صدر تقريران حديثان حول الشأن المغربي سيطيّران، أو هكذا نفترض، النوم من أعين أصحاب القرار السياسي، وعلى رأسهم الملك محمد السادس. التقرير الأول داخلي، كشفت من خلاله منظمة “ترانسبارنسي المغرب” التي تُعنى برصد ظاهرة الرشوة المتفشية في الحياة العامة المغربية، عن الخريطة السياسية المحتملة لما بعد انتخابات الخريف المقبل التشريعية، حيث أضاف التقرير المزيد من الملح على الجرح الموجع من خلال التنصيص على أن “حزب العدالة والتنمية” الأصولي “المعتدل” سيكون هو الفائز بأغلبية المقاعد.. ليس ذلك فحسب، بل يُؤكد التقرير أن “حزب العدالة والتنمية يُشكل استثناء للقاعدة الحزبية، من جانب مُتابعته للأهداف التي سطرها، واعتماده على بنية حزبية مُنظمة يُعتبر أداؤها الأكثر ديمقراطية ضمن المشهد السياسي المغربي”.
ليس من شك في أن هذا الكلام الإيجابي في حق حزب ذي مرجعية أصولية لن يُعجب (وهذا وصف هين) أصحاب القرار في المغرب، سيما أن سبل الطعن في مصداقية المنظمة واضعة التقرير ليست بالمتيسرة. ذلك أن “ترانسبارنسي المغرب” تُعتبر واحدة من الأفضل والأكثر مصداقية ضمن المنظمات غير الحكومية القليلة الموجودة في الساحة الحقوقية والمدنية. ناهيك أن القناعات السياسية لمسيريها تعود للاتجاهات اليسارية. فرئيسها عز الدين أقصبي، على سبيل المثال، قيادي سابق في “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”..
تقرير هذه المنظمة الحقوقية المغربية لم يفته أن يُؤكد كذلك بأن “الأحزاب السياسية تبدو في الغالب متحجرة، وذات بنية تنظيمية
ضعيفة، وليس بمقدورها إنتاج وتفعيل مبادرات ذات جدوى على مستوى البرلمان. كما أن رصيدها من المصداقية لدى الناخبين يبدو ضعيفا”.. هذه الرسالة البليغة موجهة للسياسيين من قادة الأحزاب، الذين سيمتعضون كثيرا، ويشتمون – في السر- عز الدين أقصبي وجماعته “المارقة” لكنهم بكل تأكيد لن يُفكروا في السبل الناجعة لإنقاذ تنظيماتهم من الاضمحلال فالزوال.
أما التقرير الثاني الذي،ربما، سيجعل مسألة نوم المسئولين المغاربة أعقد، فمصدره منظمة “هيومان رايتس واتش” الأمريكية غير الحكومية، منحت المغرب تصنيفا سيئا ضمن كوكبة مجتمعات العالم فيما يتصل بحقوق الإنسان الأساسية، وحرية التعبير، حيث يتوقف التقرير بكثير من التأني الفاحص عند مسألة تعدي السلطات المغربية على حقوق الصحراويين في منطقة الصحراء الغربية: اعتقالات بالجملة، الملاحقات البوليسية… أما على الصعيد الداخلي فيرصد التقرير الانتهاكات التي طالت حرية التعبير والنشر، من خلال المتابعات التي طالت الصحافة والصحافيين.
وإذا أضفنا إلى الإفادات السيئة لهذين التقريرين ما أسفر عنه تقريران أمريكيان آخران متخصصان ستكتمل عناصر الأرق لدى المسئولين المغاربة- أو هكذا نفترض- ويتعلق الأمر بتقرير “كارينجي إندومنت” الصادر في شهر نوفمبر 2006 الماضي، وتقرير “إيفيس” المؤرخ بشهر يناير الماضي. ويجتمع هذان التقريران في القول بأن “الانتقال الديمقراطي المغربي” كان نصيبه الفشل، وانهيار الإصلاحات المعتمدة في المجال السياسي، وتراجع الحريات حثيثا إلى الوراء.
المسئولون المغاربة، وتحديدا الملك محمد السادس، وكوكبة المتنفذين المحيطين به (في شكل تدبيري أوليغارشي مُقَنَّع) تلقوا مع هذه الإستخلاصات السلبية، تنقيطا “مناسبا” للسياسة التدبيرية التي يعتمدونها. وسيلي ذلك بكل تأكيد، المزيد من التهميش لسياستهم على المستوى الدولي، سيما من الإدارة الأمريكية،التي يُجهد “خبراء” الدعاية الدبلوماسية في بلاط الملك أنفسهم، من أجل نيل رضاها.
تبدو تلك الأيام الأولى المتفائلة من بداية حكم محمد السادس بعيدة جدا، حين طفق أغلب المتابعين في الداخل والخارج، يُكيلون عبارات الثناء عل ما أُطلق عليه “العهد الجديد”. حيث مُنحت للملك الجديد آنذاك، القديم الآن (من منظور السياسة الحديثة التي تحدد مدة تولي رئيس الدولة لمهامه في أربع أو خمس سنوات) “نوايا إصلاحية” كثيرة أكبرها تغيير الدستور بما يقلص من صلاحيات الملك التشريعية والتنفيذية الكثيرة، المخترقة لصلب الشأن العام، والتخلي عن المظاهر البروتوكولية “المخزنية” العتيقة، مثل لازمة تقبيل يده، التي تنطوي على الكثير من المهانة لكبار السياسيين والقادة العسكريين، ومن خلالهم كل الشعب المغربي، بما يفرغ، ضمنيا، أية مبادرة سياسية من محتواها إذا لم تكن صادرة عن الملك.
الواقع أن هذا الأخير كان قد ورث، عقب موت والده الحسن الثاني، مشهدا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا على درجة كبيرة من الإنهاك، إن لم نقل الانحلال. ووجد هو والكوكبة الأوليغارشية المحيطة به، القليلة التجربة، أن استقامة الأمور تتطلب الكثير من الجهد والمخاطرة، وهو ما ليس متوفرا، حسب إفادات مقربين من البلاط الملكي، في شخص الملك محمد السادس. ناهيك عن الإمعية المرسخة بالقوة، في الطبقة السياسية الحزبية والتدبيرية، ومساعديه المقربين. ومن ثم كان الخيار السهل هو إبقاء الأمور على ما هي عليه، مع بعض الروتوشات السطحية، من قبيل تحسين الوضع القانوني للمرأة- وهي خطوة رغم أهميتها القصوى، تظل بلا مفعول في أرض الواقع، بالنظر إلى التخلف الاجتماعي والاقتصادي- والتعويض المادي لبعض ضحايا سنوات الحكم الأثوقراطي المطلق، الذي اعتمده الحسن الثاني طوال زهاء أربعة عقود، وشراء ذمم بعض كوادر اليسار المغربي الذين كانوا محسوبين ضمن أشد معارضي نظام الحسن الثاني.
أما بخصوص رحابة صدر النظام بصيغته الجديدة آنذاك، التي حاول المكلفون بالدعاية لـ”العهد الجديد” عنذئذ تسويقها لدى الرأي العام الدولي، وذلك من خلال السماح بهامش من الحرية للصحافة والصحافيين، فقد تركت مكانها لضيق صدر شديد تعبر عنه محنة بعض الصحافيين المغاربة الجيدين والجديين، بدءا بقضية الصحافي علي لمرابط المحكوم عليه بالمنع من مزاولة مهنته لمدة عشر سنوات، وصولا إلى استقالة وهجرة صحافي آخر هو أبو بكر الجامعي. وبين هذا وذاك المنع الذي طال مجلة “نيشان” والحكم على صحافيين منها بثلاث سنوات سجنا موقوفة التنفيذ، وغرامة مالية قدرها 80 ألف درهم، وقضايا أخرى شبيهة يضيق عنها المقام، تلتقي كلها تقريبا عند محاكمات بتهم “المس بشخص الملك” و”الإخلال بالإحترام الواجب له”.
وإذا ما ظللنا في مجال حرية التعبير فكم تبدو تلك الأيام بعيدة جدا حين طفقت بعض الأقلام النزيهة، على صفحات بعض الجرائد المستقلة، تدعو إلى تحديث النظام السياسي عبر تجريده من مُطلقيته، وتفكيك الخلايا “المخزنية” النشيطة، المزروعة في كل مجالات السياسة والمجتمع… أذكر من تلك الأقلام الأستاذة نديرة برقليل ومحمد السبتي،على صفحات جريدة “الأحداث” المغربية، وعلي لمرابط وأبو بكر الجامعي، على صفحات مجلة “لوجورنال”.. لقد تم إسكات مثل هذه الأصوات بطريقة أو بأخرى، لتعود الأمور كما كانت عليه من قبل، تلخصها هذه العبارة الضاجة بالمعنى:”اصمتوا إننا نحكم”..
