإمبراطوري الإيراني، ومنصة لإعادة النفوذ الروسي إلى الشرق الأوسط والعالم. والأدهى في الأمر، التحول التركي وتركيز الرئيس رجب طيب أردوغان على الهاجس الكردي في المسألة السورية، وتعامل روسيا الحاذق في تنظيم التقاطع بين الحلف الاستراتيجي مع إيران في الميدان، والتنسيق المقنن مع تركيا، والعناية بالمطالب الأمنية لإسرائيل، وكل ذلك من دون الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية كما تدلل حركة “قوات سوريا الديمقراطية” (نواتها الأساسية قوات الحماية الكردية) المدعومة من واشنطن والتي تسيطر حاليا على حوالي ربع مساحة الأراضي السورية بالإضافة إلى حقول الطاقة الأساسية ومواردها.
مع قرب انتهاء المعارك ضد المعاقل الأساسية لداعش في سوريا، نشهد قلة نوعية نحو بدء مرحلة “تصفيات الحروب السورية” ومن الواضح أن ما يجري على الساحة الدبلوماسية لا ينفصل عن النتائج الميدانية لأن النزاع في سوريا هو أول نزاع إقلیمي دولي متعدد الأقطاب في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرین حيث تزامنت عدة حروب في حرب:
◄ الحرب الأهلیة السوریة وأبرزها مواجهة النظام وقوى الحراك الثوري وتشعباتها المذهبية والإثنية.
◄ حرب الجهادیين في بلاد الشام التي تعكس حرب المحاور الإقليمية والنزاع السني الشيعي والوجود الأجنبي المناصر.
◄ الحرب ضد الإرهاب وداعش تحديدا إن من قبل التحالف الدولي بقیادة أمیركیة أو من المحور الروسي الإیراني.
◄البعد الكردي المتصل مع وجود الأكراد في الإقلیم والتجاذب الإقلیمي والدولي حیاله وحیال ما یسمى مكونات أقلیة.
◄ العامل الإسرائيلي من خلال غارات عسكرية وتدخلات دبلوماسية تحت عنوان البعد الأمني.
◄ البعد الدولي مع التدخل الروسي الواسع والوجود الأميركي على الأرض.
إنها سلسلة مترابطة من نزاعات وحروب محلیة وإقلیمیة ودولیة في إطار صراعات على النفوذ والهیمنة تتعدى الساحة السوریة. وكان واضحا منذ البداية أن تغيير وجه سوريا يعني تغيير وجه الإقليم. وصدرت الإشارة الأولى من مؤتمر جنيف 8 هذه الأيام، حيث أخذ يرد في الوثائق تعبير “سوريا” وليس “الجمهورية العربية السورية”، وما تعبير “شعوب سوريا” بالبريء لأن ذلك يعني أن الكيان السوري الحالي قيد الدرس وأن الهوية السورية الواحدة تتنازعها أبعاد وهويات.
إزاء تعقيدات الواقع وتضارب المسارات، تصدر إيحاءات طمأنة ميدانية مثل سحب 400 جندي أميركي من الرقة أو إعلان موسكو عن قرب بدء تخفيف الوجود العسكري الروسي في سوريا، لكن الحصار والموت الزؤام يضربان دوما الغوطة الشرقية (حيث يلفت النظر طلب النظام تدخل قوات صينية خاصة للتدخل هناك ضد جهاديين من تركستان الشرقية)، والأمور غير محسومة في إدلب وعفرين ناهيك عن ألغام منطقة خفض التصعيد في الجنوب وشبح التدخل الإسرائيلي.
وعلى الصعيد الدبلوماسي لا يبدو أن روسيا القادرة عسكريا تتمتع بنفس المهارة في إخراج الحلول الدبلوماسية ولا تمثل “الابتكارات” من أستانة إلى حميميم وسوتشي مخارج للحل السياسي الواقعي. وبالرغم من تعطيل روسيا العملي لبيان جنيف (يونيو 2012) وللقرار الدولي 2254 عبر استخدام سلاح “الغموض غير البناء” في ربط الانتقال السياسي بالإجماع (ما يعادل الفيتو المتكرر عشر مرات في مجلس الأمن الدولي) وإغراق المعارضة السورية بالمنصات لضرب التفاوض، تمكنت المعارضة بالرغم من ضعفها البنيوي وبمساعدة من تبقى من الداعمين من الوصول إلى جنيف 8 بوفد موحد وبسقف سياسي معقول. وأخذ ينكشف أمام العالم رفض النظام التفاوض المباشر وبروز المأزق كاملا لأنه “نظام الكل شيء ولا شيء” وهو ليس في وارد أي تنازل ولو شكلي.
على صعيد أكثر شمولية تخالف الوقائع التمنيات ومقابل اتهام موسكو لواشنطن بأن أداءها غير بناء على المسرح السوري، تتهم الأخيرة الجانب الروسي بأنه لم يف بوعده بإبعاد الميليشيات الإيرانية وحزب الله عن المنطقة الجنوبية في إطار اتفاق خفض التصعيد فيها، تعود الطابة إذن إلى مرمى الكبار وهناك توجد كلمة السر الضائعة أي التوافق الفعلي في الحد الأدنى بين موسكو وواشنطن. من دون ذلك سيستمر تمرير الوقت والرقص على الركام السوري بين مسار وآخر. لا بد من انتظار “غودو” إدارة ترامب كي يسعى لإقناع الجانب الروسي بآلية حل سياسي واقعي من خارج مسارات التمييع ومن خارج أطروحات تأهيل النظام أو تقاسم المغانم في مناطق نفوذ، وربما يكمن ذلك في تصور لدولة سورية فيدرالية موحدة يرأسها مجلس انتقالي من العناصر الجيدة عند كل الأطراف.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس