قبل مائة وثمانية وعشرين عاما بالتمام والكمال، انتقد رينان في محاضرة، في السوربون، علاقة عالم الإسلام والمسلمين بالعلم والتفكير المستقل، فرد عليه جمال الدين الأفغاني في اليوم التالي محاولا توضيح نقاط الخلاف والاتفاق في هذا الموضوع.
ومن حسن الحظ، طبعا، أن تلك المناظرة وقعت في العام 1883، فلو وقعت في العام 2011، مثلا، لخرجت مظاهرات في وزيرستان، ودمشق، ورفح، وبغداد، وطهران، وبيروت، والقاهرة، وطرابلس (طبعاً) للتنديد بالحملة الصليبية على الإسلام والمسلمين.
ولن يكون من الصعب أن نتصوّر إطارات تُحرق، ودماء تُراق. كما لن يكون من الصعب أن يتحوّل كلام السيد رينان إلى موضوع رئيس في قناة الجزيرة، التي ستتحفنا بما لا يحصى من الأخبار العاجلة، واللقاءات مع “مفكرين” تطوعوا للرد على الحملة الجديدة، وبين هذه وتلك تضخ تقارير إخبارية مصوّرة، ومظاهرات، وجماهير غاضبة، ودعوات للثأر، وربما عمليات انتقامية يذهب فيها “كفّار” ساقهم الحظ العاثر إلى هذا المكان الملتهب أو ذاك.
ألم تحدث أشياء كهذه على مدار العقود الثلاثة الماضية في العالم العربي وخارجه؟ بدأ الأمر مع سلمان رشدي، وفتوى الخميني، ثم كرّت السبحة.
ولكن ما مناسبة هذا الكلام؟
مناسبة هذا الكلام هي التحوّلات الثورية التي تجتاح العالم العربي هذه الأيام، والثورة المضادة التي تحاول اعتراض طريقها، وتثبيت الأمر الواقع حماية لما تبقى من الأنظمة والجماعات والمصالح التي أصبحت عرضة للتهديد.
فلنتأمل أحداثاً وقعت على مدار الأسبوع الماضي، ولنحاول قراءة وتفسير ما تنطوي عليه من دلالات سياسية.
أولا، القذافي يسمي التدخل الدولي في ليبيا حربا صليبية، ويحذر من القاعدة، ولا يعترف بوجود مظاهرات في بلاده (هذا لم يبدأ في الأسبوع الماضي ولكنه يعتبر استمراراً لأسابيع مضت).
ثانيا، النظام السوري يحذّر من مؤامرة خارجية تستهدف النيل من صمود سوريا، باعتبارها قائدة لمعسكر المقاومة والممانعة، ويعترف على استحياء بوجود متظاهرين غُرر بهم، ويتهم جماعات أصولية، وإسرائيلية وغربية بالوقوف وراء المؤامرة.
ثالثا، أعمال “جماهير” غاضبة في مباراة لكرة القدم بين الزمالك وتونس في مصر، تنتهي بفوضى عارمة، واعتداء على اللاعبين الضيوف، في ما يشبه فضيحة بالمعنى الأخلاقي والسياسي والرياضي.
رابعا، في مزار الشريف الأفغانية يهاجم متظاهرون مكتبا للأمم المتحدة، فيقتلون عددا من موظفيه، ويقطع المتظاهرون رأس اثنين هناك، ردا على جريمة ارتكبها قس أميركي مجنون أحرق القرآن.
خامساً، حدود غزة مع إسرائيل تلتهب على الجانبين، تقصف إسرائيل بالطائرات، حماس تتوعد بالرد، وإسرائيل تفكر في عملية واسعة.
ولكن ما العلاقة بين هذه الأحداث، وما الذي جمع الشامي على المغربي، كما يقول المثل الشائع؟
وعلى سبيل الجواب فلنفكر بما يلي:
أولاً، كل هذه الأحداث وقعت على شاشة التلفزيون، أيضاً، وهي بهذا المعنى لم تعد أحداثاً محلية، فمروحة ما تخلقه من تداعيات تتجاوز موقعها الجغرافي.
ثانيا، المؤامرة هي الخيط الناظم لكل تلك الأحداث. مؤامرة القاعدة والغرب في ليبيا. ومؤامرة الأصولية وإسرائيل والغرب في سوريا. ومؤامرة الحزب الوطني على الثورة المصرية. ومؤامرة الغرب الكافر على الإسلام والمسلمين. وأخيرا، مؤامرة إسرائيل على حماس والفلسطينيين.
أزعم أن القائلين بالمؤامرة يشكلون جزءا من الثورة المضادة. هذا لا يعني أن للثورة المضادة قيادة أركان يجتمع فيها عباقرة لتنسيق الجهد، وتوزيع الأدوار، ولا يعني أن الأحداث المحلية تفتقر إلى سند في الواقع المحلي نفسه. كل ما في الأمر أن ثمة ما يشبه المناخ العام القادر على توليد ردود أفعال كهذه. وأن المناخ العام هذا يجمع الشامي على المغربي.
فما المقصود بالمناخ العام؟
المناخ العام هو مناخ السرديات الكبرى. لن نفهم هذا دون العودة إلى التحوّلات الثورية الجارية في العالم العربي. فهذه التحوّلات جرت وتجري في الواقع خارج نطاق السرديات الكبرى، أي خارج شعارات التحرير، والجهاد، والعزة القومية، والقدس والمقدسات، والكفار والمؤمنين.
التحوّلات الثورية جرت وتجري باسم شعارات من نوع: لا لحاكم يحكم مدى الحياة، لا لتوريث الحكم، لا لهيمنة الحزب الحاكم، لا لقانون الطوارئ، لا للفساد والتوزيع غير العادل للثروة، ولا لتكميم الأفواه. بمعنى آخر: التحوّلات الثورية ذات مضامين ديمقراطية في الجوهر.
السرديات الكبرى في العالم العربي لم تكن ذات مضامين ديمقراطية. نشأت باسمها أنظمة دكتاتورية تضحي بالحريات الفردية والعامة، وحقوق الإنسان، والمساواة والعدالة، مقابل أهداف أعظم. ومقابل تلك الأهداف حوّل القائلون بها، والقائمون عليها، والمستفيدون منها، الشعوب إلى قطعان، طالما أنهم يفكرون نيابة عنها.
وها قد وصلنا إلى النقطة الحاسمة: كل المؤامرات المذكورة آنفاً يفكر القائلون بها نيابة عن الشعب، ولا يهم ما إذا كانت صادقة، المهم أن من لا يصدقها يصبح خارجاً على الشرعية المستمدة من سرديات كبرى أصبحت مهددة، (وبشكل أدق أصبح استغلالها لأغراض ذاتية مفضوحاً على نطاق واسع). وبالتالي يصبح تصنيفه في معسكر العدو، والمتخاذل، المتآمر، تحصيلا للحاصل.
في وقت ما، ولأسباب معقدة لا يتسع المجال للخوض فيها في هذا المقام، اختطف الانقلابيون القوميون المسألة الفلسطينية، فأصبحت عماداً لسرديات كبرى، نشأت باسمها أنظمة دكتاتورية مُفزعة. وفي وقت لاحق اختطف معارضوهم المتأسلمون الإسلام، لتصبح تأويلاتهم لما ينبغي وما لا ينبغي عماداً لسردية كبرى تبرر الطموح إلى السلطة والسلطان.
لا أعتقد أن التاريخ يتشكّل على النحو التالي: يجلس شخص ما ويقول لنفسه أنا قومي، أريد اختطاف القضية الفلسطينية لتصبح عماداً لشرعيتي. وبالقدر نفسه لا يجلس شخص ما ليقول لنفسه أنا إسلامي أريد اختطاف الإسلام ليصبح جزءا من شرعيتي.
ثمة تفاعلات، ومصالح، وطبقات، ومراحل، وتحوّلات، وخصوصيات تاريخية واجتماعية، وتجارب، تضفي في التحليل الأخير على اعتناق أنظمة الطغاة للقضية الفلسطينية شبهة الاختطاف. وهي نفسها التي تضفي على اعتناق الأصولية للقضية الفلسطينية شبهة الاختطاف.
وقد التحم الأمران في العقد الماضي على نحو مريع. اكتمل اختطاف فلسطين والإسلام من جانب الأصوليين، والمضاربين في سوق السياسة، والمغامرين، وأغنياء النفط. ولم يجد ما تبقى من الانقلابيين القوميين صعوبة في المزاوجة بين سردية كبرى متأسلمة جديدة، وسرديات قوموية عتيدة وعنيدة.
كان ذاك عقد الزرقاوي، وبن لادن، والانتحاريين، والتوريث والمورّثين، وحروب الطوائف والميليشيات، والجزيرة، وجورج بوش، وفقهاء الفضائيات، ورجال الأعمال، وناطحات السحاب في دبي، والمافيا السياسية والمالية، والفقر وامتهان الكرامة الإنسانية في كل مكان، مقابل الثراء الفاحش المبتذل والمريض في كل مكان أيضاً.
في ذلك العقد بلع العرب أكبر كذبة في تاريخهم الحديث، فأصبحت أفغانستان التي لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من هموم العالم العربي، على رأس الوجبة اليومية في التلفزيون، وأصبح إرهابيون ورجال قبائل أجلاف مجاهدين في سبيل الحرية، إذا غضبوا من أحد هناك، على العرب أن يغضبوا معهم هنا. وأصبح قتلة ومجرمون وطائفيون في العراق أبطالاً في مقاومة الاحتلال.
كانت تلك وسيلة ناجعة لتحويل الشعوب العربية، حتى في الحواضر، إلى قطعان، باسم سرديات كبرى اختلط فيها، وقد اكتسبت مهارات التأقلم، الشرق بالغرب، والكفاح الوطني بالجهاد المعولم، وغابت عنها قضايا المواطنة، والفرد، والمساواة، والدستور، وتداول السلطة. وقد كانت تلك خلطة مفيدة للحكّام ومعارضيهم على حد سواء.
بهذا المعنى ينـزل كلام العقيد عن “القاعدة” في سياقه الصحيح. ومن العبث، طبعا، أن نحاول تفنيد هذا الكلام، فهو لا يستحق الجهد. أما كلام النظام السوري عن المؤامرة فلا يستقيم إلا إذا كانت التحوّلات الجارية في العالم العربي أحداثاً فردية معزولة، وهي في الواقع ليست كذلك، فالعدوى تنتشر في ظل الشعار نفسه (الشعب يريد إسقاط النظام) بقطع النظر عن خصوصية هذا المجتمع أو ذاك.
لذا، كيف تتآمر الأصولية وإسرائيل والولايات المتحدة على سوريا لأنها ممانعة ومُقاومة، وتتآمر على نظام مبارك، الذي لم يكن ممانعاً ولا مُقاوماً، ولماذا تتآمر على النظام في تونس، واليمن أو البحرين؟ هل يُعقل أن يفعل المتآمرون الشيء ونقيضه في آن؟
وفي السياق نفسه نعود إلى مباراة الزمالك وتونس. إذا كان صحيحاً أن الحزب الوطني في مصر تآمر لتحريك “الجماهير”، فهذا يعيد التذكير بمباراة سبقت بين مصر والجزائر. في تلك الأثناء تصرّفت حكومة مبارك كما لو كانت في حالة حرب مع الجزائر. وفي حينها هاجت المشاعر، بمباركة رسمية طبعاً، وفاضت الصحف بالشتائم المتبادلة بين المصريين والجزائريين.
في الحالتين نعثر على مثل نادر لتحويل “الجماهير” إلى قطعان، خدمة لأهداف لا ناقة للناس فيها ولا جمل. والواقع أن هذا المثل مفيد، لأن الصراع الحقيقي، في العالم العربي هذه الأيام، يدور حول هذه “الجماهير” التي يمكن أن تصبح أداة في يد الثورة المضادة. فمن الحماقة التفكير في أن كافة الشرائح الاجتماعية حلّت عليها، فجأة، نعمة الديمقراطية والتنوير بعد عقود من العيش في ظل أنظمة دكتاتورية، وفي ظل ثقافة سائدة عمادها مُطلقات وسرديات كبرى.
الحالة نفسها تعود، ولكن بشكل أكثر دموية، في هجوم المتظاهرين الأفغان على موظفي الأمم المتحدة. السؤال البسيط هنا: من أعطى لهؤلاء الحق في قطع رؤوس البشر لمجرد أنهم من بلد آخر، شاءت الصدف أن تقع فيه حادثة تسئ إلى مشاعرهم الدينية؟ ومَنْ الذي “تسامح” مع مظاهرات خرجت في دمشق للتنديد بمواقف نُسبت إلى البابا قبل سنوات قليلة، لكنه يستكثر على السوريين، اليوم، التظاهر للمطالبة بإلغاء قانون الطوارئ، مثلا؟
أخيراً، نصل إلى “التسخين” على حدود غزة مع إسرائيل. تصوّروا عمليات القتل الإسرائيلية، ومشاهد الضحايا الفلسطينيين على شاشة التلفزيون، ومظاهرات عارمة وغاضبة تجوب الشوارع في عواصم عربية مختلفة بما فيها دمشق وطرابلس وصنعاء، للتنديد بالعدوان الجديد، والأخبار العاجلة، والمقابلات والتقارير المصوّرة. ستكون هذه هدية السماء للحكّام الباحثين عن مخرج من ورطة غير مسبوقة في تاريخهم الطويل. ففلسطين تصلح، أيضاً، طوقاً للنجاة من ورطة أنظمة مع شعب يريد إسقاط النظام، لكنه ينسى، بعدما غرر به أولاد الحرام المتآمرون، معركة المصير..!!
الكل يحاول كسب الوقت. والكل يبحث عن مخرج من الورطة. بقايا النظام في مصر، والجهاديات المعولمة، والدكتاتوريات المذعورة، والجالسون على آبار النفط في الخليج، ورجال الأعمال، والخائفون على مصالح ومنافع استقرت منذ عقود.
يُقاد المخطوفان فلسطين والإسلام، ومعهما “الجماهير” المنافحة عن هويتها الدينية وعزتها القومية، والغافلة عن قضية إسقاط النظام، يُقاد هؤلاء رهائن إلى خط الدفاع الأوّل عن الثورة المضادة. وفي عملية كهذه علينا البحث، دائما، عن أشياء تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها محكومة في العمق بمنطق واحد ومُوّحد. المنطق الذي جمع الشامي على المغربي، وذكّرنا بالأفغاني ورينان.
المخطوفان فلسطين والإسلام رهائن الثورة المضادة..!! مع تقبل جميع ما أورده الكاتب، إلا أنني أرى أنّ المخطوف و الخاطف الخفي و الحقيقي الذي لم يلحظه الكاتب نفسه هي؟………. السرديات الكبرى نفسها. هذه السرديات بقدر ما كانت مخطوفة كرهينةللحماية بها إستقواء لتعوبض ضعف عام ، بقدر ما تحولت إلى خاطف لخاطفيها عندما أدت وظيفتها. تحرير المخطوفين من خطف السرديات الكبرى لهم ، مسألة على عاتق المخطوفين أنفسهم. طريق التحرير هذا لا يكون بأستبدال سردية كبرى خارجية بسرديتك الكبرى التي أنت في الاصل مخطوف منها . لأنّ ” القانون “الاول الذي قامت عليه سرديتك سيتحرك فورا. وأسم هذا “القانون” :”حتى لا نلغي… قراءة المزيد ..