“نعوذ بالله من سبات العقل”
الامام علي بن أبي طالب
شرح نهج البلاغة-ابن أبي
الحديد
تقديم
هل يصلح «حصان طروادة» لتفسير ظاهرة استقالة العقل في الإسلام؟
بعبارة أخرى، هل يمكن ردّ أفول العقلانية العربية الإسلامية إلى غزو خارجي من قبل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنّوصية وعرفان «مشرقي» وفلسفة باطنية وتصوّف إشراقي وسائر تيّارات «الموروث القديم» التي كانت تشكل بمجموعها «الآخر» بالنسبة إلى الإسلام والتي اكتسحت تدريجياً، وبصورة مستترة، ساحة العقل العربي الإسلامي حتى أخرجته عن مداره وأدخلته في ليل عصر الانحطاط الطويل، أم أن استقالة هذا العقل ما جاءت بعامل خارجي ، ولا تقبل بالتالي التعليق على مشجب الغير، لأنها في الأساس مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟
في الإجابة عن هذا السؤال كنا أصدرنا المجلّد الرابع من نقد العقل العربي تحت عنوان «العقل المستقيل في الإسلام؟» ، وفيه نفينا أن تكون استقالة العقل في الإسلام قد تمّت من جراء غزو خارجي، كما تذهب إليه فرضية محمد عابد الجابري، وتعهدنا بإصدار مجلد خامس وأخير نُبرز فيه دور الذات، لا الغير، في هذه الاستقالة.
والحال أننا، في سياق هذا البحث عن العوامل الذاتية لأفول العقلانية العربية الإسلامية، وجدنا أنفسنا أمام عامل لامتوقع: المعجزة ومنطق المعجزة في الموروث العربي الإسلامي. عامل غائب كل الغياب عن شبكة القراءة الجابرية ذات المنزع «البرّاني» في التعليل، ولكنه حاضر كل الحضور في مأساة سقوط العقل العربي الإسلامي من داخله. ولهذا، ومن دون انتظار لاستكمال المجلد الخامس والأخير من نقد نقد العقل العربي ، رأينا استباقه بإصدار هذه الدراسة عن المعجزة في الإسلام. وهي دراسة قائمة بذاتها كما سيتبين القارئ، وإن لم تكن منقطعة الصلة بمشروعنا الأوسع النقد-نقدي.
ج. ط
*
الفصل الأول
نبيّ بلا معجزة
الآيات، بمعنى المعجزات، هي عنوان لمحاورة مركزية في الخطاب القرآني، وإن كانت منبثّة انبثاثاً في عشرات من سور النص القرآني. الطرفان الرئيسيان في هذه المحاورة اثنان لا ثالث لهما: اللّه من جهة أولى، والمشكّكون أو المتشكِّكون في رسالة رسوله من المشركين ومن أهل الكتاب، سواء أفي مكة أم في المدينة، من جهة ثانية. أما الرسول نفسه فهو موضوع وليس ذاتاً لهذه المحاورة: فهو مجرّد وسيط أو ترجمان، وفي الغالب مأمور من مرسله بفعل القول: «قل».
أما موضوع المحاورة فواحد لا يتبدّل، وإن تنوعت أشكال إخراجه. فالمشركون والكتابيون يطالبون الرسول بإتيانهم بآية تثبت مصداقية رسالته، والرسول يُحيل طلبهم إلى اللّه لأن الآيات هي من اختصاصه وحده، واللّه يردّ هذا الطلب مثنى وثلاثَ ورباعَ، وبحجج متماثلة تتكرر هي أيضاً مثنى وثلاثَ ورباعَ.
نموذج هذه المحاورة تقدّمه لنا الآية السابعة والثلاثون من سورة الأنعام: وقالوا لولا نُزِّل عليه آية من ربه، قل إن اللّه قادر على أن ينزِّل آية، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وكذلك الآية العشرون من سورة يونس: ويقولون لولا أُنزل عليه آية من ربّه، فقل إنما الغيب للّه، فانتظروا إني معكم من المنتظرين.
والآية التاسعة والأربعون من سورة العنكبوت: وقالوا لولا أُنزل عليه آيات من ربّه، قل إنما الآيات عند اللّه، وإنما أنا نذير مبين.
وفي بعض الآيات يختفي فعل الأمر: «قل» لفظاً، ولكنه يبقى مضمراً بالمعنى، كما في الآية السابعة من سورة الرعد: ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه آية من ربّه، إنما أنت منذر، ولكل قوم هادٍ.
وفي بعض الآيات يتحول الرسول نفسه إلى طالب آية، وهذا ليس فقط رغبة منه في تسهيل مهمته في إقناع اللامقتنعين برسالته، بل أيضاً- وهذا أبلغ دلالة ـ تعبيراً عن شكوكه هو نفسه إزاء صمت اللّه، وإزاء النصاب الذي خصّه به دون سائر الأنبياء: نبيّ بلا معجزة . وهكذا فإن الآية الخامسة والثلاثين من سورة الأنعام تستكبر على الرسول أن يكون قد كبُر عليه إعراضُ المعرضين عنه وأن يكون منّى نفسه بأن يأتي من عنده بمعجزة تسدّ مسدّ المعجزة التي يضنّ بها اللّه عليه: وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى، فلا تكوننّ من الجاهلين. كما أن الآية الثانية عشرة من سورة هود تحذره من أن يضيق صدره ويترك بعض ما ينزل إليه ما دام غير معضود بآية: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، إنما أنت نذير، واللّه على كل شيء وكيل. أما الآيتان الرابعة والتسعون والخامسة والتسعون من سورة يونس فتذهبان إلى أبعد من ذلك إذ تتوعدان الرسول نفسه بأن يكون من الخاسرين إذا امترى وانتابته الشكوك في ما أنزل إليه لمجرد أن ما أنزل إليه ليس مسنوداً بمعجزة على خلاف واقع الحال مع من خلا قبله من الرسل والأنبياء: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين.
والواقع أنه خلافاً للصورة المتداولة في أدبيات السيرة اللاحقة عن عنت مشركي مكة في قبول الدعوة، فإن الصورة التي تقدمها عنهم السور القرآنية المعنية ليست صورة رافضين للدعوة أو مقاومين عتاة لها بقدر ما هي صورة طالبين للمعجزة، أو بالأحرى لبرهان المعجزة، كيما يؤمنوا. وهكذا تترى الآيات: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا اللّه أو تأتينا آية (البقرة/118)، وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها (الأنعام/109)، قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه (الأنعام/124)، وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه (طه/133)، فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون (الأنبياء/5)، وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه (العنكبوت/50).
وإذا كانت عديدة هي الآيات التي يُطالب فيها الرسول بمعجزة، بأي معجزة كانت دونما تحديد لطبيعتها، فمعدودة هي الآيات التي يُطالب فيها بمعجزة محدودة، كالآية التي تقدم ذكرها من سورة هود: لولا أنزل عليه كنز، أو كالآية الثامنة من سورة الفرقان: لولا… يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها. ولئن يكن مطلب معجزة الكنز أو جنة الطعام يعكس عقلية مشركي المجتمع المكي من حيث هو مجتمع تجارة ومجتمع قلة في آن معاً(1)، فإن المعجزة التي يطالب بها الكتابيّون من اليهود والنصارى هي من طبيعة لاهوتية بالأحرى. ومن هذا القبيل مطلبهم، كبرهان على صدق رسالة الرسول، بأن ينزل عليه القرآن دفعة واحدة ـ لا مُنجَّماً ـ كما نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء، أو أن ينزل في قرطاس كقرطاس الأناجيل(2). وحتى عندما كان الكتابيون يطالبون بمعجزة «مادية»، فقد كانوا يطالبون بها على منوال معجزات موسى وعيسى من تفجير النبع من الصخر أو الارتقاء في السماء، على نحو ما توضحه الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً. وإزاء جميع هذه المطالب كان رد الرسول دائماً واحداً لا يتغير: إنّ المعجزات ليست بيده بل بيد اللّه، وإنْ هو إلا بشر مثلهم لم يؤتَ أكثر مما أوتوه، ولا يميزه في بشريته عنهم شيء سوى أنه يوحى إليه:
ـ قل إنما الآيات عند اللّه (الأنعام/109).
ـ قل إنما الآيات عند اللّه وإنما أنا نذير مبين (العنكبوت/50).
ـ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه (الرعد/38)(3).
ـ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ (الكهف/110).
والواقع أن هذه الآية الأخيرة، التي ستتكرر بحرفها في سورة فصلت: 6، تلخص جوهر الخلاف بين الرسول ومنكري رسالته. فبشريته العارية من دليل النبوة هي بالضبط ما كان موضع استغراب وإنكار منهم، بالنظر إلى تعارضها مع تصوراتهم الموروثة خلفاً عن سلف عن الأنبياء بصفتهم كائنات عليا شبه إلهية أوتيت القدرة على اجتراح معجزات خارقة ما أوتي مثلها الرسول «الأمي» الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفتح/29) كأي بشر عادي (4). ولا جدال أصلاً في أن الفضاء العقلي والديني الذي ينتمون إليه كان فضاء مفتوحاً على احتمال مجيء رسول جديد، حامل لرسالة جديدة أو منذر بنهاية العالم على نحو ما هو متوقع في كتب الكتابيين أو في «أساطير الأولين» التي كانت تجد لها مرتعاً خصباً في شبه الجزيرة العربية. ولكن ذلك الفضاء العقلي والديني عينه هو ما كان يملي عليهم أن يجعلوا شرطاً مسبقاً لتصديق أي رسول جديد أن يكون حاملاً معه للبرهان الذي لا برهان غيره في النبوة: المعجزة . هكذا كان الملأ من قوم نوح ـ أي رؤساؤهم ـ قد قالوا لهم: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم (المؤمنون/24). كما كان الملأ من القوم الذين تلوهم قد قالوا عن الرسول الذي أتى من بعده: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون (المؤمنون/23-24). وكذلك قال قوم ثمود لنبيهم المرسل إليهم صالح: ما أنت إلا بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين (الشعراء/154). وكذلك كذّب أصحاب الأيكة رسولهم شعبياً قائلين له: وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت من الصادقين (الشعراء/187). ووفق هذا النمط الذهني عينه استغرب قوم محمد مبعثه وقالوا: أَبَعث اللّه بشراً رسولاً؟ (الإسراء/94)، وتساءلوا باستغراب أكبر: مالِ هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفرقان/7). ثم راحوا يطالبونه، على مدار الحقبة التبشيرية من دعوته(5)، ببرهان دامغ على نبوته من استنزال كنز أو تفجير نبع أو استدرار نهر أو استحداث جنة من عنب ونخيل، هذا إن لم يطالبوه بتسيير الجبال أو إسقاط السماء.
وعلاوة على طلب معجزة إثباتية لنبوته كان اللامصدقون، ولا سيما الكتابيون منهم، يطرحون عليه أسئلة إعجازية وتعجيزية معاً من طبيعة لاهوتية أو غيبية أو ما ورائية كسؤاله عن ماهية الروح، أو التكهن بالغيب، أو متى تقوم الساعة، أو بكل بساطة، ما جنس الجنين الذي في الرحم؟ وتماماً كما في إجابته عن طلب المعجزات، كان يجيب عن هذه الأسئلة والإشكالات بالإحالة إلى اللّه:
ـ ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي (الإسراء/85).
ـ اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد (الرعد/8).
ـ إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام (لقمان/34)(6).
ـ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي (الأعراف/187).
ـ قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب(7) (الأنعام/50).
ـ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام/59).
ـ فقل إنما الغيب للّه فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس/20).
ـ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه (النمل/65).\
ومن منظور الاحتكار الإلهي لعلم الغيب لم يكن الرسول مأموراً بإرجاع الأمر كله إلى اللّه فحسب: وللّه غيب السماوات والأرض وإليه يُرجع الأمر كلّه (يوسف/123)، ولا مأموراً بالإعلان عن أنه مكفوف اليد كفاً تاماً فحسب: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء (الأعراف/188)، بل كان مأموراً أيضاً بألا يستعجل عِلْمَ ما قد يُعْلِمه اللّه أو ما يطالب اللامصدقون بأن يعلمه إياه: قل… ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا للّه (8)، يقص الحق وهو خير الفاصلين، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، واللّه أعلم بالظالمين، وعنده مفاتيح الغيب ولا يعلمها إلا هو (الأنعام/57-58)(9).
هنا ينهض سؤال: إذا كانت المعجزة رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل أيضاً ـ وربما كان هذا أخطر ـ في الشك الذي كان ينتاب الرسول نفسه أحياناً. أفما وجدنا الآية الرابعة والتسعين من سورة يونس تحذر الرسول من هذا الشك وتتوعده، في حال انضمامه إلى الممترين والمكذبين بآيات اللّه، بأن يكون من الخاسرين؟ كذلك أما وجدنا الآية الثانية عشرة من سورة هود تحذّر الرسول من أن يضيق صدره ويترك تبليغ بعض ما أوحي إليه مخافة أن يقول قائلهم ـ المشككين ـ: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه مَلَك؟ ولنا على كل حال أن نفهم «ضيق صدر» الرسول إذ شاء له «حكم اللّه» أن يتبلغ الوحي وأن يبلّغه بدون سند من معجزة مادية على منوال معجزات سائر الرسل والأنبياء: إذ لم يكن اللامؤمنون هم وحدهم الذين يطالبونه بمعجزة، بل كذلك المؤمنون أنفسهم، وهو ما يمكن استنتاجه من السياق الذي نزلت فيه الآية 109 من سورة الأنعام: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. فقد ذهب جماعة من أهل التأويل، على ما يروي الطبري، إلى أن كاف الخطاب في «يشعركم» إنما هي موجهة إلى أصحاب الرسول، ومستندهم في ذلك أن «الذين سألوا رسول اللّه (ص) أن يأتي بآية، [هم] المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول اللّه (ص)، فقال أصحاب رسول اللّه (ص): سل يا رسول اللّه ربك ذلك، فسأل، فأنزل اللّه فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: «قلّ ـ للمؤمنين بك يا محمد ـ إنما الآيات عند اللّه، وما يشعركم ـ أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به» (10).
وباستقراء النص القرآني نحصي عشرات من الآيات التي تعلّل، على لسان اللّه نفسه، امتناعه عن إتيان المعجزات التي يطالبه بها رسوله أو المؤمنون به، وعلى الأخص اللامؤمنون، سواء أكان هؤلاء الأخيرون صادقين في ما يطالبون به من برهان المعجزة التي هي معبرهم إلى الإيمان، أم كاذبين مناورين لا غاية لهم سوى إحراج الرسول وحشره في الزاوية الضيقة. ومن هذا المنطلق الاستقرائي إياه نستطيع أن نحدد خمسة مستويات للتعليل:
1 ـ التعليل بالتكذيب: فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذّبهم قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر الأنبياء معجزة:
ـ ولقد جاءكم موسى بالبيِّنات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (البقرة/19).
ـ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (الأعراف/131].
ـ ولقد جاءهم موسى بالبيِّنات فاستكبروا في الأرض (العنكبوت/39).
وقائمة الأنبياء والمرسلين الذين كذبهم قومهم، سواء أأتوهم بالآيات والنذر أم لم يأتوهم، طويلة لا تنتهي، وقد أحصت سورة الشعراء وحدها خمسة منهم:
ـ كذَّبت قوم نوح المرسلين (105).
ـ كذبت عاد [هود] المرسلين (123).
ـ كذبت ثمود [صالح] المرسلين (141).
ـ كذبت قوم لوط المرسلين (160].
ـ كذب أصحاب الأيكة [شعيب] المرسلين (176).
وتصوغ الآية الرابعة والأربعون من سورة المؤمنين ما يشبه أن يكون قانوناً: كلما جاء أمة رسولها كذبوه. وتستنتج الآية 184 من سورة آل عمران، والخطاب فيها موجه إلى الرسول: فإن كذّبوه فقد كُذّب رسل من قبلك جاءوا بالبيِّنات. وكذلك تفعل الآية 25 من سورة فاطر: وإن يكذِّبوك فقد كذَّب الذين من قبلهم جاءتهم رسُلهم بالبيِّنات، والآيات 42 ـ 44 من سورة الحج: وإن يكذِّبوك فقد كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكُذِّب موسى. وبناء على هذه التجربة الماضية والمتكررة مع سائر الرسل والأنبياء الذين سبقوا محمداً، تطرح الآية 101 من سورة يونس هذا السؤال: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون؟ ثم تأتي الآية 59 من سورة الإسراء لتحسم موضوع المعجزات المضنون بها على الرسول، دون سواه من الرسل، حسماً لا يحتمل جدلاً: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون.
2 ـ التعليل بالتأويل السحري: ثمة جملة من الآيات تردّ الاستنكاف الإلهي عن إتيان المعجزات أو الإذن للرسول بإتيانها إلى كون المعجزات التي أتاها المرسلون والأنبياء السابقون قد فُسِّرت من قبل قومهم على أنها فعل من أفعال السحر. والسحر هو إلى الدين ما كانه قابيل لهابيل: شقيقه البكر وغريمه وقاتله. فالسحر كالمعجزة يشل العقل، ولكنه يوظف هذا الشلل لصالح قدرة «إبليسية»، لا لصالح القدرة الإلهية. وقد اضطلع السحر في الديانات الوثنية بنفس الوظيفة التي اضطلعت بها المعجزة في الديانات التوحيدية. والحال أن الرسول ما بُعث إلى «الأميين» ـ قومه ـ إلا ليحوّلهم عن الأولى إلى الثانية. ومن هنا خطورة مطبّ التأويل السحري للمعجزات التي قد يأذن اللّه له بإتيانها. ففي هذه الحال خير له وخير لدين التوحيد الذي بُعث للدعوة إليه ألا يُؤذن له بإتيانها. ومثال الأنبياء الذين تقدموه ناطق بالدلالة من هذا المنظور. فعيسى بن مريم، الذي أذن له اللّه أن يبرئ الأكمه والأبرص وأن يحيي الموتى، ما قوبلت معجزاته من قبل الذين كفروا من قومه إلا بالقول: إنْ هذا إلا سحر مبين (المائدة/110). ومن قبله كان موسى قد لقي الجواب نفسه لما بعثه اللّه إلى قوم فرعون بآياته: ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا و قالوا إن هذا لسحر مبين (يونس/75-76)، أو كذلك: فلما جاءهم موسى بآياتنا بيّناتٍ قالوا ما هذا إلا سحر مفترى (القصص/36). ولئن يكن موسى، وهو الذي أتى ما أتاه من المعجزات والآيات البيِّنات، قد رُمي بأنه ساحر كذّاب (غافر/24)، فما الداعي لأن يركب الرسول المركب نفسه؟ ألم يرمه قومه، حتى بدون أن يأتي بمعجزات، ولمجرد أنه بلغهم رسالات ربه بلسان مبين، بأنه هو الآخر ساحر كذاب (ص/4)؟ وما الحاجة إلى مزيد من المعجزات، ولا سيما المادية منها، ما دامت معجزة القرآن، وهي محض معجزة بيانية، قد وُصفت من قبل قوم محمد بأنها سحر مبين (الأحقاف/7، وسبأ/43)؟.
وبكلمة واحدة: ما دام قوم محمد هؤلاء إذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (الصافات/15)، وما داموا إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (القمر/2)، أفليس حجب المعجزات عنهم ـ ولو على مضض من الرسول المبعوث إليهم ـ هو خير سبيل إلى إحباط «استراتيجيتهم»، أو بلغة الفقهاء اللاحقين إلى سد الذرائع عليهم؟
3 ـ التعليل بالتعذيب: مع ذلك كلّه فإن الباعث لا يضنّ على مبعوثه بأن يلبي له التماساً أخيراً، وإن بشرط شارط رهيب: التعذيب ومضاعفة التعذيب. فما دام مطلب القوم المبعوث إليهم ـ وهم الأميون الذين لم يُبعث إليهم رسول من قبل ـ رفد الرسالة المكلف بتبليغهم إياها بمعجزات تقوم لها مقام البرهان الذي لا يماري فيه ممارٍ، فليكن للرسول كل المدد الذي يطلبه من المعجزات. ولكن الويل ثم الويل لهم بعدئذ إن أصروا على عدم التصديق وعدم الإيمان: فليس بعد برهان المعجزة سوى نار جهنم. هكذا كان أمر من سبقهم من الأقوام الذين كفروا بآيات أنبيائهم، وهكذا سيكون أمرهم إن كفروا بدورهم بآيات رسولهم:
ـ سل بني إسرائيل كم أتيناهم من آية بيّنة ومن يبدل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (البقرة/211).
ـ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات، وأولئك لهم عذاب عظيم (آب عمران/105).
ـ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب (النساء/56).
ـ قال اللّه إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين(11) (المائدة/115).
ـ فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (الأنعام/157).
ـ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم، كلما خبت زدناهم سعيراً، ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا (الإسراء/97/98).
وإزاء هول الجزاء الذي ينتظر من يكذب بآيات اللّه، فلنا أن نفهم أن يكون الرسول نفسه عدل عن طلب المعجزات التي يطالبه بها قومه: فبما أن عقاب من يكفر بعد أن يأتيه برهان المعجزة أشد وأدهى بما لا يقاس من عقاب من كان كافراً قبل أن يأتيه هذا البرهان، فقد يكون عدم الرهان خيراً من الرهان، وهذا لصالح قوم الرسول المبعوث إليهم. وهكذا تفيدنا كتب السيرة أنه عندما قال المكيون للرسول: واللّه لن نؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلّماً، ثم ترقى فيه حتى تأتيها ثم تأتي معك بصكّ، أي كتاب، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول ـ وهذا ما أشارت إليه الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء(12) ـ «خيّره اللّه تعالى بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة، وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون، فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب»(13). كما تفيدنا في السياق نفسه في حديث مروي عن محمد بن كعب القرظي أن «الملأ من قريش أقسموا للنبي (ص) باللّه عزّ وجلّ أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهباً، فقام يدعو اللّه تعالى أن يعطيهم ما سألوه، فأتاه جبريل، فقال له: إن شئت يصبح لهم الصفا ذهباً، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت ألا يصير ذهباً فتحتُ لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة»(14).
4 ـ التعليل بعدم النجاعة وعدم العلّية: إذ ما الغاية من إنزال المعجزات في خاتمة المطاف؟ أن يصدق اللامصدقون وأن يؤمن اللامؤمنون. ولكن من قال إن الإيمان أو عدمه هو في أيديهم؟ ومن قال إن لهم حرية الاختيار حتى يقتنعوا أو لا يقتنعوا ببرهان المعجزة؟ ثم من قال إن الرسول نفسه هو المكلَّف بإقناعهم؟ فهو ليس له من مهمة أخرى سوى التبليغ. وباستثناء التبليغ فإنه مكفوف اليد: ليس لك من الأمر شيء (آل عمران/128). بل إن ما يبديه من حرص على أن يؤمن المؤمنون قد يضعه في موضع التعارض مع المشيئة الإلهية: ان تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدي من يضل (النحل/37). وقد يعرِّضه أيضاً للمساءلة وللملام: : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس/99)؟ ذلك أنه ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه (يونس/100)، ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً(15) (النساء/88). فاللّه ـ وليس أحد سواه ـ هو من يضلّ ومن يهدي. وذلك ما تؤكده آيات عدة من القرآن بصيغة مكررة:
فيضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء (إبراهيم/4).
ـ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء (النحل/93).
ـ فإن اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء (فاطر/8).
ـ كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء (المدثر/31).
إذن ليس بين الإيمان وعدمه وبين المعجزة وعدمها من رابطة علِّية. فلا المعجزة تستتبع الإيمان، ولا عدمها يستتبع عدم الإيمان: إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية (يونس/96-97). وكذلك: وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلا كانوا عنها معرضين (الأنعام/4). وإن يكن من رابطة علّية فهي حصراً بين المشيئة الإلهية إيجاباً أو سلباً وبين الإيمان أو عدم الإيمان:
ـ من يشأ اللّه يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (الأنعام/6).
ـ من يهد اللّه فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (الأعراف/7).
ـ من يضلل اللّه فلا هادي له (الأعراف/186).
ـ من يضلل اللّه فما له من هادٍ(16) (الرعد/33).
ـ من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً (الكهف/17).
إذن فالمشيئة الإلهية، لا المعجزة، هي التي تتحكم بإيمان الناس أو عدمه: ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه(17) (الأنعام/111). وليس مطلوباً أصلاً أن يؤمن الناس جميعاً: ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً (يونس/99). وهذا يصدق على القرآن نفسه من حيث هو المعجزة البيانية الوحيدة التي يستطيع الرسول أن يشهرها دليلاً على رسوليته. فصحيح أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً (الحشر/21)، ومع ذلك فإن من الناس من إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (الانشقاق/21). وما ذلك لأن القرار قرارهم كما قد يتوهمون، بل لأنهم من أولئك الذين لعنهم اللّه فأصمّهم وأعمى أبصارهم (محمد/23). وهنا أيضاً يستخدم القرآن صيغة تتكرر بصورة شبه حرفية في ثلاث آيات:
ـ وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً (الأنعام/116).
ـ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً، وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً (الإسراء/45-46).
ـ إنا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن تَدْعُهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً(18) [الكهف/57).
ولنلاحظ هنا الأهمية الدلالية لحرف الجواب «إذاً». فلأن اللّه هو الذي جعل على قلوب المؤمنين أكنة وفي آذانهم وقراً، فإنهم لن يهتدوا إذاً أبداً مهما دعاهم الرسول إلى الهدى ومهما آتاهم ـ إذا أَذِن اللّه له أن يؤتيهم ـ من المعجزات. ففي حالتهم ستبقى المعجزات خرساء وفائضة عن الحاجة، فضلاً عن أنه لن يكون لها من عاقبة سوى مضاعفة عذابهم في الآخرة(19).
5 ـ التعليل بالآيات الكونية. إذ ما الحاجة في خاتمة المطاف إلى معجزات جديدة؟ فمن يطلب برهان المعجزة فما عليه إلا أن يجيل نظره في الكون ليجده عامراً بالمعجزات التي لا تعدّ ولا تحصى، منذ أن تخلّق من العدم الأول إلى اليوم. فكل ما في الكون معجزة، من النطفة التي تتخلق في الرحم علقة ثم مضغة ثم جنيناً ثم إنساناً سوياً إلى الجبال التي تنصب والأرض التي تبسط والسماء التي ترفع والنجوم المسخرة لهداية الإنسان في ظلمات البر والبحر (الأنعام/97). والآيات الكونية تتخلل شتى سور القرآن، وتكاد تؤلف نصف القرآن المكي، وهي تحصى بالمئات، وتجد واحداً من أتم نماذجها في الآيات 20 ـ 25 من سورة الروم:
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزّل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون.
بل إن سورة بكاملها من القرآن، وهي سورة الرحمن المكية بآياتها الثماني والسبعين، والموجه فيها الخطاب بالمثنى إلى الإنس والجن، تستعرض الآيات الكونية واحدة تلي الأخرى بإيقاع جمالي يندر مثيله في سائر السور، مكررة السؤال بعد الإشارة إلى كل معجزة: فبأي آلاء ربّكما تكذِّبان؟.
والواقع أنه لا يمكن للمرء أن يماري في أن ما اصطلح علماء البلاغة على تسميته بـ «إعجاز القرآن» إنما يجد مبرره الجمالي في هذه السور المكيات التي تتغنى بسنفونية الكون ولألاء معجزاته. ومع ذلك ، ثمة سؤال ختامي يطرح نفسه: فالمعجزات الكونية إن أُريد لها أن تكون شاهداً فهي لا تشهد في هذه الحال إلا على ألوهية اللّه وكلية قدرته. والحال أن طالبي برهان المعجزة من أميين وكتابيين ما كانوا يمارون في تلك الألوهية ولا في كلية القدرة هذه. وإنما كان مطلبهم معجزة أو معجزات تشهد على رسولية الرسول. وفي أنظارهم على الأقل ما كانت تلك تغني عن هذه.
الإعجاز القرآني
إنما رداً على تحدي هؤلاء الأميين والكتابيين، الذين لم يتخلوا على مدى اثني عشر عاماً من حوار الرسول معهم عن طلب برهان المعجزة، وهذا رغم كل الحجاج الذي يديره القرآن ضدهم ورغم كل الحجج التي يجنّدها لتفنيد مطلبهم (من عنادهم الدائب في تكذيب الأنبياء، ومن تأويلهم السحري لآياتهم، ومن عدم نجع برهان المعجزة معهم، ومن تهديدهم بمضاعفة عذابهم، فضلاً عن إحالتهم كمسعى أخير إلى المعجزات الكونية التي لا تقع تحت حصر)، نقول إنما رداً على تحدي الأميين والكتابيين ذاك صاغ القرآن تحدياً مضاداً أطلق عليه لاحقاً اسم «الإعجاز القرآني». وليس لنا هنا أن نخوض في معنى هذا الإعجاز الذي يجمعه والمعجزة جذر واحد: فهل النص القرآني هو بحد ذاته المعجِز للناس عن أن يحاكوه ويضارعوه كما ذهب إلى ذلك أكثر أهل التأويل، أم أن اللّه هو المعجز للبشر عن إتيان مثله ـ مما يعني ضمنياً أن النص بحد ذاته قابل للمضارعة ـ كما ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة ممن قال بمذهب الصُرفة؟ أياً يكن من أمر، فإن كلمة «إعجاز» لم ترد في القرآن، ولا كذلك كلمة «معجزة». وبالمقابل، إن تحدي الإعجاز صاغته خمس آيات، اثنتان منها مكررتان بصورة شبه حرفية:
ـ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدَّت للكافرين (البقرة/23-24).
ـ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين (يونس/38).
ـ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين (هود/13).
ـ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء/88).
ـ أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (الطور/23-24).
ولا جدال في أن هذا التحدي أتى مفعوله: فعلاوة على أن فرضية الإعجاز غدت عقيدة مركزية في جميع كتب التفسير وعلم الكلام، فقد بقي القرآن على امتداد أربعة عشر قرناً هجرياً فريد نوعه، لا محاكي له ولا مضارع معترفاً به(20)، وتم تكريسه بوصفه المعجزة الباقية على مدى الزمن لرسول ما أوتي معجزة غيره.
tarabichi5@yahoo.fr
* كاتب سوري