لا يخفى على باحثٍ بصيرٍ يحاول تكوين رؤية متكاملة عن حالة لبنان الراهنة، العقاب القاسي الذي يواجهه اللبنانيون كل يوم، والذي قد يكون من أولى عواقبه لا قدّر الله صوغ جيل جديد من المواطنين المذعورين والخائفين على مستقبلهم ومستقبل وطنهم، ذلك لأن المشهد اللبناني يحمل كثيراً من الأخطار التي تكاد أن تهدم ما كان بناه اللبنانيون بالوعد والأمل، في عملية قيام كيان لبناني مستقل، ووطن نهائي لجميع أبنائه.
إن غرابة المشهد اللبناني منذ سنة ونيف، وتصاعد وتيرة الاختلافات المتزامنة مع كثرة المبادرات التي أُطلقت والوساطات التي أُجريت بين مختلف الأطراف، يُظهر الأمور وكأنها عصية على الحل، وقد تعطلت المؤسسات الدستورية وأصيبت مواقع السلطة بالشلل ولم يعد لدى المختلفين من مرجعية للاحتكام إليها في حل الخلافات من دون إظهار للمطالب التي تشكل جوهر المشكلة الحقيقية.
في واقع الأمر إن المشاركة السياسية في أي مجتمع من المجتمعات هي نتاج نهائي لجملة من العوامل السياسية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، كل هذه العوامل، تتضافر لتحديد وجه المجتمع والنظام السياسي وآليات عمله وسبل انتظامه على أساس العمل الخلاّق. هذه المشاركة، أو وجه من وجوهها، كانت موجودة في التركيبة الحكومية اللبنانية قبل إقدام وزراء حركة «أمل» و «حزب الله» على الاستقالة، أي قبل أن يصبح عدم مشاركة كتلة الجنرال ميشال عون محطّ إشكال واستنكار شديدين من جانب المستقيلين أنفسهم.
في أية حال، إذا صحّ مطلب المشاركة في الحكم، فإن المشاركة من أي فريق لا تستوجب كل هذا الضجيج ولا تستحق كل هذه التوترات التي ومن دون أي شك تضع مصير البلاد على المحك.
إنّ المشاركة إذا كانت مشروعة من أجل التفعيل، فإنه لا يجوز أن تؤدي المطالبة بها إلى التعطيل لأن ذلك يتناقض مع الهدف المعلن منها، ولنا مثال على ذلك الأنظمة الديموقراطية المعتمدة في العالم حيث تكون المطالبة بالمشاركة مشروعة من خلال آليات قانونية ودستورية تتحقق من خلالها الأهداف، إن بإجراء تعديل وزاري أو حتى تغيير الحكومة القائمة.
وعليه، فإنه صار من الواضحات أن المعارضة في لبنان لا تريد اعتماد الآليات القانونية والدستورية في الوصول إلى مطالبها، بل تستبدل ذلك بالتمسك بإرادة التعطيل وممارسة قانون القوة كحقّ مشروع، عبر وجوب استقالة الحكومة لمجرد طلب المعارضة ذلك، ووجوب توقف المجلس النيابي عن الانعقاد لمجرد أن تطلب المعارضة تعطيله، وكذا القوانين والدستور والنظام العام!
هذه الذهنية، وهذا السائد من المنطق في آلية المشاركة، لا يمكن أن يؤديا إلى النتائج المطلوبة ولا إلى الأهداف المرجوة، لأن المشاركة في المؤسسة، أية مؤسسة، صغيرة كانت أم كبيرة، خاصة كانت أم عامة، لها ضوابط وأسس وقوانين تحكمها، فكيف بها إذا كانت هذه المؤسسة هي مؤسسة الحكم التي تدير شؤون البلاد والعباد؟!
إن المطالبة بالمشاركة مطالبة لا تجعل المشاركة حقاً لطالبها بمعزل عن الآليات القانونية والدستورية، كما أن المشاركة لا يمكن أن تكون عرضة للتخلي، أي أن المشارك لا يحق له التخلي عن مسؤولياته متى يشاء، إلا إذا أراد بعضهم أن تكون الطريقة المتبعة في الحكم والإدارة طريقة عشوائية لا تخضع لقوانين ثابتة وتتغير باختلاف الأهواء والمصالح، ولذلك، أرى أن شعار «حكومة الوحدة الوطنية» هو شعار ظاهره جميل ولكنه في الحقيقة يستبطنُ رفض الآليات المعتمدة في الأنظمة الديموقراطية التي تتشكل فيها الحكومات على أساس البرنامج الوطني.
هذا العرض الموجز الذي قدمناه، يُظهر أن جوهر المشكلة يكمن في عدم مراعاة تطبيق الدستور والقوانين التي تحدد آلية الوصول إلى السلطة وكيفية تبادلها في ظل غياب سلطة عسكرية وقضائية تُلزمُ المخالفين باعتماد الآليات المحددة، مما يفسح المجال أمام التفسيرات المتباينة والآراء المختلفة التي تصل إلى حد إدخال البلاد في الفراغ الذي وجدت الدساتير لسده ومنع حصوله.
إن اللبناني يتساءل بمرارة وأسف، لماذا تجرى انتخابات رئاسة الجمهورية في كل بلاد العالم في شكل طبيعي من دون هذا الجدل العقيم الذي يجرى في لبنان، فقد جرى انتخاب رئيس في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيران وسورية وغيرها من الدول، ولم تشعر شعوب هذه الدول بوجود اختلافات لا حلول لها في القوانين والدساتير التي اتفقوا على الرجوع إليها واحترام الأحكام الصادرة عنها، ولم يشعروا أيضاً بوجود تدخلات كتلك التي تحصل في لبنان، مع أن لبنان كان واحة الديموقراطية الفريدة والوحيدة في العالم العربي.
بات اللبناني يخشى على هذه الديموقراطية وعلى النظام البرلماني الحر وبالتالي على مصير الوطن والنظام، بسبب تلك الاختلافات التي لا مبرر لها سوى الغايات والارتباطات الخارجية، وليس لها علاقة بما يُسمى الإصلاحات الداخلية.
آن الأوان كي يعود الجميع إلى وقفة ضمير تمنعهم من التلاعب بالمصير لحسابات ضيقة وارتباطات خارجية يَحْرُمُ الوفاء بها لأنها خلاف مصالح الوطن العليا، والتي إذا ضُربت لم يبقَ الأشخاص ولا مصالحهم ولا حساباتهم، وعليه، فإن من الواجب العودة إلى الدستور لإنجاز الاستحقاق الرئاسي مع ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار أن جوهر الدستور يمنع من حصول الفراغ في مواقع المسؤولية وعندئذٍ يسقط الجدل حول النصاب لعقد جلسة الانتخاب.
وعلى هذا الأساس يكون لزاماً على النواب الذين انتخبهم الشعب أن يشاركوا في عملية الانتخاب، وبذلك هم يساهمون في تعزيز موقع الدولة والشعب اللبناني بين الأمم وصناعة تاريخ ومستقبل عظيم للبنان، لأن أعقد المهمات هي المقدرة على التمييز بين كتابة اليوميات على الأوراق وبين نقش التاريخ، الأولى تصبح أوراقاً للرمي، أما الأخرى فتكون صفحات اعتزاز وفخر، وأوراق الحساب أمام الله والوطن والضمير.
(الحياة)