لم يأت مؤتمر الصحافيين المغاربة بجديد، اللهم تحول اسم ولقب المؤسسة والشخص الأوحد المتحكم في دواليبها، إلى اسمين آخرين أكثر تمويها وفخامة.
إطلالة تاريخية على مسار هذه الهيئة النوعية، يمنح العديد من المفاتيح لفهم ما جرى ويجري بداخلها، وفي مقدمتها هيمنة الهاجس الحزبي على أدائها، ناهيك عن حسابات الربح والخسارة التنظيميين،الآخذَيْنِ بألباب الماسكين بزمامها..
المقال التالي يوضح متى، كيف ولماذا؟
نستدرك في البداية أن مؤتمر النقابة الوطنية للصحافة المغربية، المنعقد أخيرا بمدينة الرباط أيام 21 و 22 و 23 من شهر مارس الماضي، حمل “جديدا” يستحق الانتباه. فقد تخلصت المؤسسة المهنية المذكورة، من الاسم الذي حملته طوال خمسة وأربعين سنة، منذ تأسيسها عام 1963، لتصبح “الفيدرالية الوطنية لنقابة الصحافة المغربية” ويصبح الشخص “المنتخب” على رأسها رئيسا وليس كاتبا عاما، كما كان الشأن مع عبد الكريم غلاب ومحمد اليازغي ومحمد العربي المساري، الذين تعاقبوا على إدارة دفتها منذ عشرات السنين، بالإضافة للولايتين السابقتين لـ”فخامة الرئيس الحالي” أي يونس مجاهد، منذ سنة 1998، وهو الموقع الذي آل إليه بحكم وجوده آنئذ في وضع نائب محمد العربي المساري، حيث نودي ربيع السنة المذكورة على هذا الأخير، وزيرا للاتصال في حكومة عبد الرحمان اليوسفي.
إذن يمكن أن نقول للسيد يونس مجاهد هذه العبارة اللبقة: “وداعا السيد الكاتب العام مرحبا السيد الرئيس”.
غير أن الأشخاص عابرون مهما طال أمد وجودهم، لذا فإن الاسم الجديد لمؤسسة النقابة هو الذي يستحق الترحيب، وهو للتذكير، “الفيدرالية الوطنية لنقابة الصحافة المغربية”. اسم يوحى للوهلة الأولى أنه يطوي بين ذراعيه الكبيرتين، الأشكال المتعددة لممارسة مهنة المتاعب في بلادنا. بيد أن المتفحص المدقق في “الترتيبات” القبلية لمؤتمر نقابة الصحافة، ومجريات ما حصل خلال الأيام الثلاثة التي استغرقها المؤتمر سيجد ذلك التحصيل الحاصل القديم، قدم الوجود التنظيمي لنقابة الصحافة منذ خمسة وأربعين سنة. كيف ذلك؟
ارتبط إنشاء النقابة الوطنية للصحافة المغربية أوائل ستينيات القرن الماضي، بالصراع البارد بين النظام الشرس، الذي أرساه الملك الراحل الحسن الثاني، والنخبة الحزبية لحزب “الاستقلال” و”الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. كانت الحاجة ملحة بالنسبة للنخبة المذكورة، أن تنتظم كهيئات ناشرة لصحف ناطقة باسمها، في إطار مؤسسة نقابية تمكنها من توحيد صوتها دفاعا عن حقها في أن يكون لها ذرع إعلامي (عبارة عن صحف) بالإضافة إلى باقي تنظيماتها وجمعياتها وهيئاتها الحزبية الموازية، وكذلك كان.
وتم التوصل إلى اتفاق مبدئي حينها، يقضي بأن يتناوب قياديون من الحزبين الكبيرين (الاستقلال والاتحاد) المؤسسين على إدارة دفة النقابة الوطنية للصحافة على مدى أزيد من أربعة عقود من الزمن، حيث كان الخطاب الإعلامي واحدا من خطاباتها المُؤثِّثة للديكور “النضالي”. وكان طبيعيا أن يرتكز الدفاع من خلال النقابة المذكورة، على مصالح الناشرين، أي “الباترونا” أمام نموذج الدولة الشمولي الذي سَنَّهُ الملك الحسن الثاني. لذا كان طبيعيا (مرة أخرى) أن ما سرى على نقابة الصحافة كان جزءا مما سرى على الحزبين المؤسسين، وباقي التنظيمات السياسية المغربية، عبر رحلة “الإسراء والمعراج” الطويلة العصيبة، التي عرفها المشهد السياسي المغربي. إذ مثلما حل حين من الدهر على الأحزاب، التي طالما استطابت نعت نفسها بالديمقراطية، أصبح وجودها فيه رهين بنسبة “السيروم” الذي تضخه أجهزة الدولة المخزنية في شرايينها، فقد فُعِلَ ذات الشيء بنقابتها الملحقة بقطاع الصحافة، حيث لم يتورع وزير الداخلية القوي سابقا إدريس البصري عن “إهداء” مقر لائق للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، في عز سنوات “النضال” الاتحادي ـ الاستقلالي، كما لم يستحِ من أن يسرب لبعض الصحافيين من ندمائه (أيام الصولة والصولجان، طبعا) أنه كان يسلم أكياس بلاستيكية بعشرات ملايين الدراهم، عَدّا نقدا، لمدراء الجرائد الحزبية، الذين كانوا في نفس الوقت، قياديين في أحزابهم و… كتابا عامين متعاقبين على النقابة الوطنية للصحافة المغربية.
وبالرغم من هذه التفاصيل عطِنة الرائحة، إلا أن طقوس المشهد السياسي وتوابله “النضالية” ومنها الخطاب الإعلامي، فإن ماء الوجه كان مصانا في الظاهر على الأقل، حيث كانت جرائد الاتحاد “الاشتراكي” و”العلم” و”بيان اليوم” ورديفاتها المكتوبة باللغة الفرنسية، تجد قراء بعشرات الآلاف. إذ كان يكفي أن تعكس موقفا حزبيا “متشددا” إزاء حدث أو واقعة سياسية ما، في مغرب أيامئذ، لتكون له تداعياته الإيديولوجية والثقافية و”الفكرية”، وهو ما “اقتات” عليه عشرات الآلاف من قراء الصحف الحزبية، لعدة عقود من الزمن. وقد يكون من الجحود القاسي، عدم الاعتراف بذلك المجهود المهني الذي عكسته الصحف الحزبية المغربية، والذي منح بلاد “المخزن والغاشي” أولى ملامح ممارسة صحافية بأجناسها المغربية.. صحيح أن ذلك كان يتم بين طيات وتلافيف العباءة السياسية، والإيديولوجية، غير أنه كان أفضل من لا شيء على الإطلاق.
وبما أن لكل بداية ذات سقف منظور نهاية، فكذلك كان شأن الخطاب الإيديولوجي للمعارضة الحزبية، على الطريقة المغربية، حيث انتهى كل شيء، في خضم العرس الذي زُفَّت فيه السيدة المصون “المعارضة الاتحادية” إلى السيد المخزن ذو الشوارب المعقوفة، وذلك في يوم ربيعي جميل من سنة 1998. وبطبيعة الحال فإن حصول “الجِمَاع” (أي النكاح) لم يكن مصدر “إجماع” وما كان ينبغي له أن تكون، فسريان الحياة في شرايين الزمن ليس رهينا بالعمر البيولوجي أو الإيديولوجي لأحد.
كانت ثمة ممارسة إعلامية سمت نفسها بالمستقلة، قد تشكلت في أعطاف الشروط “الموضوعية” مقرونة بسنوات “الانفتاح الديمقراطي” الذي أراده الملك الحسن الثاني مواليا لـ “التناوب التوافقي” الذي اختاره “مؤنسا” في آخر أيام حكمه الطويل.
ثمة تفاصيل كثيرة طوتها السنوات القليلة الماضية، التي أعقبت ظرفية ما بعد وفاة الحسن الثاني، بيد أن أهمها فيما نحن بصدده كان هو ذلك الشد والجذب، بين ما أُطلق عليه “العهد الجديد” وبعض الصحف والصحافيين القائمين عليها، حيث بدا أن الدولة المخزنية استكثرت عليهم أن يؤدوا دورا إعلاميا، مما جعل بعضهم يلبسون ثوبا فضفاضا، يصدق عليه نص القراءة القديمة، لمرحلة التعليم الابتدائي، المُعنون بـ”يوسف يمثل أبيه” وبالتالي يبدون بمظهر “أبطال” معارضة سياسية.
.. وكان ما كان من باقي تفاصيل الشد والجذب، التي يعرفها الجميع. غير أنه كان ملفتا للانتباه أن تظل التنظيمات الحزبية المعارضة سالفا و”الحاكمة” بعد ربيع 1998 حاضرة من خلال نقابتها الوطنية للصحافة، حيث مارست هذه الأخيرة سياسة شد للعصا من الوسط، في عملية مراوحة موفقة تارة، ومُخْفِقة تارة أخرى، بين الموقفين السياسي (الذي يصون مصالح التنظيمات الحزبية الأم) والمهني الذي ذهب وصل طموح بعض مَمارسيه إلى حد التطويح ببعض الطابوهات السياسية نظير “قداسة الملكية”… ضلوع شيوخ حزبين في المحاولة الانقلابية العسكرية الثانية ضد الحسن الثاني وانتقادات لاذعة للنخبة الحزبية التي أثثت “غرفة” التناوب التوافقي”…إلخ.
