الروائي الرائع أمين معلوف، الذي تعقبتُ مملكته الروائية الشاسعة واحدة تلو الأخرى، ووجدتُ فيها آمالاً كبيرة، وأحلاماً عديدة، تشكل تطلعاً مشروعاً لإنسان هذا اليوم، الذي تحيق به أخطار التمزق، وأهوال الضياع ومهاوي الهلاك..
في رواياته العديدة كان معلوف متورطاً بالعشق الإنساني الحالم، ومتوجساً بالترحال الدائم في مسارب التاريخ، ومسكوناً بروح المغامرات والنزوح المتواصل نحو آفاقٍ تتمدد في عمق الوجدان الإنساني، ولم يتوقف حلمه أبداً عند محطة ما، ولم يتركه خلفه، بل ظلّ متشبثاً به في كل أسفاره الروائية، من “سمرقند” إلى “ليون الأفريقي” إلى “صخرة طانيوس” إلى رحلة “بالداسار” وإلى كتابه “الهويات القاتلة”، وإلى روايته الأخيرة “البدايات”، وكانت في كل تلك الأعمال شخصياته المتعددة تستنطق معالم الأفكار، وتستشف آمال المستقبل، وتغوص في تساؤلات الهوية والأوطان والجذور، ولم يكن همّ معلوف ينحصر في استحضار التاريخ من خلال رواياته، بل كان عاشقاً أبدياً لاستنطاق قسوة الأسئلة الراهنة من خلال استحضاره مسارات التاريخ. فكان يقف على الحاضر الزاخر بالصراعات والآفات المستعصية بالبحث عن نقاط الضوء في دروب التاريخ، وكان يجوسُ مساحاتٍ رحبة يستحضر من خلالها اجاباتٍ لواقع اليوم الذي تمزقه أسئلة حائرة في أكثر من جانب..
وكانت نقطة الضوء الفسيحة في معظم رواياته تنطلق من إيمانه العميق بضرورة الحوار بدل الصراع. فكان يُثبت للتاريخ وللحاضر، أن العالم كان يتواصل دائماً عبر الحوار، وإن الصراعات القاتلة خروجٌ عن منطق التاريخ الإنساني..
وفي الوقت الذي ينطلق البعض خلف تثبيت قاعدة الصراعات من خلال صراع الحضارات، كان معلوف يسعى حثيثاً لتثبيت قاعدة الحوار وضرورة التواصل الإنساني، وضرورة قراءة التاريخ وفق آلياته المرحلية وظروفه الزمانية والمكانية. لذلك جاءت واحدة من أنبل أحلامه الإنسانية وتجسدت في رواياته العديدة، وهي السعي الدائم للبحث عن المشترك الإنساني والحضاري والثقافي لمواجهة شرور الكراهية، وظواهر الصراعات الدينية والعرقية ومسلكيات العنف واختناقات الهويات القاتلة. فمن أجل ذلك الحلم النبيل بقيَ معلوف يقاتل ويكتب ويتحدث ويستحضر التاريخ، ولم يزل هكذا على رغم كل العتمة التي تحيط بحلمه..
لا أدري، ولكن أن تحمل في داخلك حلماً إنسانياً نبيلاً ونقياً، وتعمل على الوصول إليه، وتحقيقه بكل ما تستطيع. ولكن في لحظةٍ ما من انهيار كل شيء حولك، يتبعثر هذا الحلم ويتبدد، فمن الطبيعي أن تجد نفسكَ إذ ذاك محبطاً ومتوجعاً ويائساً تلفكَ عتمة قاتمة..
قد يكون هذا بالضبط ما حدث مع الروائي الجميل (أمين معلوف)، وحدثَ أيضاً مع غيره ممن يحملون في نبضهم دفقات من الحلم الإنساني النبيل، ولكنهم اكتشفوا بعد يأسٍ وحيرة وخيبة أمل، أن حلمهم الجميل قد تعرض للتشويه والتقويض والاجهاض..
الأستاذ معلوف كان يعبّر عن خيبة أمله بوضوح مما يجري حالياً، حينما أخذ يتحدث عن ذلك بمرارة في إحدى مقابلاته الإعلامية، حيث رأى أن مستقبل الإنسانية أصبح قاتماً، بسبب العنف الذي أخذ يتصاعد ويجتاح عالمنا، ويرى أن واقعنا ينحدر إلى هاوية الأزمات بسبب فشله في تبني الحكمة عندما يقول:
(إن العالم يسير بعكس أحلامي، فعندما انهار جدار برلين، كان ثمة أمل بأن يسير العالم نحو مد للديمقراطية والحرية وحل للأزمات الدولية والإقليمية بشكل منصف وعادل، وأن نتجه نحو مرحلة من الحكمة، لكن ما حصل كان مختلفاً تماماً. العالم سار نحو المزيد من الصراعات والمزيد من الحقد والعنف، والمستقبل ليس مشرقاً كما تمنيت أن يكون).
وكان لا بد لمعلوف أن يتطرق في حديثه ذاك، إلى منطقتنا العربية تحديداً، والتي يجدها اليوم لا تقوى على النهوض بحلمه، وكيف أنها تتراجع إلى الوراء حضارياً، مستحضراً بشفافية أعماق روايته (بدايات) من خلال الأسئلة التي كان يطرحها جده بطرس في تلك الرواية، وأن المنطقة لم تستطع أن تتغير منذ أكثر من قرن متحدثاً:
(نظرة بطرس إلى المشرق تتضمن تطلعات وخيبات أمل، هذه التطلعات والحسرات واجهتها أنا بعد مئة عام، ومازلت أواجهها. كان بطرس يطمح لمجتمعات تتعايش، يتمتع فيها المواطن بكامل حقوقه كمواطن، أياً كان انتمائه الديني أو اعتقاده، انتقادات بطرس للأوضاع السائدة في تلك الفترة لا تختلف كثيراً عن انتقاداتنا اليوم)..
ويبدو واضحاً من حديث معلوف هذا، أن منطقتنا التي لم تستطع أن تتعايش وفق مباديء المواطنة الحقة، والمساواة، لتتجاوز تبعاً لذلك شرور التعصب الأعمى للانتماءات الدينية والاعتقادات الأيديولوجية، وبقيت كما هي عليه الآن لم تتغير منذ مئة عام..
ويتابع معلوف حديثه بنبرة أقرب ما تكون إلى حافة اليأس قائلاً:
(بكل أسف منطقتنا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي شهدت هكذا تراجع خلال القرن الماضي. مجرد أن نقرأ في دفاتر إنسان عاش قبل مئة عام ـ في إشارة إلى جده بطرس ـ أشياء يمكن أن نقولها اليوم هو أمر مؤسف. فلو أن إنساناً في الصين، مثلاً كتب في العام 1904 ما كتبه بطرس عن المشرق، وقرأناه اليوم لن نشعر بأن ثمة تقهقراً بهذا الشكل، بالعكس فالصين حققت قفزات نوعية منذ ذلك الحين، منطقتنا هي الوحيدة في العالم التي نشعر فيها بالضياع والتقهقر)..
ربما علينا أن نتساءل مع معلوف بحرقة، كيف استطاعت الصين مثلاً وخلال مئة عام أن تحقق قفزات هائلة نحو الايمان بالتعددية الفكرية والسياسية والدينية، وتنطلق بكل ثقة نحو فسحة القيم الإنسانية والليبرالية، بينما منطقتنا لم تزل قابعة في المقاعد الخلفية للتاريخ وربما خارج سياق التاريخ أيضاً..!!
ويتساءل معلوف بحيرة، لماذا يصر البعض إلى الآن وخاصة بعد أحداث سبتمبر أن يستحضر مصطلح الحروب الصليبية ويستخدمه وفق أجندة دينية أصولية معينة، ووفق معان أخرى بعيدة عن أحداثها التي حدثت قبل قرون، حيث يقول:
(الحروب الصليبية هي أحداث تاريخية يجب وضعها في إطارها التاريخي، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من دون تأويلها أو محاولة إسقاطها على ما يحدث اليوم)..
ورغم كل تلك المرارة التي تفيض من حديثه، إلا أنه لا يتوقف أبداً عن الدعوة للتسامح ونبذ العنف، ويرفض أن يذعن لنظرية صراع الحضارات، ولكنه في الوقت نفسه يقول متألماً:
(يجب أن نكون متواضعين في أحلامنا، إذ تصطدم الأشياء التي نتمناها بأحداث تاريخية لا نستطيع تغييرها، أو التأثير بمجراها)..!!
ولا يعني حديثه ذلك، أنه استسلم للاحباطات واكراهات التشاؤم، بل لم يزل محتفظاً بتوهجات حلمه الذي يرى أنه علينا أن لا نتوقف عن المضي فيه إلى آخر لحظة في حياتنا، حيث يقول:
(أحاول أن أحافظ على أمنياتي وآمالي، بأن نعيش في عالم يسوده التعايش السليم، ولا أغير قناعاتي)..
ويريد معلوف أن يخبرنا عن حقيقة ما زال يؤمن بها، وهي أن هناك، في نهاية النفق المظلم دائماً ثمة بصيص نور، قد يتفجر لنا في الظلمة بالأمل، ويجب أن نعتقد به وإن كان غير موجود، إذ يقول:
(في إحدى رواياتي كتبت على لسان أحد الشخصيات بأن الإنسان يجب أن يعتبر أنه ثمة بصيص نور في آخر النفق قد يراه يوماً، حتى لو كان هذا البصيص غير موجود يجب أن نعتقد بأنه موجود، أنا اليوم أعيش في هذا الجو، انتظر رؤية بصيص الأمل)..
tloo1@hotmail.com
كاتب كويتي