يبدو بالفعل أن هذا هو لسان حال الكوكبة الأوليغارشية،التي يوجد على رأسها الملك محمد السادس. وذلك بالرغم من كل المؤشرات السلبية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تُمطرق أسماعهم من مختلف الجهات، سيما الخارجية، وهو تصرف لا تخفى محاذيره، حيث تُصبح كل الاحتمالات واردة، لكن مع تحديد نوعي يجعلها تقترب أكثر من “الحلول” القصوى: تمردات اجتماعية.. انقلابات عسكرية.. أعمال عنف وتفجيرات إرهابية..
والمثير للاندهاش،هو أن الكوكبة الأوليغارشية المذكورة تستند إلى مؤشرات اقتصادية ظرفية، قوامها بضعة مشاريع عقارية تُنجز برؤوس أموال خليجية في الغالب، وموسم فلاحي مطير مضى، للقول بأن الأمور تتجه للأفضل.. وللمفارقة الساخرة، فإن بداية عهد الملك محمد السادس كان قد عرف فترة جفاف فلاحي حاد خرج في أحد أيامه،المستشار الملكي عباس الجيراري على الناس بخطاب باسم الملك قال فيه ما يُفيد أنه “آن الأوان لعقلنة الاقتصاد المغربي، بالكف عن الإعتماد المطلق على العوامل الطبيعية”.
لقد مضت أيام تلك اليقظة الأولى لتعقبها أخرى تبدو- للحاكمين – طويلة جدا، قوامها حكم مطلق لا يعكره سوى بضعة أصوات “نشاز”. غير أن أجراس الإنذار تُدق من كل جانب. فبعد الاستطلاعين الذين قام بهما معهد الديمقراطية الأمريكي، والذين منحا على التوالي نسبتي47 بالمائة ثم 45 بالمائة من نوايا تصويت الناخبين المغاربة في الانتخابات التشريعية المقبلة، لحزب العدالة والتنمية،ها هي ذي منظمة مغربية،غير حكومية، تزيد الطين بلة، بتنصيصها على هذه المفارقة الغريبة العجيبة:حزب العدالة والتنمية هو الأكثر ديمقراطية ضمن المشهد الحزبي المغربي.
ومن جانب الطبقة الأوليغارشية الحاكمة، فلا يتسرب سوى النزر اليسير من الأخبار التي لا قيمة لها على الإطلاق، من مثل أن الملك محمد السادس لا يريد مشهدا سياسيا يُهيمن عليه الإسلاميون، وأنه أي الملك غير راض عن وقائع الأمور، وأنه، وهذه من غرائب الأمور، يصب حمم غضبه،على كوكبة مساعديه الأقربين.
وماذا أيضا؟ لا شيء تقريبا، عدا كل هذا الصمت المقيت الذي يلف الجميع: حاكمين ومحكومين. اللهم ما يحصل عليه الصحافيون الأجانب من معطيات، تُنشر في الغالب في الخارج، تزيد الأمور التباسا وارتباكا، من مثل ما سطره الصحافيان “نيكولا بو” و”كاترين غراسيي” في كتابهما الخطير عن المغرب “حينما يُصبح المغرب أسلاميا”. ومما جاء فيه، من زاوية ما نحن بصدده ضمن هذه الورقة، أن أحد رجالات محمد السادس الأوليغارشيين، هو إدريس بنهيمة، الوالي السابق على مدينة الدار البيضاء، والمدير العام السابق -أيضا- للمكتب الشريفي للفوسفاط (لم يستقر به المقام في أي من هذين المنصبين الكبيرين بسبب سلوكاته الطغيانية) ويشغل حاليا منصب المدير العام لشركة الخطوط الملكية المغربية..هذا الرجل قال ذات يوم قريب لجماعة من رفاقه القدامى الفرنسيين،في مدرسة “البوليتكنيك” بباريس، حينما تحدثوا له عن دقة الأوضاع في المغرب: “ماذا تريدون؟ المغرب يوجد على هذه الحال، والخيار الذي أمامكم أنتم ساسة فرنسا هو: إما نحن أو الإسلاميين”.
لن نجازف إذا ما قلنا، أن هذا الكلام هو لسان حال كال الطبقة الأوليغارشية المتنفذة في المغرب،أي ما معناه: “إما نحن أو الطوفان”… وبين هذين الحدين السيئين، يوجد مصير أمة بأسرها قوامها أزيد من خمسة وثلاثين مليون نسمة.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط
* يمكن قراءة نص مؤسسة “كارنيجي” حول المغرب، باللغة العربية، على الرابط التالي:
http://www.carnegieendowment.org/programs/arabic/morocco_paper.pdf