نحو دمشق “نظيفة” ؟ بالتأكيد.
“دمشق، ليست صورة منقولة عن الجنة. إنها الجنة. وليست نسخة ثانية للقصيدة. إنها القصيدة.”نزار
ومن عاش دمشق يحسن نظم الشعر فيها والبكاء عليها، والبحث عبثا عن تلك المدينة في بقاياها هنا وهناك. ومن لم يعشها، يصنعها في خياله مرات ومرات، مستعينا بقصص الجدات والأمهات. بغزل شاعر أو قصة راوي أوكتاب تاريخ. ناظرا بحسد إلى ذاك الذي تسعفه ذاكرته الزمنية بصور حقيقية غير متخيلة. قد تكون الحقيقة أقل سحرا من الخيال، لكنها أكثر حميمية ودفئا بما لا يقاس.
المعضلة فيمن يأتي لاحقا. ويتعين عليه بناء دمشق على مخيلة من تخيلوها قبله. ترى ماذا سيكون شكلها آنذاك؟.
***
“لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرش الياسمين على أصابعي”. نزار
أتدركون ما أقصد؟ لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرش الغبار على أصابعي. يكسوني التعب الذي يلبس المدينة. ويستغرق كلماتي القلق المرتدي وجوه أهلها. تميل السطور سأما، وتتراكب الصور بغرائبية.
يتجاوز الأمر ثقل الهواء المشبع بالدخان ورماد ماض أُحرق. يتجاوز عبثية كل ما في المدينة من بناء قبيح وفوضى في المشهد وانعدام في الملامح. مدينتي لا ملامح لها من وراء أقنعة كثيفة.
مدينتي غريبة وهو ذنٌب جدتي وذاكرتها اللعينة. ما كان لهم أن يرسموا مدينة من ضوء لأجيال قد لا تعرف إلا العتمة.
***
” مركز التراث العالمي هدد برفع اسم دمشق نهائياً عن لائحة التراث العالمي الانساني إذا ما استمر هدم الأحياء القديمة فيها حيث كانت جرافات محافظة دمشق دمرت بيوت السوق العتيق ومحاله وأكدت مصادر غربية أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الاونيسكو ومركز التراث العالمي هددا برفع اسم دمشق نهائيا عن لائحة التراث العالمي إذا ما تواصل التعامل مع الآثار بهذه الطريقة”.
ما همَ دمشق إن بقيت على اللائحة إياها أو غادرتها. لقد فقدت اهتمامها باللوائح والمراكز منذ زمن. منذ أن قدموا إليها هدية الميلاد الجديد. البلدوزر لم يقتلع فقط أحياء قديمة ذات قيمة أثرية. قبل ذلك بكثير، امتص دماء المدينة ” بردى يتذكر”، هدم القديم الجميل وبنا القديم الأقبح. جرَف ملامحها وغير حدودها وانتزع هويتها. ومازال الأمر ملتبسا لديها، أنا كنت مدينة، أصبحت قرية، كنت قرية صغيرة، أصبحت قرية كبيرة؟ مشاكل في الذاكرة هي إذا.
***
“لكن مديرية الآثار والمتاحف نفت الخبر جملة وتفصيلا، معتبرة أن ” ما تم هدمه هو السوق العتيق وميتم سيد قريش وهما لا يحملان أية سمة أثرية أو جمالية أو فنية وقد تم إقرار الهدم من قبل المجلس الأعلى للآثار والمديرية العامة للآثار وشاركت في اتخاذ القرار لجان علمية وفنية وتم الإبقاء على حمام القرماني في المنطقة …” .
.تشكو المدينة من أنهم لا يحسنون النظر في عينيها ولا يطيقونه. وأنهم بعد أن غرَبوها، بدؤوا بالشكوى من برد لا يرحم. تشير المدينة إلى وجع ..هناك في القلب..ربما تكون ذبحة تاريخية. تبدو مدهوشة للأصابع التي تعمل عابثة في قلبها. في جزئها القديم المهمل. تتمنى لو أنه يهمل أكثر! .
***
أما ابتسام مغربي، الصحافية في جريدة «البعث» والمتخصصة بالآثار الإسلامية ،قالت: “إن هناك إهمالاً متعمداً للمناطق الأثرية سعياً لتداعيها بما يؤمن لاحقا المبرر لإزالتها وإقامة منشآت حديثة مكانها تدر ملايين الدولارات”.وقالت إن “السوق العتيق يخضع اليوم لمضاربات التجار تحت شعار تنظيم وتطوير وتنظيف المدينة بينما هو في الحقيقة مصالح شخصية لمستثمرين ومتعهدين بالتواطؤ مع متنفذين سابقين خصوصا وأن السوق يقع وسط العاصمة في منطقة تجارية مرتفعة السعر”.
المدينة في المزاد العلني، العين لها سعرها، والجفن له سعره، الكبد أغلى قليلا، والروح ليست للبيع، فقد تعرضت للاستملاك.
والمدينة أصبحت أقذر من أن تحتمل، وبحاجة إلى تنظيف. تعمها الفوضى وبحاجة إلى تنظيم. والعملية يجب أن تبدأ من الجذور. لا أهمية لغسل طريق أو رفع مكب قمامة عن زوايا الطرقات. ولا لغرس شجرة في الجلد القاحل. العملية تحتاج إلى تعقيم المدينة برأس المال الاحتكاري. فتنبت شجرة دولار مكان شجيرة ياسمين. الشجرة ليست ملكا للمدينة. المدينة ملك للشجرة.
***
“وقالت الكاتبة ناديا خوست والعضوة في جمعية أصدقاء دمشق: إن “مخطط المهندس المعماري الفرنسي إيكوشار في العام 1968 والذي تتم بموجبه هذه الأعمال بات خارج الزمن وأثبت عدم صلاحيته». وأشارت إلى أن «مهندسين فرنسيين حاليا قاموا بدراسات رفضوا خلالها هذا المخطط». وقالت مهنا إن هناك دعوة من قبل مهندسين وصحافيين ومحبين لدمشق لتشكيل فريق عمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من دمشق”.
وليس للمدينة مع السيد إيكوشار أي سوء فهم. وإن كانت لا تشعر نحوه بالضغينة فهي لا تشعر تجاه زملائه الطيبين بالامتنان. لأن دمشق لم تنتظر من الغرباء أن يفهموها أكثر من الأبناء. لم تنتظر من الغرباء أن يربتوا على وجعها، طالما أن الأبناء هم من أوجعوها.
والمدينة، نكست نظرها بابتسامة موناليزية، لاقتراح تشكيل فريق إنقاذها. من ينقذ من تقول المدينة.
نحو دمشق نظيفة؟ بالتأكيد. من كل زوادة نزار قباني الدمشقية : المشمش والرمان والتوت والسفرجل والياسمين والقطط الشامية والحمام والغوطة وبردى والذكرى والدفء والحميمية والألفة والتاريخ والملامح.
لا تستغرب المدينة حالها. هي لا تتوقع أن تكون أكثر حياة أو أقل موتا منا. أوليست المدينة نحن؟ . تقول المدينة، أعود ربما وقت تعودون. لكن بأي شكل لا أعرف. لا أعرف إن كان سيبقى مني ما يستحق العودة.
هي لم تسمع على الأرجح نزار يقول بعنصرية عاشق: كتب الله أن تكوني دمشقا، بك يبدأ وينتهي التكوين”.
razanw77@gmail.com
* دمشق