لا خلاف على أن النقد يختلف عن الشتم، فتلك مسألة محسومة.
ما نعتقد بأنه غير محسوم، ويجب حسمه، هو حدود المنطقة التي يقع فيها النقد، أو بعبارة أخرى المسافة التي تفصل بين ما يسمى مجازا بمنطقة “النقد المؤدب” – وهو مصطلح متداول في الوسط العربي والإسلامي – وبين منطقة الشتم، وما تحتوي عليه تلك المنطقة من مساحة واسعة جدا ومن وسائل نقد حديثة ومن أشخاص متعددين ومتباينين لابد أن يوجّه النقد إليهم.
لقد تم الخلط بين النقد والشتم في موارد عديدة، اعتمدت في معظمها على الشخص الذي يتم نقده، ما حوّل النقد إلى شتم من دون أي سند أو دليل، فأضحى الشخص هو المعيار في التعريف وفي الإساءة والمساس، وغدت الشتيمة حاضرة بقوة اعتمادا على مقام الإنسان لا على نوع النقد.
لقد لعبت العولمة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، دورا رئيسيا في إزالة الحدود الاجتماعية والقانونية المتعلقة بمسألة النقد، فأصبحت الحواجز منتفية والثقافات متقاربة والانتقادات متشابهة إلى حد كبير، وبات النقد غير خاضع لحدود جغرافية، وكأنّ الناقد في بلده وفي خارجها واحد، حتى غدت العقوبة القانونية المتشددة ضد من ينتقد هي مجرد تحصيل حاصل. فالعقوبة لعبت دور الوسيلة المحفزة لممارسة المزيد من هذا السلوك عن طريق تنويع فنون النقد، فأصبحت هناك حاجة لإعادة النظر في الثقافة الداعية إلى معاقبة الناقد، والعمل على استبدالها بثقافة الحوار، للوقوف على أسباب النقد، أو الشتم، ومعالجة المسألة بصورة علمية، بدلا من الاعتماد على المعالجات العقابية المغلظة التي تجاوزها الزمن.
إن نقد الشخصيات في المجتمعات العربية والمسلمة، سواء شخصيات حالية أو تاريخية، يجب ألاّ يتحول إلى نوع من أنواع المساس بالذات، ولا يجوز اعتباره نوعا من السلوك الاجتماعي غير الطبيعي، خاصة في ظل هيمنة قيم كونية على الثقافة العالمية الراهنة ساهمت في جعل النقد جزءا لا يتجزأ منها. لكن الممارسات والسلوكيات في المجتمعات العربية والمسلمة – لا فقط ممارسات الحكام والأنظمة – رسمت صورة سلبية بشأن علاقة العرب والمسلمين بتلك الثقافة، فصوّرتهم وكأنهم يعيشون خارج إطارها وبعيدون عن الانتماء إلى قيمها، وأنه من الضرورة بمكان إذا ما أرادوا أن يكونوا جزءا منها أنْ يخطوا خطوة الانتماء إليها، لكي يستطيعوا استيعاب تلك الحالة الثقافية ويعوا ضرورتها في الحياة، وأنهم من دونها سيستمرون في العيش بصورة ماضوية عفا عليها الزمن.
فالنقد الواضح والصريح، والمفترض أن يهيمن على ثقافة جميع البشر، بمختلف أفكارهم وتصوراتهم ورؤاهم، ضرورة ثقافية شرطية للحداثة، ولا يمكن للمفاهيم الحديثة أن تنأى بنفسها عنه، وعلى رأسها مفهوم الديموقراطية. فدون النقد لا معنى للحياة الديموقراطية، بل لا معنى للحياة الحديثة.
ويجب الإشارة هنا إلى ضرورة أن يتشكّل النقد في إطار حالة ثقافية واجتماعية جديدة، لكي يتبدّل إلى واقع يُشترط وجوده في المجتمع. والشعوب العربية والمسلمة ما زالت تفتقد تلك الحالة، الحداثية، فأصبحت تفتقد أحد شروط العيش الحديث. فقانون المساس بالذات (أو رفض النقد) لم يُفرض على الشعوب استنادا إلى لعبة السياسة وانطلاقا من فنون التحكم بمقدراتها ودرءا لاعتراضاتها، بل فُرض عليها بصورة ثقافية تاريخية، فقبلته الشعوب طواعية، بسبب أنها لا تزال متعلقة بثقافتها القديمة، ما جعل أمر تغيير القانون ليس شرطا بالنسبة إليها للعيش في العالم الحديث، بل هي رأت بأنه قانون متوافق مع طبيعتها الثقافية والاجتماعية، غير الحديثة، وهذا ما جعلها تعيش حالة من التناقض في التوفيق بين المفاهيم الحديثة وبين العيش بصورة حديثة.
ولإحداث تغيير في القانون، يجب الإشارة إلى العوامل التي تساهم في التأثير على الحالة الثقافية الاجتماعية القديمة. يأتي على رأس تلك العوامل: التربية، والتعليم. فلا تزال البيوت عندنا مرتبطة بسلوكيات ثقافية قديمة تمنع ممارسة أي نقد في ثنايا علاقاتها، خاصة بين الصغير والكبير، وبين الذكر والأنثى. وأضحت المناهج الدراسية التعليمية تفتقد للنهج الناقد في وسائلها وفي موادها العلمية. بل بعض المناهج تشدد على الطاعة كحاجة دينية أساسية، وترفض النقد وتصوّره وكأنه انقلاب ضد بعض الثوابت الاجتماعية والدينية. كما نجد أن العلاقة بين الطالب/ة والمدرس/ة لا تساهم في بناء الروح الثقافية الناقدة. وفي مواجهة ذلك، لابد للتربية والتعليم أن يساهما في خلق حالة ثقافية جديدة في المجتمع من لتؤثر إيجابا في أي خطوة مجتمعية وتشريعية تهدف لتغيير القوانين المعرقلة للنقد.
وفي ظل الإشارة إلى الديمقراطية والنقد، والحالة الثقافية اللازمة لتأسيس علاقة واقعية بينهما، يبرز تساؤل هام هنا: كيف يمكن التوفيق بين حرية التعبير وبين المساس بالذات؟
لا يمكن الوصول إلى إجابة إيجابية على هذا التساؤل متوافقة مع ثقافة وظروف الحياة في العصر الحديث. لذا يجب الإقرار بأن حرية التعبير لا تستطيع أن تصبح واقعا في الحياة في ظل وجود قانون المساس بالذات أو في ظل حالة ثقافية اجتماعية ترفض النقد. كما لا يمكن التوفيق بين حرية التعبير وبين المساس بالذات فيما الثاني قادر على منع الحرية من خوض نشاطها الناقد. والنقاش هنا لا يبدو حول نوع النقد، ما تتبدل الحالة من حالة نقاش إلى حالة منع قاطع وصارم لأي نقد. فلا يمكن للثقافة الحديثة أن تقبل وجود هذا النوع من القطع والصرامة تجاه حرية التعبير، بل هي تسير نحو رفع العراقيل من أمامها لجعلها مطلقة تماما.
إن قانون المساس، أو القطع بمنع النقد، لا يمكن أن يلتقي مع بشرية الإنسان. فلا يوجد بين البشر من هو مزكّى وفوق أن يخطئ، ما يجعل النقد ضرورة تتوافق مع الطبيعة الإنسانية. أما مسألة النقد “غير المؤدب”، فأينما جاءت، وتجاه أي شخص، فلا يمكن أن تعتبر مساسا مطلقا، لأن قضية الأدب هي مسألة نسبية في الزمان والمكان..
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com