تتشرب تضاعيف المشهد السياسي اليمني من الاستنقاع وتتشكل به، وليس ثمة عناصر، مكوّنات، تنظيمات متعينة الملامح والمحددات الفكرية، المعرفية والسياسية فكل شيء دبق، رجراج، زئبقي، غارق في الرمادية.
وفيما يقال إن مؤتمر الحوار الوطني الشامل الجامع الذي بدأ أعماله في 18 مارس وكان من المقرر أن يختم أعماله في 18سبتمبر 2013 كان هو معقد الرهان على إخراج اليمن من حالة الانسداد الخانقة، فقد تكشف للعيان بأن عملية استخلاص العَقد الجديد الحاكم والناظم لليمنيين بكافة جهاتهم واتجاهاتهم ليست هينة، وان مؤتمر الحوار ليس هو العصا السحرية الجاهزة لإخراج اليمن من مهب الهباء والاندثار.
والحاصل أن حالة القحط ومناخات الاحتراب والعنف المتصاعد والضارب في الأرجاء، والنخبة السياسية المشوهة والرثة وتآكل مساحة التفكير والفكر والغياب التام لمعارضة السائد قرارا وفكرا، والأعطاب التي أصابت دائرة القوى المؤثرة وانحصار نطاق الفعل المؤثر في جماعات النفوذ المباشرة التي تملك السلاح والعصبية علاوة على ما أضيف إليها مع السنوات من قوة مالية التي تشكلت بسرعة فائقة؛ قد أسهمت إلى حد بعيد في نمو تيارات العنف والتطرف بالاستفادة من ضعف وخِواء النخبة السياسية ومن اتساع رقعة الفقر والخراب والفوضى.
الحاصل ان هشاشة البيئة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية… فتحت الباب واسعا لجماعات النافذين والنفوذ كيما تمارس ابتزاز ونهب الداخل والخارج من هذا الباب: الهشاشة.
على خلفية ذلك كانت الحروب المستدامة هي الوسيلة الناجعة لتسمين قوى التخلف والعصبيات والعصابات، وانعدم الخيط الرفيع الفاصل بين الميليشيا والمافيا، وتجذّر الفساد، وفشلت الدولة، وتمزقت النخبة السياسية بمخالب الاستقطابات العقائدية، القبلية، الجهوية وتحولت القوى السياسية إلى مجرد بقايا متقطعة الأوصال مثقلة بالخيبة والشعور بالفشل واجترار ذكريات دورات الدم وانقطاعات التواريخ المشتركة والانهيارات السياسية الدموية والمحطات التمهيدية لتحويل البلاد إلى مجتمع كانتونات ومعازل عشائرية قبلية طائفية جهوية، وغابت أمثولة المثقف القادر على تجسيد الأفكار في صورة قيم وكائنات حية، وتمهد طريق العنف المتطاول بمتواليات الفشل المتراكم في بلد يتفكك ويتذرر ويتنازع فيه السياسيون على تناوش وتناهش ما تبقى فيها ومنها كأسلاب.
بالمناسبة، وصف أحد خبراء الأمم المتحدة –طلب عدم ذكر اسمه- وهو من المساعدين لممثل الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر المكلف بالإشراف والمتابعة لمجريات الحوار الوطني، التحلقات الصغيرة للمتحاورين اليمنيين في أروقة وكواليس فندق “الموفنبيك” بقوله انه لم يسبق له قط، رغم مشاركته في الكثير من المؤتمرات الخاصة بتلك الدول التي وصلت إلى انسداد وتفجرت أوضاعها بما استدعى التدخل الدولي، قال: لم يسبق لي أن شاهدت وسمعت هذا الذي يفعله اليمنيون وهم ينخرطون في حمى مسعورة لتقسيم خارطة بلادهم وتوزيع المنافذ البحرية والبرية وحقول الثروات النفطية والمعدنية دونما أي قدر من التفكير أو التدبر العقلاني لإمكانية إيجاد صيغة للتعايش والتصالح تحت أي مسمى: اتحادي، فيدرالي و….الخ، هو لا يدري بأن الحوار بالنسبة لليمنيين ليس إلا تلك المحطة التي تسبق الحرب أو تعقبها أو تمهد لها أو تعلن عنها.
ولن نأتي بجديد إذا ما قلنا بأن كل الأجواء التي أحاقت بمؤتمر الحوار واكتنفته لم تكن غير مواتية فحسب، بل وناسفة للحوار بقضه وقضيضه ولكن لم يكن ثمة خيار آخر.
انعقد الحوار في 18 مارس ولم يختم أعماله في موعده المحدد في 18 سبتمبر رغم التأكيدات المتكررة من قبل المراجع العليا في رئاسة الجمهورية والحكومة والأمانة العامة للحوار.
انشغل المتحاورون بنبش أضابير ومغاور الماضي والمظالم وعلى غرار المظلمة الكارثية والتاريخية الكبرى التي جرى اختزالها تحت عنوان: “القضية الجنوبية” برزت إلى السطح عناوين أخرى كثيرة: القضية المأربية، القضية التعزّية، والتهامية واليريمية و….الخ.
وظهر الكثير من الضحايا من بين ركام الوثائق ولم يلتفت أحد إلى أهمية التفكير بمساعدة هذا البلد المثخن بالجراحات على تنظيم خسارته، وتدبير تخريجة معقولة لفشل غير مجلجل.
لم يلتفت أحد الى واقع ان نقطة القوة الوحيدة التي تتمتع بها اليمن لا تكمن إلا في ضعفه وهشاشته وليس في وحدته كما يقال، فتلك أكذوبة مسلحة وقحة.
وعلاوة على النقطة السابقة المذكورة فثمة نقطة أخرى تتصل في ما يتمتع به اليمن من موقع جغرافي يجعل منه منصة للابتزاز بامتياز؛ فهو ضئيل الموارد ومحدود وتتحكم به بنية اجتماعية قبائلية تسلطية كانت الأكثر ذكاء ومكرا تاريخيا في مستوى إدراكها لأهمية موقع هذا البلد والاستفادة منه كنوع من كسب القدرة على تهديد الآخرين في الجوار والعالم وابتزازهم.
من هنا لا غرابة إذا كان التنازع والتقاتل على المنافذ البحرية والبرية قد وصل في الآونة الأخيرة الى الذروة لأنها من بين أهم موارد امتلاك القوة والنفوذ فمنها تدخل الأسلحة والمتفجرات والمبيدات والمخدرات والأدوية الفاسدة وكافة المواد التي يحصد النافذون من ورائها أرباحاً طائلة ومذهلة ومهولة.
ثم ان تأجيل اختتام مؤتمر الحوار له علاقة وثيقة بتقاسم وتوزيع أوصال تفاحة الشقاق: السلطة والثروة ولذلك كان تصعيد عمليات تفجير أنبوب النفط وضرب خطوط الكهرباء والانتقال من طور خبطات خطوط الكهرباء الى طور تفخيخ ونسف أبراج الكهرباء، واقتحام ومهاجمة القوات العسكرية المعنية بحماية منشآت إنتاج الغاز وتصدير النفط.
ثمة فارق بسيط في مستوى الدرجة وليس بالنوع بالنسبة لهذه الممارسات الإرهابية التي تصاعدت بالتزامن مع الوصول الى مشارف نهاية مؤتمر الحوار الوطني، فالعمليات التي تستهدف المنشآت النفطية والأمنية والعسكرية في المحافظات الجنوبية تُنسب إلى تنظيم “القاعدة”، فيما تنسب العمليات التي تستهدف الخطوط والمنشآت وأنابيب النفط في مأرب الشمالية الى القبيلة والنافذين فيها.
ورغم ان هذا الذي يحدث هنا وهناك هو إرهاب مروع إلا أن نوع المقاربة الرسمية والسياسية في المركز الصنعاني يختلف ويتغافل عن واقع أن الأضرار الكارثية الناجمة عن نسف منشآت الكهرباء تزيد بأضعاف مضاعفة عن تلك الأضرار المترتبة عن عمليات “القاعدة” في المحافظات الجنوبية، ولا مجال للمقارنة بين العقاب الجماعي الناجم عن قطع التيار الكهربائي عن معظم المحافظات وعن تفجير أنبوب النفط الذي كبّد الحكومة ما يزيد عن مليار دولار في عام 2012م –بحسب تقارير حكومية.
صحيح أن مَعقد الرهان كان ولا يزال على الحوار ومخرجاته ولكن المناخات المسمومة التي تعيشها البلاد تستحضر أجواء الكآبة والغموض والغدر والخيانة التي ترتد بالأذهان إلى حقبة الاغتيالات التي سبقت حرب صيف 1994م، وتحفز على التذكر والتفكير بذلك (الديناصور الملون) وبالأحرى القبيلة بما هي اللاعب الرئيسي بالسلطة والنفوذ أو اللاعب الأخطر على تناقضات الداخل وتباينات دول الإقليم.
في الأثناء وبالأحرى قبل أن يضع الحوار أوزاره، تنعقد مؤتمرات القبائل و(علماء اليمن) وتتفشى الفتاوى التكفيرية والسياسات الخاطئة والأساليب التحريضية وتستثار وتحشد الغرائز وتستعر خطابات التهويل والتخوين ورفض الحوار، وتخرج كافة القوى التي ليست لها مصلحة في استخلاص عقد جديد للتعايش بين اليمنيين والتعبير عن مصالحهم وتطلعاتهم مطلة برأسها لتدفع إلى جر اليمن نحو حرب جديدة، حرب الجميع على الجميع-حسب هوبز.
المؤكد أن المليارات تفعل فعلها وكذلك رواسب التاريخ والماضي الذي لا يمضي.
تلك هي محصلة أولية وبسيطة لمآلات التفكير القاصر لدى السلطة التي طالما فكرت باليمنيين كمناطق، جماعات، وتأففت ورفضت التخاطب مع الفاعلين السياسيين والمثقفين واعتمدت على المشائخ والأعيان كوسائط ومرتكزات بتجريف متعمد وممنهج للسياسة وتكريس لليمن، كأرض خراب، والبقاء على رأس نظام يقوم على إنكار وجود اليمنيين كمواطنين، والاحتماء وراء يافطة “الوحدة الوطنية” التي لم تكن تعني سوى غياب السياسة لحساب سيادة الولاء للنظام المجتمعي وراء أجهزة أمنية تصدعت وتفككت مع هبة أول ريح في مطلع 2011م.
صحيح أن الحوار هو مَعقد الأمل والرهان، ولكن القول بأن فصلا أكثر شؤما وسوادا على وشك البداية لا ينطلق من فراغ، فالكل طامح وطامع ومتطلع إلى توزيع أسلاب (الرجل المريض) ومفاعيل الانهيار والتدهور تسري في شتى المؤسسات والقطاعات، ولا تتخصب الأرض الخراب إلا للتطرف الناتج عن زواج الإسلام السياسي بالبنى القبلية.
….. يتبع