بدا واضحا أن نقابة يونس مجاهد كانت بذلت الكثير من الجهد للاحتفاظ بنوع من الحياد “المؤلم” وهو وضع مفارق حقا، حفظ ماء الوجه، لكنه جعل الملمح النقابي لمهنة المتاعب مهزوزا. وهو ما انعكس، ليس فقط على الوضع الاعتباري للمهنة (محاكمة وسجن ومنع من الكتابة وتوقيف صحف، وجلد العديد من أصحابها.. إلخ)، بل تلكؤ مديد في إخراج قانون للصحافة جدير بالواقع الحالي لممارسة المهنة في المغرب، ناهيك عن إحالاتها الكونية على أكبر من مستوى.
لقد كان ” طبيعيا” للمرة الثالثة أن تظل العديد من الملفات المطلبية للمهنة والمهنيين في “ثلاجة” علاقة السياسي بالإعلامي، وهو وضع مجرور ـ كما سلفت الإشارة ـ منذ عقد كل تلك الزيجات الكاثوليكية المتعددة (تعدد الأزواج) بين السياسي الحزبي والتنظيمات الإعلامية والنقابية والثقافية. واليوم فإن ذات الأداء النقابي، على مستوى مهنة المتاعب ما زال قائما باعتبار صعوبة إيجاد بديل “ابن الوقت”، وأسباب ذلك عديدة، في مقدمتها ضيق الأفق السياسي والاقتصادي، حيث ما زالت الكلمة الفصل لنظام مخزني شره.
فهل صحيح أن كلمة التعدد الجديدة لنقابة الصحافة، ونعني بها “الفيدرالية” تتضمن حقا ذلك التنوع القطاعي الذي تعرفه مهنة المتاعب؟ نشك في ذلك باعتبار نتيجة الاقتراع “السري” المحسومة سلفا كما تم الاعتياد على ذلك، حيث جاءت نفس الوجوه وفي مقدمتها يونس مجاهد الذي عمَّر عشر سنوات زكاها بلقب أقوى من السابق أي “السيد الرئيس”.
لقد كُتِب وقيل (ولهذا الأخير الأغلبية الكمية كما هي عادتنا نحن المغاربة) عن الطريقة التي تُصنع بها الأغلبيات على مدى المؤتمرات الخمسة السابقة للنقابة الوطنية للصحافة المغربية. إن الأمر كان رهينا دائما بعملية “الحشد” التي يقوم هذا الطرف أو ذاك (حزب الاتحاد والاستقلال تحديدا) لحسم تشكيلة المكتب المسير لهذه المؤسسة النقابية النوعية. وقد كانت محطة المؤتمر الخامس المنعقد أوائل صيف سنة 1999 مثار نقاش غني، وإن كان قد تمَّ بشكل حَادْ، غير أنه كان “منسجما” مع حجم الخروقات التي أرخت لها اللجنة التصحيحية التي تشكلت على إثر ذلك، في كتاب أبيض، حيث اندلعت فضائح التعبئة والتجييش، والتزوير وإغراق محطة المؤتمر بالمصوتين “المناسبين”، حيث وصل الأمر في هذا الصدد، إلى حد منح صفة “المُؤْتَمِر” لمن لا يتوفر على شروطها (وهو ما فضحه واحد من المستفيدين في مقال منشور، ويتعلق الأمر بالزميل جامع كولحسن).
كانت مسألة “حسم” نتيجة المؤتمر في الاتجاه المرغوب فيه، هي سيدة المؤتمر (عكس أن يكون هذا الأخير سيد نفسه، كما تفيد بذلك أديبات الديمقراطية المُتَشَدَّقُ بها في المناسبات) وهو ما يحيل على ذات الممارسات الحزبية والنقابية والجمعوية، التي أحالت هذه الأخيرة إلى محارات فارغة يسخر منها الساخرون، ويعبث بها العابثون.
مجمل القول أن محطة المؤتمر السادس للنقابة الوطنية للصحافة، كرست نفس الممارسات، إن لم نقل أخطر منها، وتمثلت في تغيير ألقاب بألقاب والالتفاف على القانون الأساسي من خلال بحث محموم عن منصب “الرئيس الأبدي” للسيد مجاهد، وباقي المناصب الموازية لحوارييه ومريديه والمقربين و”المقربات” (ومنهن واحدة كانت في حُكم الخليلة فأصبحت عضوة قيادية لا غنى عنها) وبذلك ستتوفر للمشهد الإعلامي المغربي، نقابة بهيكلة إدارية تحيل على الجمهوملكيات (كلمة تجمع بين الجمهورية والملكية) العربية..؟
إن القانون “الجديد” للنقابة بشكلها الفيدرالي “المحسوب” بدقة، يمنح للكاتب العام السابق الذي استهلك عشر سنوات من الوجود على رأس المكتب المسير للنقابة (على مدى ولايتين) إمكانية “تدشين” القانون الجديد لاستهلاك ثلاث ولايات قادمة، وبذلك سيكون لنا ليس نقيبا للصحافيين، بل ملكا مفروضا على صاحبة الجلالة لأطول مدة بيولوجية ممكنة.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط