شيباني مع إقليم برقة
كان الليبيون يتوجسون من نظام الفيدرالية انطلاقا من الخبرة المؤلمة والدامية التي شهدتها العراق، من بعد الغزو الأمريكي في مارس 2003، وبعد سقوط صدام وما زالت تكتبها بالدم والدخان حيث طفت على السطح أكثر من 500 وثيقة ومرجع حول الفيدرالية التي لم يتوقف النقاش حولها كما لم يتوقف التناتش والتناهش على أسلاب الدولة، بما يشهد على فشل “النخب” السياسية الحاكمة في الوصول إلى اتفاق بشأن شكل الدولة والمجال العام المؤهل لانتظام التعايش والعيش المشترك لجميع العراقيين.
كان اللجوء إلى الفيدرالية في العراق كما في ليبيا واليمن، تعبيرا صارخا عن فشل “النخب” في جميع هذه البلدان في بناء الدولة، وهو عجز أفضى إلى استدعاء وإقحام الدين ورجاله، وأنعش سوق الإفتاء والفتاوى بين طرفي السجال والاستقطاب، وهناك من “حلل” الفيدرالية وهناك من “حرمها” لينخرط الجميع في أجهزة الآخرة والفعاليات القيامية الخاصة بتشييع ما تبقى من نعش السياسة.
ولم يظهر السجال بشأن الفيدرالية إلى السطح في كل هذه البلدان إلا بعد أن تمادت فيها المأساة، واحتدمت الانقسامات وتخبطت هذه البلدان في أتون الفوضى السياسية والصراعات القبلية والمليشاوية، وبرزت فيها قوى الأمر الواقع المتمثلة بجماعات مسلحة بشتى أنواع الأسلحة ومتسربلة بالدين والفتوى.
كان واضحا أن الموروثات الانقسامية في ليبيا بين بنغازي في الشرق وطرابلس في الغرب، وموروث الانقسامات بين الشمال والجنوب والوسط في العراق، وبين الشمال والجنوب وما بينهما ويتخللهما في اليمن، موروث فاعل وشرس الحضور. وكانت الزعامات السابقة قد تكفلت بحقن ذلك الموروث وحراسته وتفخيخه حتى ان الحكم العصابي الأسري للقذافي أو لصدام أو لصالح لم ينحلّ إلا بعد أن أفلح العقيد والمشير و”القائد الضرورة” -كلهم واحد- في تجريف البلاد من المدنية والمدينة والسياسة وتلغيمها وتفخيخ المجتمع كيما “ينفجر على نفسه” في اللحظة التي ينفرط فيها التمركز حول “الحاكم” الذي
اختزل البلاد والعباد في شخصه ولم يرحل إلا بعد أن عمل على تخصيب تربة الانقسامات الأهلية والحروب التي اتخذت مسميات شتى. فتارة يقال إنها طائفية وأخرى مناطقية أو جهوية أو قبلية أو شخصية أو ثأرية وتصفية حسابات بنوع من الاختلاط المهول، الذي ذهب معه أحد الكتاب في ليبيا إلى القول إنه في لحظة مصرع القذافي ولد “عشرات القذافي” وتبدى ذلك حين تراقص رجال غاضبون حول جثة الدكتاتور، وتفشت الجائحة المليشاوية لتصبغ كافة الأرجاء بالدماء وتجتذب المئات والآلاف من حملة السلاح الذين وجدوا ضالتهم في عشرات الآلاف من قطع السلاح التي خرجت من المخازن والمدافن، علاوة!
على ما تدفق من أسلحة إلى ليبيا من
جميع جهاتها المفتوحة والمستباحة.
وتكشف للعيان بأن “الجماهيرية العظمى” كانت تنام على براميل من النفط والبارود أكثر من أي شيء آخر.
..في السادس من مارس الماضي أعلن زعماء قبائل وسياسيون ليبيون في بنغازي تأسيس إقليم فيدرالي اتحادي بشرق ليبيا، واختاروا الشيخ أحمد السنوسي، نجل آخر ملوك ليبيا، رئيسا للمجلس الأعلى للإقليم المذكور. وقد كان هذا القرار هو الأبرز بين القرارات التي خرج بها مؤتمر شارك فيه قرابة ثلاثة آلاف من أهالي برقة.
وأقر المؤتمرون أن يعنى المجلس الأعلى بإدارة شؤون الإقليم والدفاع عن حقوق السكان في ظل مؤسسات السلطة الانتقالية المؤقتة؛ مع الإقرار بأن تلك السلطة تعتبر رمزا لوحدة البلاد وممثلها الشرعي في المحافل الدولية، كما أعلنوا اعتماد دستور الاستقلال الصادر عام 1951 كمنطلق، مع إضافة التعديلات التي تقتضيها الظروف الراهنة.
المهم أعلن إقليم “برقة الاتحادية” وهو إقليم ينتج أكثر من 60% من الثروة النفطية وفيه ما لا يزيد عن 25% من السكان. ويومها لم يحظ الإعلان بالترحاب والتأييد وتوافق الكثير من المثقفين والسياسيين المتشربين لأفكار وثقافة الوحدة وحتى لقيم الوطنية الليبية، على إدراج ذلك الإعلان في خانة الأسباب التي ستؤدي إلى تفكيك البلاد، وتحريك المزيد من المناطق للمطالبة بالمثل خاصة تلك المناطق الغنية بالثروة النفطية، والإخلال الكبير في توزيع الثروة على السكان.
اللافت أن الدعوة إلى الفيدرالية في ليبيا أو في العراق وحتى في اليمن؛ جاءت في مناخات احتراب وتفكك، وليس بالإمكان تفادي انجرارها إلى المنزلق العراقي وإن كانت تستلهم بعض المرجعيات وأساطير التأسيس السابقة، وتستند في ليبيا –مثلا- إلى ما كان عليه الوضع عقب الاستقلال 1951، حيث كانت الدولة فيدرالية من ثلاثة أقاليم حتى عام 1963، هي فزان وبرقة وطرابلس. وتتأسس في اليمن على ارجحية الدولة الاتحادية من إقليمين شمالي وجنوبي بما يستحضر ما كان عليه حال اليمن قبل صفقة الوحدة وإعلان جمهورية 22 مايو 1990.
صحيح أن المناداة بالفيدرالية تنطوي على محاذير وأخطار، ولكن ليس ثمة خيار آخر يرتسم في أفق النظر غير أفق الحرب حتى الموت بضرب من رجع الصدى البائس لشعار “الوحدة أو الموت”.
لعل المكمن الأبرز لخطورة هذه المناداة يتمثل في أنه جاء ليعبر عن الإخفاق في بناء دولة وطنية حديثة طيلة العقود الخمسة الماضية.
ولكن الخطر الأكبر يتبدى في التهويل من الخطر المحدق بوحدات لم تعد قائمة، والتهوين من سخط وغضب الذين يطالبون بإقليم فيدرالي مستقل بعد أن عانوا الأمرين من التهميش والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي، وبعد أن كانوا قدموا التضحيات الجسام ونهضوا بالأدوار التأسيسية في معترك صياغة المشهد الجديد للثورات والدول في بلدانهم ليلاقوا بعد ذلك جزاء “سنمار” كما يقال.
تلك هي التداعيات والعقابيل الطبيعية لسياسات الإقصاء والتهميش والطمس والإلغاء (القذافية) و(الصالحية) و(الصدامية) لمناطق وجهات وأقوام وأرجاء واسعة، وما حدث هو انه ما أن تهاوت تلك الأصنام أو تصدعت أركان عروشها، حتى خرج المهمشون والمقصيون ليطالبوا برد الحق إلى أهله وإعلان الانعتاق والطلاق مع المركز في صنعاء أو طرابلس وغيرهما.
وزاد من إغراء المطالبة بفك الارتباط بسلطة المركز في صنعاء أو طرابلس؛ ما أحاق بهذه البلدان من تدهور وانفلات أمني وسياسي وأخلاقي وفساد متغول وسلاح منتشر ومليشيات ومافيات ورثاثة أداء الحكومات و”النخب”.
كل ذلك دعا الكاتب الليبي –مثلا- محمد عبدالله الشيباني الذي كان وقف على الضد من إعلان برقة كإقليم مستقل في مارس الماضي، إلى مراجعة رأيه وموقفه واعتماد قراءة أخرى لخارطة وطنه المتشظي: من شبه إمارة في درنه، إلى دويلة في مصراته، وشبه دويلة في الزنتان، إلى مشاريع دويلات في الجنوب والشرق والغرب.
وبعد أن كان الشيباني في صدارة من تصدوا لإعلان برقة إقليما تحت شعار “برقة الانطلاق وليبيا الهدف” راجع موقفه بالانطلاق من تفهمه لدور وحق برقة التي كانت سابقا نقطة الانطلاق والارتكاز في العمل الوطني بفعل دور أبنائها الذين وفروا مناخا مناسبا تأهلت معه برقة لقيادة ليبيا في معارك الاستقلال والثورة، ثم في تحريرها من قبضة الطاغية القذافي.
فهو يرى انه بمجرد انعتاق إقليم برقة وامتلاكه لمصيره واكتمال بنيانه المؤسساتي بما في ذلك على مستوى الجيش والشرطة؛ فإن هذا الإقليم سوف يساهم كثيرا في بناء البيت الليبي الكبير، ويعتقد بأنها فرصة بالنسبة لليبيين وعليهم أن يسارعوا ليؤازروا برقة على طريق إنقاذ ليبيا من براثن المليشيات والعصابات ومن قلب الضياع في مثلث برمودا، حيث “ضبابية ولغز السطح وتوتر واضطرام وعدائية الأعماق”.
سطح معتكر وعمق مظلم ومتوتر
لعل الشيباني يتصور هنا انه من خلال دعم الإقليم القادر على لملمة أشتاته والمؤهل لاستعادة مناخات وأجواء التصالح والتسامح الأهلي، يمكن أن تنفسح فرصة اكبر وينفتح المجال لخيال فعال في مجرى إعادة اختراع ليبيا على قاعدة تبادل المصالح والمنافع بين أقاليم وفي إطار دولة فيدرالية.
ولئن كانت ثورة فبراير 2011 في ليبيا وفبراير اليمنية قبلها قد أنعشت، في مطلعها، الآمال بدخول هذه البلاد أو تلك في موسم تكوين نخبة جديدة وواعدة، فإن العواصف والأنواء وكامل ضغط الموروث الانقسامي ومخلفات ما كان يسمى بـ”النظام” هنا وهناك قد دفعت بالأمور إلى أسوأ المنحدرات، وفجرت قنابل وألغام القيعان والأعماق وأسفرت عن تضاريس بشعة في تشظيها؛ وبما تحتويه من جزر متناثرة ومتقاتلة وقبائل سياسية وأحزاب قبلية وطائفية وتشكيلات عسكرية وطابور طويل من المنتفعين بـ”الثورة” والمتعيشين على فتاتها وهتافاتها والمقيمين في التشققات العميقة التي أحدثها الزلزال
في بلاد دخلت في حروب لا نهاية لها ولا طرف، وعلى نحو يبدو معه “الحاكم” السابق وكأنه لم يستنفد بعد كل حيله الشيطانية في جعل البلاد “جبل من شظايا، لا يتشكل منه بناء، سوى ما كان على شاكلة مثلث برمودا، حيث ضبابية ولغز السطح وعدوانية الأعماق”، الشيباني/الوطن الليبية.
وحتى فيما خص ذلك الجيل ومن جرى تصنيفهم في قائمة “الثوار”، فإن اللافت في مسارات وتجارب البلدان المذكورة هو أن معظم هؤلاء تكشفوا عن أنهم ورثة لنفس جينات الاستبداد والإقصاء والاستبعاد على مستوى العلاقة فيما بينهم، وانغماسهم في حروب صغيرة وحروب بالوكالة، وشتاتهم والتياثهم بعلل وفيروسات الحالة السياسية العقيمة وأشباح السياسة وزواحفها.
اللافت أن جل هؤلاء “الثوار” ساهموا بقصد ومن غيره، في إجهاض موسم ولادة نخبة جديدة وارتكسوا إلى أقبية وأنفاق كهفة الأمس وسدنة الماضي، وظهروا كتعبير صارخ عن حالة شتات وانهزام وجنائزية.
حضرموت وبطولة النفط
لعب النفط دور البطولة في صفقة الوحدة التي جرى التوقيع على اتفاقيتها بين عدن وصنعاء في 30 نوفمبر 1989، وأعلن عن قيامها في 22 مايو 1990؛ ذلك انه في مطلع عام 1988 اندلعت اشتباكات مسلحة بين الشمال والجنوب بسبب اكتشاف النفط والاحتياطات الكبيرة التي أعلنت الشركات عن اكتشافها على الحدود بين محافظتي شبوة الجنوبية ومأرب الشمالية.
في مايو 1988 أبرمت اتفاقية بين عدن وصنعاء، نزعت فتيل الحرب ونصت على السماح بتنقل المواطنين بين الشطرين والاستثمار المشترك للثروات النفطية والمعدنية وغير ذلك.
كانت هذه الثروة والمؤشرات والتقديرات التي أحاطت بها صنعاء أكثر من عدن هي الموجه والمحفز الأكبر لاندفاع صنعاء باتجاه عدن وانعطافها السريع والمباغت في اتجاه تبني خطاب “وحدوي” كان في الجنوب هو النشيد الصباحي والخبز اليومي في مطابخ الإعلام والساسة الذين تشربوا خطاب الوحدة من يفاعتهم وسكروا به حتى الثمالة تبعا لخلفياتهم ومنطلقاتهم القومية واليسارية.
خلال عام 1993 قام النفط بدور معاكس تماما لما كان عليه دوره في 1989؛ فقد أصبح لدى الجنوب موارد كافية، علاوة على أن الجنوبيين شعروا بخيبة مريرة وخذلان وخيانة من بعد انتقالهم إلى صنعاء وانتهاج قوى الطرد المركزي في صنعاء لسياسة “الوحدة بالإلغاء”؛ ابتداء من الإقدام على سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت القيادات الجنوبية، وصولا إلى استباحة الجنوب وغزوه وتحويله إلى غنيمة بعد حرب صيف 1994م.
كانت القيادات الأبرز التي هندست لصيغة التقارب والوحدة مع الشمال –تنفيذيا على الأقل- من حضرموت وكان الراحل صالح أبوبكر بن حسينون وزير النفط والثروات المعدنية في عدن قبل الوحدة، هو صاحب دور البطولة في صياغة العتبة الأولى لمشروع الوحدة عندما أبرم، عن الجنوب، اتفاق التنقل بين الشطرين والانتفاع المشترك بالموارد النفطية التي تقع في معظمها على الحدود بين الشمال والجنوب، وعلى الحدود مع المملكة العربية السعودية التي كانت ومازالت تتفاعل مع هذا الملف وتلامس إيقاعاته المسموعة والخفية بأعلى درجات الحساسية.
علاوة على هذا الاتفاق الذي ارتبط باسم صالح ابوبكر بن حسينون، الذي برحيله صريعا في حرب صيف 1994 كانت خسارة حضرموت واليمن عموما- جسيمة، فقد كان صاحب البطولة الرئيسية لفيلم الوحدة الفورية والاندماجية هو قائد الحزب والرئيس الفعلي لليمن الجنوبي الحضرمي علي سالم البيض الخطيب المفوه والمطنب يومها في محاسن الوحدة ومعجزاتها في ميادين وساحات عدن وصنعاء.
وعودا إلى البطل الأكثر فعالية وصاحب الحضور المتمادي الطاغي حتى اليوم: “النفط”، لا بأس من التذكير بأن الإعلان عن حقبة النفط في شمال اليمن كان في يونيو عام 1984، وفي العام 1987 كانت بداية تصديره من مأرب عبر شركة “هنت” الأمريكية، وفي التخوم في نطاق المحافظة الحدودية لمأرب الشمالية وبالأحرى في محافظة شبوة الجنوبية كانت شركة “تكنو اكسبورت” السوفيتية بدأت أعمال التنقيب في الجزء الغربي من محافظة شبوة وأعلنت اكتشاف النفط في ابريل 1987. ولدت عمليات التنقيب عن النفط انطباعا بأن الحقول النفطية الأغنى توجد في منطقة الحدود بين ج.ع.ي وج.ي.د.ش، ولذلك كانت اتفاقية 1989!
حول نزع السلاح في هذه المنطقة من أولى خطوات التوحيد للسماح بقيام أنشطة تنقيب مشتركة.
في مايو 1990 شهر إعلان الوحدة، كانت هناك ست شركات نفطية أجنبية تعمل في اليمن -يفترض الجيولوجيون أن المناطق الواعدة ذات بنى تحت الأرض مماثلة لشرق السعودية، حيث اكتشف أكبر حقول النفط في العالم.
في وقت لاحق شكل ظهور النفط في حضرموت انعطافا اكبر وعلامة فارقة مازالت تلقي بظلالها على كافة أرجاء المشهد حتى اليوم، ومن الراجح أن تكون من العلامات الحاسمة في تشكيل مشهد وملامح و”شكل الدولة القادمة” والأقاليم.
* رئيس تحرير صحيفة التجمع- صنعاء
إقرأ أيضاً: