السؤال عن «المثقف العربي ودوره» يزداد إلحاحاً كلما تفرعت مسارات الثورات العربية وتعقّدت، وكلما فرغ المشهد الجديد من أصحاب أدوار ثقافية قديمة، قضت عليها الثورات. شريحة واسعة من «المثقفين» غير معنية بالسؤال. هي أوجدت هذا الدور، تعتبر نفسها، ويعتبرها محيطها، «الأنجح» من بين أقرانها، «الأكثر تاثيراً على المجتمع». انهم المثقفون التلفزيونيون، ذوي ألقاب، لا تجد بينها لقب «المثقف»، تتراوح بين «خبير في شؤون كذا…»، «محلل»، «كاتب في صحيفة…» ذائعة… ثم أعلاهم كعباً، «مفكر». جميعهم نجوم، «كبار»، «متوسطين»، «واعدين»… ولهم دور خطير، على ما يسرون لأنفسهم، وهو «تأثير» يتناسب مع عدد المرات التي يظهرون بها على الشاشة. لذلك فان سؤالهم عن «المثقف العربي ودوره» يأتي من باب رفع العتب، أو من باب إيجاد مادة… أو فكرة للمكْلمة التلفزيونية.
على الشاشة، لا يبدو «المثقف»، صاحب الرتبة أو اللقب هو قائد سفينة الحوار الذي تعذّب وحضر الى الاستوديو من أجله. المذيع هو الذي «ينفذ» الحوار بإرشادات من المخرج، العامل بدوره على تنفيذ «سياسة» مموِّل القناة. السلطة اليتيمة التي يتمتع بها المذيع مع «ضيفه»، سلطة تحديد السؤال، إستضافته، إعطائه الكلام، أو قطعه ببساطة بالعبارة الشهيرة «فلان الفلان، الخبير في الشؤون الاستراتيجية، شكرا جزيلا لك»… هذه السلطة تخرج الى الشاشة كأنها فعلية، كأنها حقيقية؛ بحيث لا تطرح قضية عميقة أو هامة إلا ويكون نقاشها قد بُتِر من أساسه، وبتفنن يُحسد عليه في إضاعة وقت ثمين بالإجابة على الأسئلة المكرّرة، السطحية، التافهة غالباً. قضايا خطيرة وأسئلة مائعة، بائتة، لا تتوسل ذكاء، لا من الضيف ولا المشاهد.
ما يخلق رغبة لدى المثقف الباحث عن تعزيز دوره، عبر التلفزيون، والى التحول نحو «الإعلام»، إلى تغيير وظيفته؛ من «مثقف»، الى «إعلامي» برتبة مثقف. «المثقف الاعلامي» شريحة اخرى أوجدت لنفسها «دور» الممعن بالتلفزيونية. المثقف الذي تحول الى «إعلامي» هو الأكثر شطارة، متفوق على غيره من أقرانه بنشر صورته. فيصل القاسم، المثقف الإعلامي، حفظت الناس وجهه وإسمه، فتأثرت به، أكثر مما حفظت أسماء مثقفين لامعين أفذاذ، شاركوا أحيانا في برنامجه. بل إن إسمه ووجهه يتفوقان على أعلى الألقاب الثقافية، ومنها لقب «المفكر». وهو قَلبَ المعادلة، صار يكتب في الصحافة القطرية مستمدا هيبته الفكرية من نجوميته التلفزيونية، فيما ضيفه يتقوَّم بما يكتبه في الصحافة أو يؤلفه من كتب أو يلخصه من تجربة سياسية. والاثنان لا يتساويان في الذيوع والشهرة والنجومية، ولكنهما يقتربان من التساوي في «انتاجهم» الثقافي أو الفكري؛ خصوصا عندما يتوق الثاني، أي الضيف، الى التماهي مع الاول، أي القاسم.
شريحة أخرى من المثقفين، هم «زعماء» في الثقافة. لا تعرف كيف أصبحوا زعماء، أو ربما تعرف كل حالة بحالتها، لكن الوقت لم يحن بعد للغوص في هذا «التفصيل»، فالأولويات في مكان آخر. المثقف «الزعيم« يعود الى السؤال مع اشتداد كل معركة، يفرز بين وظائف ثقافية، يراقب سلوك المثقفين، يلعن هذا وقليلا ما يحمد، وفي نهاية المطاف يعظك بالبديهيات، أي ان على المثقف العربي «أن يقوم بوظيفته النقدية». انها شريحة الزعماء المثقفين الواعظين. زعماء ايضا هم من تطبعوا على «الأهمية»، «مثقف مهم»، يأنفون السؤال، يخرجون الى الشاشة، يحبونها، لكن حظهم بالظهور أقل من حظوظ المثقف التلفزيوني الصرف. لذلك، يكتبون أكثر مما يتكلمون، أكثر مما يقرأون، يكتبون ليقولوا كم كان معهم حق في كذا أو كيت من الموضوعات، كم توقعوا، وحذّروا، وأصابوا… ولا من مجيب إلا بضعة انفار هم القاعدة الجماهيرية لهذه الزعامة الآفلة.
من سبق من مثقفين ليسوا حقيقة معنيين بالسؤال عن الدور، هم اوجدوه، هم أكثر من راضين عنه. انهم سعداء به. عندما تلتقي بواحد منهم في ندوة او لقاء عام، أكثر ما يلفتك فيه تلك النشوة البالغة، التي يعرفها كل مشهور، من انه قطف أخيراً ثمار شهرته، بأن العيون تحدق بوجهه، والآذان مصوبة على لسانه، بأنه التقى، أخيراً، شخصيا بجمهوره الذي شبّ على صورته التلفزيونية، أو هيبته «التاريخية»… وانت عندما لم يعد التلفزيون، ولا اللقاءات الجماهيرية محور سهراتك وأوقات فراغك، لا يسعك فهم هذه النشوة إلا كيميائياً…
«دور المثقف العربي»، وبصيغه المختلفة، بأية لهجة يطرح الآن؟ بأي نفس؟
يبطن هذا السؤال، ويحتضنه أحيانا، نوع من المرارة، نوع من الأسى، يفترض بأن «أيام زمان» كانت نعمة، والآن صارت نقمة، سبباً للحرمان من الدور. يطرح وكأن مطلبا يبطنه، حقا مهدورا يحلم باسترجاعه… مطلب ايجاد الدور، هذا، الذي تتآمر عليه السياسات والثقافة … الشكوى من انعدام الدور تضاهي، في هذه الحالة، الشكوى من حرمان ما. يزداد الشعور بالحرمان مع تغير الادوار وأصحابها، مع التغيرات الشديدة، المصيرية، عندما تشغر المراكز والهوامش. في السؤال-الشكوى عقلان: عقل من العهد القديم، كان فيه المثقف جذابا وحاضراً، هو عقل الحنين الى «ما كان»، الى ما كان عليه وهج الثقافة والكتابة والتأليف. عهد قديم يكاد يفصلنا عنه قرن من الزمن. العقل الثاني، «الجديد»، و لأنه لا يعيش في المريخ ، يبكي على فقدان الدور، وفي ظنه ان طرح السؤال سوف يعينه على بلوغ شيء منه. طبعا المستعجلون من الذين يرشحون انفسهم للأدوار سلكوا الطريق «الصح»، أصحاب الطبائع الحذقة، العارفة بمواطن التسويق، لاذوا فرارا نحو التلفزيون، كما سلف، بملكات غير ثقافية، ليقضوا بذلك ساعات في الاستوديو والكلام المتناسل، من غير زيادة معرفة أو تفكير او انتاج نوعي. وهؤلاء هم الضاربون الرئيسيون للثقافة والمثقفين.
ولكنهم جميعهم يغفلون ان المسرح الثقافي احتل خشبته التلفزيونية وغير التلفزيونية، من مساجد وحسينيات وإذاعات، مثقف آخر، جديد، يقوم بما كان يفترض بالمثقف القيام به عندما كان يتوق الى نوع الملتمس للجماهير: بالوظيفة «العضوية« («مثقف عضوي»)، التي تملي عليه التفاعل مع ما زرعه فكره منذ عقود من إسلامية سياسية، باتت هي وقود الثقافة الفعلي. الداعية، الشيخ، السيد، الامام، الامير، آية الله، مرجع التقليد، هم المثقفون الجدد العضويين الذين يلتحمون بالاهل والناس ويصيغون عقولهم بالعقيدة الدينية. فاذا قلنا بان الفعل الثقافي يقوم على المرجعية والمعرفة والتفكير والانتاج، فان اصحاب الدور الثقافي الأعظم هم الآن أصحاب المرجعية الدينية والمعرفة الدينية والتفكير والانتاج الدينيَين. وقد فرضوا لغتهم وموضوعاتهم وايماءاتهم على فئة من المثقفين الذين نعرف. ولذلك فهم لا يطرحون على أنفسهم سؤال الدور؛ ان دورهم جاهز وفائض، يعطيه لكل راغب بلعبه؛ حتى ولو كانت «مشيخته» أو «إمارته» لا تقوم على العلم الديني المتعارف عليه، حتى لو لم يتخرج من اي معهد ديني تقليدي. وقد يكون طغيان هذا المثقف الديني الجديد هو السبب الآخر، غير الواعي، الذي يجعل المثقف غير الديني مدفوعاً الى الإلحاح بالسؤال عن «دوره».
هذه المنافسة غير المتساوية بين المثقف الديني والمثقف الحداثي لا تقتصر على الشاشة والشهرة والتأثير على العقول والذهنيات، التي تعوضها، عندما تقصر، المساجد والحسينيات. انما تتجاوزها نحو الانتاج والحظوظ، وتتسرب الى صلب الانتاج الحداثي، بالرقابة والذيوع في آن.
والاثنان، الديني والحداثي، لهما مصادر معرفية مختلفة: الأول مصدره ديني، ينبذ المعرفة الحداثية، والثاني مصدره حداثي غربي، اعتاد على إهمال الثقافة الدينية. الدور الثقافي الذي له أدنى طعم، هو انكباب المثقف الحداثي على المعرفة الدينية. ليس تقرّبا من جهة دينية ما، او عضوية «غرامشية» مأسوف عليها، إنما تعويضاً عن نقص معرفي حاد في شؤون هذا الفرع من المعرفة الانسانية الشاملة. يوجد لدينا اختصاصيون بالتراث، جمعوا بين مجدي المعرفتين، الدينية الشرقية، والغربية الزمنية. لكن هؤلاء استثناء، حالات فردية. فالثقافة الدينية للمثقف الحداثي لا تتجاوز ما تعلمه في طفولته، اذا تعلم، أبقت على وعي ديني لا يتجاوز وعي الأطفال.
الديني، وعلاقته بالسياسة والثقافة والاجتماع، هو محور «المعارك» الفكرية القادمة؛ بل بدأت لتوها، هذه المعارك، بعد انتصار الثورات وحتى قبل الانتصار. وفيها كل مقومات الدور الحقيقي الذي يتوق اليه المثقفون. ينتظرهم دور الانكباب على المعرفة الدينية التي تنقصهم، وفي الآن عينه تعميق معرفتهم الغربية، الضئيلة أصلاً.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل