ما حصل في جلستي مجلس الأمة الكويتي من تصعيد في النقاش على وقع الأوضاع المأساوية لتغيير النظام في سورية، وارتباط ذلك بموقف النواب من مختلف الثورات العربية، وبالذات المواقف المتعلقة بحقوق البحرينيين في تحقيق إصلاحات سياسية، ورهن الوضعين السوري والبحريني بعضهما ببعض بصورة طائفية مقيتة مما صاحب ذلك فرز نيابي بعيد عن صلب موضوع الإصلاح أو التغيير، هو في الواقع انعكاس لأحد صور الصراع المجتمعي المتعلق بالوعي الجمعي الكويتي. فالمخرجات الانتخابية في الكويت هي حصيلة تفاعل بين الناخب والمرشح، والمواقف النيابية، الطائفية، تعكس اختيارات الصندوق الانتخابي، والمحصلة أن الطائفية الصادرة عن مجلس الأمة تجاه الأوضاع في سورية والبحرين عبّرت عن رأي قطاع مهم من الشعب الكويتي.
ومما لا شك فيه أن تلك المواقف الطائفية تستند إلى معادلة غير أخلاقية. ففي حين أن العمل السياسي عادة ما يضيّق الخناق على أي فرد أو جماعة لاتخاذ موقف سياسي أخلاقي، لكن الطائفية تعتبر أسوأ هذه المواقف. فالأغلبية النيابية، الإسلامية السنية، ولأنها لم تناصر حقوق الشعب البحريني، كانت سببا في وقوف الأقلية النيابية، الإسلامية الشيعية، إلى جانب المجازر السورية. إنها معادلة طائفية غير أخلاقية توضّح بشكل جلي كيفية تشكيل الكثير من المواقف في داخل مجلس الأمة الكويتي.
وعلى الرغم من الادّعاء بعدم إمكانية مقارنة مستوى القمع والترهيب والقتل في الظرفين البحريني والسوري، إلا أن ذلك لا يعني إلغاء حق الشعب البحريني في المطالبة بحقوقه الدستورية وتأييد مطالبه الإصلاحية. فمطالب الإصلاح من جهة، أو التغيير من جهة أخرى، مشروعة، لأنها نابعة من إرادة شعبية واعية، ومنطلقة من حقوق مهضومة. وعليه، لا يمكن فرز المواقف في مجلس الأمة تجاه الأحداث في البلدين، سواء المساند لطرف أو اللامبالي لطرف آخر، إلاّ انطلاقا من الصورة الطائفية. وحتى النواب المدافعين عن المطالب الإصلاحية في البحرين، لم يستطيعوا إلا أن يقلبوا الحقائق في سورية ليبرّروا موقفهم المصلحي غير الإنساني، في حين لا يجوز للموقف غير المسؤول تجاه الأحداث في البحرين أن يقابله تشدد تجاه الأحداث في سورية. لذلك، كانت الطائفية ظاهرة في أبهى صورها، ولقي الأبطال الطائفيون التصفيق والترحيب من مجاميعهم التي تزعم دفاعها عن الحرية وعن الأحرار بذريعة وقوفهم إلى جانب الحق. فأيهما كان يمثل الحق أثناء انفعاله وانطلاقه في نظرته للأحداث من منطلق طائفي ضيّق؟
الكثير من المراقبين يعتقدون – بل طالب نواب في مجلس الأمة بذلك – بأنه كان لزاما على مجلس الأمة أن لا يلتفت كثيرا إلى الأحداث في سورية والبحرين، على اعتبار أن ذلك سيؤخر الاهتمام بمشروع “الإصلاح السياسي” في الكويت، الذي تتبناه غالبية من النواب المؤيدين لتصعيد الموقف الكويتي والخليجي ضد النظام في دمشق، وأن ذلك سيعكس تكتيك المناورة لصالح التوجه الحكومي، وسيخلق وضعا شعبيا مناهضا لنواب الأغلبية، على اعتبار أنهم ساهموا في تصعيد الموقف تجاه شأن خارجي في مقابل إهمال الوضع الداخلي.
وفي حقيقة الأمر فإن ما يحدث في مجلس الامة من سجال طائفي حين مناقشة أي شأن خارجي، تقع مسؤوليته المباشرة على نهج الإسلام السياسي، من خلال تبني نواب هذا النهج، من الفريقين البحريني والسوري، لمشروع “الأمة الإسلامية”، وسعيهما لخدمة هذا المشروع على حساب المصالح الكويتية العليا.
فنهج الإسلام السياسي سببٌ لأي فرز طائفي في المجتمع الكويتي، لأنه لا يقدر على خوض غمار خلافاته واختلافاته وصراعه وسعيه للانتشار والتوسع من دون الدفع برؤاه الطائفية المصلحية التمييزية، التي لا ترى بدّاً في إلغاء طرف وطني في سبيل الوقوف خلف مصالح الأمة. فبات النهج القائم على دعم قضايا الأمة الإسلامية التي أبطالها حسن نصرالله وعماد مغنية أو أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أهم من دعم الشأن الكويتي، فالكويت – وفق النظرة الأممية المؤدلجة – جزء من الأمة الإسلامية، ولابد أن يكون الجزء في خدمة الكل أو في خدمة الأمة. تلك النظرة الأممية المنطلقة من الإيمان بمشروع الأمة لا يمكن أن تقرّ بأولية مشروع المواطنة، ولا يمكن أن يكون ولاؤها الرئيسي هو للوطن.
فمصير المسلم لديها أهم من مصير المواطن، ومصير الأمة الإسلامية أهم من مصير الوطن. والمواطن الكويتي هو أحد مكونات المسلم ولا يمثلها كلها، والكويت هي جزء صغير من الأمة الإسلامية ولا يمكن أن تمثل الأمة. فيصبح الوطن والمواطن مجرد وسيلة لتحقيق هدف وغاية مشروع “الأمة الإسلامية”. لذلك، من الطبيعي في ظل هذا المشروع أن يكون مصير مشروع حسن نصرالله ومستقبله بالنسبة لنواب الأقلية الإسلامية الشيعية أهم من مصير أي مواطن وأهم من أي خلاف طائفي قد يحرق الشأن الكويتي الداخلي. وكذلك، من الطبيعي أن يكون مصير مشروع أسامة بن لادن بالنسبة لنواب في الأغلبية الإسلامية السنية أهم من مصير أي مواطن وأهم من أي خلاف محلي يهدد التعايش الوطني. فلا يمكن لأي منتم للإسلام السياسي أن يكون موقفه إنسانيا أو وطنيا، بل لابد لموقفه أن يخدم إسلامه المؤدلج وإنسانه المؤدلج، لا أن يخدم في الدرجة الأولى الوطن والمواطن.
وعلى الرغم من أهمية الإشارة هنا إلى أحقية الشعب البحريني في المطالبة بحقوقه السياسية والاجتماعية، لكن من المهم القول أيضا بأن الدفاع عن النظام السوري وآلة قتله بذريعة أنه النظام الوحيد “الممانع” في وجه إسرائيل، يُذكّر بعبارات الكثير من مؤيدي الأنظمة “الممانعة” والحركات الثورية “الإسلامية” و”التقدمية” في دفاعها عن المشروع الأممي للمقبور صدام حسين حينما غزا الكويت عام 1990 بذريعة أنه مثّل الطريق الرئيسي لتحرير القدس واستعادة أمجاد الأمة. فالوطن ابتُلع من أجل مشروع الأمة. وراهنا، يجب أن نواجه أي مشروع أممي لنواب مجلس الأمة لابتلاع الوطن خدمة لمشروع أممي من نوع آخر منطلق من الأحداث في البحرين وسورية. لذلك، لا يختلف موقف من وقف مع المقبور صدام حسين أثناء الغزو بحجة دعم الطاغية للقضية الفلسطينية، مع موقف من يقف مع النظام السوري الآن بحجة أنه نظام ممانع، أو من يقف ضد حقوق الشعب وإصلاحاته في البحرين بذرائع أممية واهية متعلقة بالخوف من المد الإيراني “الصفوي”.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com