المشهد الفرنسي عشية جولة الانتخابات الرئاسية الأولى

0

زياد ماجد

تنطلق الجولة الاولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية يوم الأحد القادم بمشاركة 12 مرشحاً يتوزعون بين أقصى اليمين (جان ماري لوبان مرشح “الجبهة الوطنية” وفيليب دو فيلييه مرشح “الحركة من أجل فرنسا”) واليمين (نيكولا ساركوزي رئيس “التجمع من أجل حركة شعبية”) والوسط (فرانسوا بايرو مرشح “الوحدة من أجل الديمقراطية الفرنسية”) واليسار (سيغولين رويال مرشحة “الحزب الاشتراكي” ودومينيك فوانيه مرشحة “حزب الخضر”) وأقصى اليسار (ماري جورج بوفيه مرشحة “الحزب الشيوعي” وآرليت لاغييه مرشحة “الكفاح العمالي” وأوليفيير بوزانسنو مرشح “العصبة الشيوعية الثورية” وجوزيه بوفيه مرشح “العولمة البديلة” وجيرار شيفاردي المدعوم من “حزب الشغيلة”). يضاف الى هؤلاء فريديريك نيهوس مرشح “الصيادين والطبيعة والتقاليد” وهو “لوبي” أو كتلة ضغط محافظة ويمينية القيم.

تظهر متابعة الحملة الانتخابية الحالية بشكلها ومضمونها وتوزّع القوى فيها عوامل عدّة تعكس الاهتمامات السياسية للفرنسيين وطبيعة الاجتماع السياسي في بلادهم راهناً، سأحاول في هذا المقال التوقف عند جوانب منها.

أ- غياب العالم عن النقاشات والأمركة الإعلانية

لأول مرة في تاريخ الانتخابات الفرنسية يغيب “العالم الخارجي”، أو يكاد، عن الحملات والوعود الانتخابية وعن منابر المرشحين. فلا الصراعات الدولية، ولا قضايا الامم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، ولا الشرق الأوسط أو العلاقة مع الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا أو اليابان أو ألمانيا، ولا المساحتين المتوسطية والأفريقية ولا حتى القضايا الأوروبية، في ما عدى تأييد سياسات الاتحاد الأوروبي أو رفضها، تحتل مواقع واضحة في النقاشات السياسية الانتخابية وفي المناظرات والمقابلات الإعلامية. وكل الأحاديث والاقتراحات والهجمات المتبادلة تتم على أساس سياسات الهجرة والأمان والاندماج الاجتماعي وأوضاع ضواحي المدن وقضايا التعليم والتشغيل والبطالة والشباب والمساعدات الاجتماعية والموازنات الحكومية ومستويات الضرائب والحوافز الاقتصادية ومشاكل البيئة. وفي ذلك تركيز مطلق على البعد الداخلي للانتخابات وبرامج العمل الوطنية هو مستجد في انتخابات فرنسية، في تشابه مع ما جرى تاريخياً، ولغاية 11 أيلول 2001، في الولايات المتحدة الاميركية (التي تعيش بالمقابل بداية حملة يحتل فيها الخارج لأول مرة المرتبة المتقدمة في الأدبيات الانتخابية، من العراق الى “الحرب على الإرهاب”).

رغم ذلك، يمكن تلمّس مواقف عمومية ومقاربات للقضايا الدولية يتبنّاها معظم المرشّحين الفرنسيين على مواقعهم الإلكترونية وفي فقرات من برامجهم الانتخابية. فلوبان المناهض للعولمة والباحث عن موقف مستقل لفرنسا في العلاقات الدولية من منطلق شوفيني، يرفض السياسات الاقتصادية والتوجّه التوسّعي في العضوية للاتحاد الأوروبي، ويرفض كل حلف يفرض على فرنسا مواقفها، معتبراً نفسه غير معني بإيران إن امتلكت السلاح النووي أو لم تمتلكه (طالما أن دولاً مجاورة لها تحوزه)، تماماً كما هو غير معني بالضرورة بأي صراع في العالم إلا إذا أدى الى هجرة الى أوروبا ثم الى فرنسا.

أما ساركوزي، فيدّعي أن صداقته الثابتة لإسرائيل ودعمه الكبير لها لا يحولان دون انفتاحه على العرب وتأييده لسلام شامل في الشرق الأوسط. وهو مع توجه فرنسي أطلسي يمتّن العلاقات مع الولايات المتحدة وبريطانيا (اللتين تعمّد زيارتهما في مطلع حملته منتقداً موقف بلاده من حربهما في العراق) ويحوّلها تحالفاً وطيداً دائماً، على خلاف ما كان سائداً الى الآن من تعاون متفاوت المستوى معهما.

من ناحيتها، تبدو رويال (التي زارت الصين وتشيلي وفلسطين وإسرائيل ولبنان خلال حملتها) حذرة في إعطاء آراء قاطعة حول أي من القضايا، وهي أساساً مرشحة حزب لم تتّفق تياراته حول الموقف من الدستور الاوروبي ومن صلاحيات الاتحاد، كما أنها مختلفة حول سبل التعاطي مع عدد من السياسات، لا سيما السياسات الاقتصادية (بين من يريد المحافظة على “هوية اشتراكية فرنسية” ومن يبحث عن بلورة “اشتراكية ديمقراطية” أو “اجتماعية ديمقراطية” على الطريقة السويدية، ومن يقتدي بتجربة طوني بلير وخطه “الثالث”). وعلى العموم، يبقى الحزب الاشتراكي، وهو تاريخياً حزب سلطة في فرنسا، قريباً الى التعاطي مع السياسات الخارجية على نحو ما ساد في العقود السابقة.

ولا يختلف بايرو كثيراً عن الخطوط العامة لرويال في السياسة الخارجية، لكنه قلّما يتحدّث في الموضوع. أما دو فيلييه فلا يعبّر عن رأي واضح إلا في هجاء أوروبا وسياسات “بروكسيل”، يشبهه في أمره، وإن من موقع النقيض السياسي والطبقي، شيفاردي.

يبقى أن الأوضح في مقاربة القضايا الخارجية هم بوزانسنو ولاغييه وماري جورج بوفيه وجوزي بوفيه الرافضين للمسار الليبرالي الحالي للعولمة والمعارضين للهيمنة الأميركية، والمعبّرين باستمرار عن تضامنهم مع قضايا التنمية وإعادة توزيع الثروة، وعن انحيازهم لحقوق الانسان على حساب العلاقات بالأنظمة، ودفاعهم عن الحقوق الفلسطينية (بوجهها العلماني التحرّري). تشاركهم في بعض ذلك دومينيك فوانيه وتعطي بعداً بيئياً عالمياً يحذّر من الانحباس الحراري ومن مخاطر التحولات الايكولوجية نتيجة السياسات التصنيعية وخيارات الطاقة والتعديل الوراثي للمحاصيل الزراعية.

ترافق الحملة الانتخابية في هذه الدورة “أمركة” في الأسلوب، كانت في السابق حكراً على جان ماربي لوبان، لكنها برزت بقوة مع ساركوزي، وانتقلت الى باقي المرشحين “الكبار”، لجهة شكل الاجتماعات وطبيعة الصالات ونوعية الإضاءة وإيقاع الموسيقى فيها وطريقة الدخول النجومية إليها وتوقيت اعتلاء المنبر، إضافة الى رفع الأعلام وأسماء المرشحين على ألوف اليافطات الفردية. وكذلك الأمر في ما خص الأفلام الدعائية القصيرة المعدة للتلفزيونات حيث كلام المرشح أو تواصله مع الناس وشهادات هؤلاء فيه تمر على طريقة “الفيديو ستارتر – Starter” التي تسبق كلام المسؤولين أو ندوات الحوار الأميركية، وهي تختلف في منهجيتها، حيث الفردية منطلق للحديث في العام، عن الافلام الوثائقية القصيرة أو عن رسائل الدعم التي يمكن أن يوجّهها مشاهير الى الجمهور (على نحو ما كان يتمّ في السابق في فرنسا). كما أن الكلفة المالية للحملات تبدو ضخمة، وما يتسرّب من أرقام عن ميزانية حملة ساركوزي يبيّن أنها الأكبر (تُعلَن تقارير الانفاق المالي خلال الانتخابات بعيد انتهائها، ويستردّ كل مرشح تجاوز عتبة ال5 في المئة من الأصوات معظم ما أنفقه في حملته وفق شروط ومعادلات تمنع التلاعب نظرياً وتحدّد سقوفاً لحدود الانفاق).

