لماذا كل هذا الضجيج حول فوز المنتخب الوطني العراقي بكأس آسيا، و لم كل مظاهر الفرح هذه رغم حلقة الموت و المعاناة اليومية التي يبدو بأن لا نهاية لها؟
وصفها البعض بأنها فرحة وسط طوفان الأحزان لشعب يبحث عن أية بارقة تنتشله لبضع ساعات من دوامة الطحن اليومي، و قال آخرون بأنها إبرة مورفين للجسد العراقي المتعب، و قال غيرهم غير ذلك، و في كل ذلك شيء من الصحة و بعض الحقيقة. و لكن ما يكمن فعليا خلف هستيريا الفوز الجماعية هذه هو حالة من اللاوعي السياسي المتطور للشعب العراقي بكل مكوناته وهو الشعور بأن منتخب كرة القدم العراقي ربما كان المشروع الوطني الوحيد في عراق اليوم..
إنه الالتفاف اللاواعي حول المشروع الوطني العراقي بين أبناء الوطن الواحد و المصير الواحد الذي انفجر متدفقا لحظة إطلاق حكم المباراة النهائية لصافرة النهاية حيث خرجت الألوف تصرخ وترقص رغم علمها بأن الموت ربما ينتظرها في مفترقات الطرق وأركان المباني حيث يعشش مصاصو الدماء بانتظار المزيد من الدم العراقي الطاهر. رقصوا و فرحوا جميعا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ورفعوا العلم و كأن لسان حالهم يقول لحكامهم و للخارج معا إن من أنتصر هو العراق، والعراق وحده.
قليلون من العراقيين، شيبا وشبانا، رجالا ونساء،على مختلف مشاربهم، في جميع أنحاء العالم، من لم تغرورق أعينهم بالدموع في تلك اللحظات التاريخية التي حضر فيها الوطن الجميل بكل سطوته وجبروته الجميل. غاب الموت، وغابت الأحزان، غاب الانتقام وغاب الإرهاب الوسخ، غابت الطائفية المقيتة وغاب الاحتلال وغابت ذكريات القهر، وحضر العراق وحيدا شامخا كما يجب أن يكون. ولو تمّعن ساسة العراق في مظاهر الاحتفال في الداخل والخارج، وكيف خرج مؤيدو الوضع الحالي في العراق و معارضوه، وأتباع النظام السابق وأعداؤه ، بل والأغلبية الصامتة إلى حين في كتلة واحدة لا ترى إلا العراق و انتصار العراق، لاكتشفوا لأي منزلق يقودون هذا الشعب وهذا الوطن، و لاكتشفوا بشيعتهم وسنتهم بأن لا قيمة و لا وجود لهم إلا بعراقيتهم، كما هو حال كل الفذلكات السياسية التي ما زلنا نشهدها منذ أربعين عاما.
كانت الرياضة في بلداننا دوما امتدادا للسياسة بل وأداة دعائية وإعلامية للدول التي ترى الانتصار في مباراة نصرا سياسيا على النظام السياسي الذي يحكم الطرف الآخر. و لكن في حالة الفوز العراقي الأخير يبدو الأمر معكوسا حيث تبدو السياسة مطالبة وبشدة بأن تكون هي امتدادا للرياضة وليس العكس وقد رأينا على الشاشات وفي الصحف كيف يقارن العراقيون بين أداء الفريق الوطني وأداء فريق الحكومة أو فريق البرلمان.
أن معضلة حكام اليوم، كما كانت معضلة حكام الأمس، هي تلك الأيديولوجيات العرجاء التي تحاول إذابة الأوطان في ذواتها بدلا من إذابة تلك الأخيرة في الوطن. فالوطن و الشعب ورفاهيته لم تكن يوما أولويات لا سابقا ولا حاليا. فهنالك دوما شعارات وهمية نصبح عليها ونمسي. فيأتينا هذا بشعارات الأمة التي قتلت ملايين منا ، ويحلم ذاك بحكم الجبة و القفطان، ويبشر ثالث بالعودة الى عهد السلف قبل ألف و أربعمائة عام، ويصيح رابع بجمهورية البصرة أو مملكة الرمادي أو إمارة السماوة، ناهيك عن مشاريع الأميركان و الأيرانيين و السوريين والخليجيين و المريخيين وغيرهم وهكذا دواليك في مختبر التجارب هذا. و لا يفهم المراقب (الحسن النية) كيف يمكننا تطبيق فدرالية ناضجة و لم نمر أصلا بتجربة الإدارة اللامركزية السابقة لها، و لماذا يجب أن تكون الفدرالية طائفية وعرقية و ليست جغرافية، و لماذا يجب أن نطبق نظام المشاركة في الإنتاج وباستطاعتنا استخراج النفط بأنفسنا، ولماذا نعلن ميزانيات أسطورية ويعيش العراقيون بلا كهرباء وماء وخدمات وبمرتبات كوميدية، وغيرها الكثير من الأسئلة التي لا يريد أحد إجابتها..
تكمن معضلة العقل المؤدلج بأنه كالذبابة في قارورة زجاجية، حيث تعتقد الذبابة بأنها ترى العالم الرحب الواسع و لكنها ما أن تحاول الانطلاق إليه حتى تصطدم بجدران القارورة وتعود إلى نقطة البداية وتستمر في المحاولة حتى تسقط صريعة الصدمات المتلاحقة. والخروج من القارورة مستحيل ما لم تكتشف الذبابة بأن عليها لخروج من الفتحة الوحيدة في القارورة للانطلاق الى آفاق لا حدود لها من الحرية والإبداع، وهل بإمكانها أن تكتشف؟
لقد أوصل المنتخب العراقي لكرة القدم (وليس منتخب السنة أو الشيعة أو الكرد) إلى ساسة ما تبقى من العراق رسالة مفادها بأن هذا الوطن لن يحكمه علي خامنئي أو أسامة بن لادن أو عزة الدوري، وهي رسالة التقطها الشعب و لم تلقطها الحكومة أو البرلمان الذي “يتمتع بإجازته” في وقت يقتل فيه العراقيون يوميا، وبأن في العراقيين من الحب أكثر بكثير مما تتحمله عقولهم. وها هو يونس محمود صاحب هدف الفوز التاريخي يقول على الشاشات بكل عفوية بأنه مستعد لحمل الكأس إلى مدينة الثورة والأعظمية والموصل وكل أنحاء العراق، “وليقتلونني فداء للعراق”.. وهو يتحدث عن بلد أصبح يسألك عن انتمائك المذهبي قبل أن يلقي عليك تحية الصباح.
إذا قدّر الدهر لهذا الوطن بألا يتفتت إلى دكاكين طائفية، سيذكر التاريخ غير المكتوب بأن هنالك أحد عشر كوكبا رسموا اسمه بالزهور فوق النجوم، و إن رحل هذا الوطن عن الوجود كما يطمح البعض ، فسيروي التاريخ غير المكتوب أيضا بأن أحد عشر بطلا حاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولم يفلحوا، و لكن حسبهم إضاءة شمعة في الظلام.
ملحوظة: لا يفوتني هنا أن أشكر قوات الشرطة ومكافحة الشغب و الدرك و ما إلى ذلك في سوريا و الأردن الذين أشبعوا شبابنا المحتفل بالانتصار ضربا وإهانة وسحلوا الأعلام العراقية ومزقوها كما يفعلون بجوازات سفرنا.. شكرا لكم على مشاطرتنا الفرحة..
skhalis@yahoo.com
المشروع الوطني..لم يتسنى لي قراءة هذا النص الرائع الا اليوم وعسى ان احظى بنشر تعليقي هذا لان ما ذكره الكاتب لم يترك مجال للدموع الا ان تنجرف على خدي العراقي الجريح المتعب المكافح من اجل ان يصارع كالذبابة التي ذكرها -ورغم الاختلاف بكون ان الذبابه حشرة دون عقل مفكر بدرجة تفكير عقل الانسان – لكنها في كثير من الاحيان تصل الى هدفها(فتحة القارورة او الزجاجة)اسرع منه.اما الساسة الطائفيون لم يتعلموا من افراد هذا الشعب المحب للرياضة والفن والباحث عن كل ما يمكنه ان ينسهم بعض من معاناتهم التي اصبحت كالطوق المحكم على رقابهم,الم يلاحظوا ان هذا الشعب لم يعد يهتم… قراءة المزيد ..
مرحى بعودتك
واخيرا عاد الأستاذ سعد صلاح خالص للكتابة عن الشأن العراقي، وأرجو أن لا يتاخر ولا يتردد في كتابة المقالات كما عودنا سابقا ليتناول في كتاباته أي تحول أو تطور على الساحة السياسية او الاجتماعية وغيرها من الجوانب الهامة في حياة المواطن العراقي خاصة والعربي عامة. مهما تردت الأوضاع في وطننا الغالي فلن نفقد الأمل وهذا ما تعودناه وتعلمناه من الكاتب الكريم والذي أتمنى منه نشر مقالاته القادمة في هذه الموقع المستقل. لا مكان لليأس في هذه الحياة وعدا ذلك فالموت اجدى والعبرة دوما للقعلاء…