ب- التنافس على اليمين وأقصى اليمين بين لوبان وساركوزي

كرّس جان ماري لوبان نفسه عنصراً أساسياً في المعادلة السياسية الفرنسية. فبعد وصوله المفاجئ الى الدورة الثانية عام 2002، ها هو اليوم يحافظ على نسبة من الأصوات تفوق ال15 في المئة من نوايا التصويت (علماًَ أنه الوحيد الذي لا يجاهر جميع ناخبيه بنيتهم التصويت له مسبقاً لشعورهم بالحرج كونه “جُرّم” لعقود من أكثرية الطبقة السياسية والثقافية – وهذا ما يفيده أحياناً فيتصرّف بوصفه “الضحية”). ولوبان هو يميني قيمياً واجتماعياً ووسطي اقتصادياً وشعبوي سياسياً مع باع طويل في المناورة وطرح الأسئلة الصعبة على خصومه ومهارة لغوية تبسيطية تستهوي بعض “القوميين” والريفيين والكثيرين من أبناء الطبقة العاملة الخائفين على عملهم من المهاجرين (الذين يلصق بهم كل التهم والمسؤوليات عن “تردّي” الأوضاع في فرنسا)… والبارز أن حضور لوبان، رغم ما ذكرنا عن “تجريمه”، صار اليوم بديهياً في الإعلام، بل صارت مفرداته وأفكاره محطات في الحملات الانتخابية يتبناها بشكل غير مباشر عدة مرشحين أو مقربين إليهم. فالأمان والاندماج اللذان كانا محور الانتخابات عام 2002 بقيا، مضافين الى الهجرة، من أبرز محاور الانتخابات الحالية الى حد دفع بلوبان للقول ساخراً “لمّت سيغولان رويال العلم الفرنسي لتلحق بنيكولا ساركوزي الذي لا يقوم بأي شيء سوى محاولة اللحاق بي”، أو معلّقاً على برامج منافسيه “لقد اكتشفوا أخيراً ما أردّده منذ أكثر من عشرين عاماً، في وقت كانوا يفاقمونه ويزيدون من حدّة وجوده في سياساتهم”. ولوبان لا يقدّم جديداً في هذه الدورة من خارج ثوابته غير طرحه فكرة بناء جدار عازل على الحدود الأوروبية والفرنسية يمنع الهجرة غير الشرعية، كمثل الجدار الذي تواصل بناءه الولايات المتحدة على حدودها المكسيكية!

من جهته، يعدّ ساركوزي “الغول السياسي” المتقدّم ببطء وبثبات منذ سنوات. “قبض” على وزارة المالية لفترة، ثم على الداخلية، ثم على الحزب اليميني الأكبر. نجا من محاولات شيراك إضعافه لصالح رئيس الحكومة الحالي دو فيلبان، واستوعب نجومية وزيرة الدفاع “مام” وأدخلها في حملته، ونسج خلال سنوات علاقات وطيدة مع الكثير من الصحافيين ورجال الأعمال فبات السياسي الأكثر تغطية إعلامياً، والاكثر حصولاً على الدعم والتبرعات في حملته الانتخابية. ولا شك أنه اليوم المرشح الذي يهابه الجميع، بدءاً ممن هم على يمينه، لوبان، الذي يخشى استخدامه للكثير من أفكاره وعباراته واعتماده لهجة حادة في موضوع الهجرة والامن والضواحي على نحو قد يهمّش دوره المعارض للسلطات ومشروعية خطابه عند جزء من الفرنسيين، وصولاً الى من هم على يساره ويرون فيه تحوّلاً حاسماً في مسيرة اليمين الفرنسي التقليدية والوسطية وتراجعاً عن عدد من ثوابت “الجمهورية” ثقافياً، وميلاً بوليسياً للتعاطي مع المشاكل الاجتماعية. ولعل خطاب ساركوزي العنيف الذي سمّى أبناء الضواحي المشاغبين “حثالة” والذي يرى أبعاداً جينية ووراثية في بعض السلوكيات الإجرامية، أو خططه لقبول الهجرة انتقائياً (متعلمون وأغنياء وناطقون بالفرنسية حصراً) وقوله بضرورة ترحيل من هم على الأراضي الفرنسية بشكل غير شرعي، تشكّل جميعها مواضيع حامية تثير النقاشات والجدال الذي لا ينتهي في هذه الحملة.

هو إذن يصارع لوبان فوق أرضه محاولاً سحب البساط من تحت رجليه للإمساك باليمين وبأقصى اليمين (من دون نجاح حاسم حتى الآن، إذ يقول أنصار لوبان أنهم ما زالوا يفضلون الأصيل على “الفوتوكوبي”). وهو يدرك أن توسيع قاعدته الناخبة في الدورة الثانية سيتمّ عبر تمدّده على يمينه أكثر من يساره، أي لجهة الوسط، غير المرحِّب بشخصه…

ج- الصعود السريع للوسطي بايرو واحتمال تراجعه بالسرعة نفسها

لا شك أن ظاهرة هذه الانتخابات هي فرانسوا بايرو. فالمرشح الذي درجت العادة منذ سنوات على تسميته “الرجل الثالث”، والذي يقول – بعد أن كان يؤكد يمينيّته – إنه صار وسطياً يأخذ الأفضل من أفكار اليمين واليسار رافضاً تقليدية التمثيل السياسي وساعياً الى كسر احتكاره من الحزبين الكبيرين على أساس الفرز التاريخي، قد يحصل على نسبة عالية من الأصوات تقارب ال18 في المئة، وسيحلّ على الأرجح في المركز الثالث بعد ساركوزي ورويال، إلا أن سبقه لوبان في الشوط الأخير (رغم طموحه للانتقال الى الدورة الثانية – حيث تشير الاستطلاعات الى أنه في حال حقّق ذلك سيفوز حكماً بالرئاسة نظراً لاضطرار الإشتراكيين للتصويت له ضد ساركوزي في حين أنه من غير المضمون أن يصوّت جميع ناخبيه لرويال في الدورة الثانية).

ويمكن القول إن الصعود السريع لبايرو قد يليه هبوط سريع مع نهاية الانتخابات، ذلك أن الوافدين لتأييده ليسوا ممّن يلتزم عملاً حزبياً، فهم في أكثرهم من المخيّبين من أداء اليمين واليسار، ومن طبقة اجتماعية تسمّى باللغة الباريسية “البوبو” (أي البورجوازيين البوهيميين) يبحث أعضاؤها عن التغيير ويرون في وسطيّ بورجوازي مثلهم ضالتهم لحظة الانتخابات. وبذلك، قد يعود حجم بايرو بعد الرئاسيات الى ما كان عليه قبلها (ما دون ال10 في المئة)، أو هو سيحسّن وضعه قليلاً في انتظار الانتخابات التشريعية.

غير أن الضغط الذي يمارسه بعض المثقفين والقادة اليساريين مثل روكار وكوشنير باتجاه تحالف في الدورة الثانية بين بايرو ورويال، يفتح سيناريو جديد أمام بايرو إن فازت رويال، هو السيناريو الحكومي. لكن دون ذلك عقبات عدة، أهمهما حتماً الطامحون الى رئاسة الوزراء داخل الحزب الاشتراكي نفسه…

د- سيغولين رويال الحائرة بين من هم على يسارها ومن هم في موقع الوسط

تقف سيغولين رويال عند تقاطع طرق. فالمرأة التي هزمت الأوزان الثقيلة داخل الحزب الاشتراكي وانتزعت ترشيح حزبها للانتخابات، والتي نجحت إعلامياً في تقديم جديد للفرنسيين من خلال التركيز على “الديمقراطية التشاركية” وعلى تنظيم مئات اللقاءات “للإنصات الى ما يريده المواطنون”، تبدو اليوم في حالة إرباك رغم ثباتها في المركز الثاني في استطلاعات الرأي خلف ساركوزي وضمانها الى حد بعيد الانتقال الى الدور الثاني وتجنب السيناريو المؤلم الذي أطاح بجوسبان من الدور الاول عام 2002. فهي تركّز على “التصويت المفيد” في مخاطبتها الجمهور على يسارها لتجنّب تشتّت الأصوات، وتقدّم في نفس الوقت أفكاراً يعتبرها كثر وسطية لجذب جمهور متردّد أو قريب اليوم من بايرو.

وفي أي حال، قد تملك رويال في الدور الثاني خزاناً من الأصوات على يسارها ويمينها أوسع من ذلك المتوفّر أمام ساركوزي إن هي أحسنت التنسيق مع منافسيها الخارجين بعد الدورة الاولى. ولعلّها تفكر بتكثيف التحرك نحو الوسط لاحقاً لجذب مصوّتيه إليها مراهنة على أن أكثرية من هم في أقصى اليسار سيصوتون لها ولو مكرهين خوفاً من ساركوزي.

هـ- تفوّق بوزانسنو في أقصى اليسار المفتّت

يقدّم أقصى اليسار مشهداً فريداً في هذه الانتخابات. فعدد مرشحيه هو الاعلى منذ أمد طويل، إذ يتنافس 5 مرشحين منبثقين منه، يضافون الى مرشحة حزب الخضر (الاقرب الى الاشتراكيين من قربها إليهم) وقد لا يجني أكثريتهم عدداً كبيراً من الأصوات.

من بين هؤلاء المرشحين، ثلاثة تروتسكيين (بوزانسنو ولاغييه وشيفارديه)، وشيوعية (ماري جورج بوفيه) ومرشح مقرّب من الجمعيات اليسارية غير الحكومية (جوزيه بوفيه).

على أن التروتسكيين الثلاثة لا يشيرون الى مرجعيتهم الفكرية، بل ينادون بسياسة يسارية “حقيقية” في وجه تلك “الملتبسة” بحسبهم التي يعتمدها الاشتراكيون. كما أن الشيوعية لم تستخدم مرة في حملتها لفظة “شيوعي”، بل تتحدث عن اليسار الشعبي والمعادي لليبرالية. أما جوزيه بوفيه، فيتنقّل بين التركيز على المزارعين والطلاب في فرنسا والبحث في عولمة إنسانية تشمل المعمورة.

الواضح حتى الآن أن بوزانسنو (وهو الأصغر سناً بينهم والأنجح إعلامياً) سيحظى وفق استطلاعات الرأي بالنسبة الأعلى من الأصوات بين “رفاقه”، مما سيجعله في المستقبل في موقع تفاوضي أقوى معهم إن أرادوا البحث في ترشيحات مشتركة للانتخابات التشريعية. وهو حتماً سيكون أكثرهم جهوزاً بعد خمس سنوات لتكرار الترشح للرئاسيات واستكمال المغامرة التي بدأها عام 2002 ب5,5 في المئة من الأصوات.

والواضح أيضاً أن الحزب الشيوعي فقد موقعه المركزي في الحياة السياسية الفرنسية، وبات في حجم لا يفوق أحجام أي من المرشحين اليساريين الآخرين (هو الذي وصل قبل أربعين عاماً الى نسبة تفوق ال25 في المئة من الناخبين)، إذ قد لا يحصل على أكثر من 2,5 في المئة من الاصوات هذه المرة، تماماً مثل لاغييه وبوفيه، وخلف بوزانسنو 3,5 الى 4 في المئة، وأمام الخضر 1,5 في المئة وشيفاردي 0,5 في المئة.

و- تراجع قدرة حسم الأحزاب التاريخية للانتخابات لوحدها

تشير الاستطلاعات الى أن نسبة المترددين ما زالت حتى قبل أيام قليلة من الاقتراع أعلى من النسب التي يمكن أن يحصل عليها معظم المرشحين منفردين، وهي تقارب ربع الناخبين. وإذا أضفنا إليها النسب التي سيحصل عليها المرشحون ممّن هم دون عتبة ال5 في المئة من الأصوات، وجزءاً من الناخبين الذين سيصوتون لبايرو من باب الاعتراض على الباقين لوصلنا الى ما يقارب نصف الناخبين. وفي ذلك ما يشير الى تزايد مضطرد في نسب المواطنين ممّن هم خارج الاصطفافات التاريخية بين يمين الوسط ويسار الوسط (وفق التصنيف الفرنسي)، وبالتالي خارج القدرة التجييرية للاحزاب الكبرى.

وإذا كان هذا الأمر قليل المفاعيل في انتخابات رئاسية، فإنه كبير الأثر في الانتخابات التشريعية والمحلية إن انتقلت الى اعتماد النظام النسبي على ما يطالب العديد من القوى اليوم بديلاً من النظام الأكثري (على دورتين) في الدوائر الفردية. فالمشهد عندها قد يتغير تغيّراً جذرياًَ، ويدخل قوى الى المجالس المنتخبة لم تدخل في تاريخها، أو هي نادراً ما تمثّلت على نحو يتناسب وحضورها الفعلي في الحياة السياسية الفرنسية.

في الختام، ملاحظة لا بد من ذكرها في ما يتعلّق بمنطقتنا العربية وأبنائها المهاجرين الى فرنسا، ومفادها أن المتداول من معطيات يشير الى أن أكثر الناخبين ذوي الأصول العربية أو الإسلامية سيصوتون لبايرو ثم لرويال (وقد يحصل بوزانسنو على أصوات عالية بين شباب الضواحي المتحدرين من أصول مغاربية)، في حين يتوقّع أن يصوّت جزء أساسي من الناخبين المؤيدين لإسرائيل لساركوزي، وأن يتوزّع الآخرون بين رويال وبايرو وفق مواقفهم الاجتماعية أو السياسية الفرنسية الداخلية بعيداً عن القضايا الشرق الأوسطية.

الجولة الاولى من الانتخابات تبدأ الأحد المقبل إذن، منهية حقبة طويلة في تاريخ فرنسا الحديث. حقبة استمرّت 26 عاماً سيطر خلالها الثنائي اللدود ميتران – شيراك على المشهد السياسي. فالأول حكم 14 عاماً، والثاني 12 عاماً (ولايته الثانية كانت من خمس سنوات بعد تعديل دستوري قصّر مدة الولاية).

وينبغي في وداع هذه الحقبة أن نذكر أن الجزء الشيراكي منها المرافق لما عايشناه من أحداث في العقد الاخير كان علامة فارقة في السياسة الخارجية الفرنسية (بمعزل عن السجل الداخلي الإشكالي والمختلف على تقييمه بين الفرنسيين). فمن إعطاء فرنسا دوراً مستقلاً على الصعيد العالمي غير ملتحق “بالمركز” الاميركي، وتقديم اقتراحات ضرائب دولية لاستحداث صناديق تدعم البيئة وبرامج مواجهة الفقر، الى التعامل مع فلسطين بوصفها “دولة” ورفض الحصار الإسرائيلي والحظر الذي فُرض على رئيسها ياسر عرفات، مروراً بالتعاطي مع القدس الشرقية كأرض محتلة وزيارتها ومنع الامن الإسرائيلي من قمع أبنائها خلال الزيارة، وصولاً الى رفض الحرب على العراق، وتوطيد التوجه الأوروبي لاحتلال موقع أساسي على الصعيدين المتوسطي والأفريقي، من دون أن ننسى طبعاً الدعم الثابت وغير المسبوق لاستقلال لبنان ولسيادته، حاول جاك شيراك رسم معالم موقف يستوحي الديغولية في مناخ دولي متبدّل انتهت فيه الحرب الباردة وانتعشت أوروبا. وهو بهذا المعنى سينضم بلا شك الى نادي الرؤساء المؤثّرين في التاريخين الفرنسي والعالمي…

*كاتب وباحث سياسي

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading