يتجاهلون مصير الإنسان ويضعونه في مرتبة متأخرة جدا من الأهمية، لأنهم يؤمنون بأن “قضايا الأمة” أهم من قضايا الفرد، وأنها هي الأساس الذي يجب الاهتمام به قبل أي شيء آخر. لذلك، يعتبرون مصير الإنسان الفرد وحقوقه ومصالحه بمثابة قضايا هامشية مقابل “قضايا الأمة”.
هذا النوع من الفكر ساهم في إنتاج أنظمة تتحكم فيها سلطات فردية. كما ساهم في إنتاج ما يسمى بـ”مثقفي الأدلجة”، المدافعين بشراسة عن نهج السلطة الفردية ومواقفها، كدعم القضية الفلسطينية ومعاداة دولة إسرائيل ونصرة حزب الله وحماس وحركة الجهاد الإسلامي، وتجاهل – وعن عمد ودون أي إحساس بتأنيب الضمير – سلوك الأنظمة تجاه معاناة الإنسان وقهره واتجاه استبداد الحاكم، أي أنهم افتدوا الفرد في مقابل “قضايا الأمة”.
فـ”مثقفو الأدلجة” يعتبرون القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني وغيرها من القضايا “المصيرية” العربية والإسلامية، أهم من حقوق وحريات ومصالح الفرد العربي والمسلم.
هم، على سبيل المثال، يحتجون، ولا يحتجون، على إبعاد السلطات الكويتية للمصريين المؤيدين لمحمد البرادعي، في انعكاس لموقف ضبابي غير واضح يصب في النهاية في خانة الدفاع عن “قضايا الأمة” الناتجة عن أيديولوجيتهم الدينية.
هم يحتجون، لأن السلطات الكويتية تعاملت مع التظاهرات السياسية “بازدواجية” حينما قبلت لمتظاهرين إيرانيين بالتجمع أمام السفارة الإيرانية العام الماضي احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية. وهم لا يحتجون، لأنهم يريدون لتلك التجمعات أن تستمر لكي يستمر دفاعهم عن “قضايا الأمة”، خاصة تجمعات الفلسطينيين واللبنانيين المتعلقة بالصراع مع إسرائيل.
ومن ثم تعكس تلك المواقف ازدواجية في المعايير الخاصة بالحريات بشكل عام وبحرية التجمعات بشكل خاص، ويتم من خلالها الإساءة إلى الدين أكثر من أي شيء آخر. بمعنى أن مواقفهم تلك تتجه إلى التركيز على الحريات متى ما تماشت مع قضاياهم وحققت مصالحهم، أي استخدام مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، الأمر الذي يجعل الدين أمام تساؤلات أخلاقية عدة.
إن المشكلات التي تهدد مصالح الفرد وتضيّق على حياته الشخصية اليومية وتمس حقوقه وإنسانيته يجب التضحية بها في نظر “مثقفي الأدلجة”، أي التضحية بها مقابل السكوت أمام فظائع الأنظمة مادامت تتبنى “قضايا الأمة” وتدافع عنها. وقد رأينا جميعا كيف كانت مواقف المناصرين للنظام الديني في إيران شبيهة بمواقف أنصار المخلوع صدام حسين ونظامه البعثي العروبي الفاشي، من خلال تضحية الاثنين بإنسانية الإنسان وبحقوقه مقابل نصرة “قضايا الأمة”، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. في حين لم تكن تلك النصرة إلا وسيلة من وسائل استمرار النظامين في الحكم.
لذلك، من الطبيعي أن تتشابه سياسات النظام الديني المؤدلج مع سياسات الأنظمة العروبية المؤدلجة، لكن الأخيرة تختلف عن الدينية في منطلقاتها، حيث ينصب سعيها على تفعيل الرؤى العروبية الشمولية حتى لو أدى ذلك إلى نتيجة متشابهة بين الطرفين وهي سحق الإنسان.
فموقف النظام الديني في إيران والبعثي الفاشي في العراق، متشابهان في المبدأ وفي بعض النتائج، لكنهما مختلفان في تفاصيل القضايا المتبناة من قبل كل طرف. فالاثنان، بـ”مثقفيهما”، يتبنيان “قضايا الأمة” ويتجاهلان مصير الإنسان ومصالحه وحقوقه. ومخطئ من يظن أن اهتمام تلك الأنظمة بالقضية الفلسطينية يعكس اهتماما بالإنسان الفلسطيني، إذ لو كان ذلك صحيحا لكان أولى بهما الاهتمام بالإنسان في إيران أو في العراق.
ويعتبر الوصول إلى السلطة عند “المثقفين المؤدلجين”، وخاصة الدينيين أنصار الإسلام السياسي، فرضا دينيا مقدسا من أجل تطبيق شرع الله في الداخل وتبني “قضايا الأمة” على الصعيد الخارجي، فيما لا يتم إلا لاحقا – بسبب الضغوط الدولية – تحقيق الحد الأدنى من احترام حقوق الإنسان، والسبب في ذلك أن الإسلام السياسي لا يحمل مشروعا يهتم بحقوق الإنسان، وإن اهتم به فبسبب الضغوط الدولية والمصالح الحيوية، لكن ذلك لا يمكن أن يكون دافعا لاعتباره أحد مشاريعه الرئيسية، لأنه ليس مشروعا دينيا بل دنيوي علماني لا علاقة له بالدين.
ومن الخطورة بمكان بالنسبة للأنظمة المتبناة من قبل “مثقفي الأدلجة” الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، لأن ذلك سيفتح للمواطن الباب على مصراعيه للمطالبة بتحقيق مختلف أشكال الحقوق والحريات، الأمر الذي قد يشكل تهديدا للنظام الديني في استمراره على رأس السلطة مثلما حصل بعد الانتخابات الرئاسية في إيران.
إن انتشار الفكر المؤدلج، الديني والعروبي، يعكس وجود أزمة أخلاقية في المجتمع. بمعنى أن ثقافة الأنظمة الدينية والعروبية ومواقف أنصارها و”مثقفيها المؤدلجين” لا يمكن أن تعير أي اهتمام بحقوق الإنسان الفرد وبمصالحه، التي أصبحت العنوان الرئيسي لموضوع الأخلاق في العصر الحديث، بل تهتم بمصير الأنظمة والحكام واستمرارهم في السلطة ولو أدى ذلك إلى سحق الإنسان ومحاصرته بالحديد والنار والسيطرة عليه بمختلف صنوف الظلم والاستبداد.
ويتميز العصر الحديث بأنه يستند إلى العقلانية، لذا يسمى بعصر مرجعية العقل، إضافة إلى أصالة الفردانية. فما يميز عصرنا هو أن ميادين العلم والسياسة والأخلاق “تحررت” من أسر رجال الدين، إضافة إلى “استقلال” هذه الميادين عن الدين أيضا. وهذه التطورات لم تكن لتتحقق لولا بروز أمرين هما: العقلانية، والإنسانية.
ومفكرو الحداثة اعتمدوا على أسس غير دينية في تفسير الأخلاق، والتي على أساسها أصبحت الأخلاق علمانية. وتلك الأسس هي: الطبيعة، والعقل. كذلك صار العصر الحديث يعبر عن فكر يدّعي بأن علاقة الإنسان بالله وبأخيه الإنسان باتت متساوية، وأنه لا وصاية لأي إنسان على الآخر.
وفي حين اعتبر الإنسان في الخطاب الديني خليفة الله في الأرض، استطاع في الخطاب الحداثي أن يحل محل الله والدين في موضوع التعاطي مع مسائل الدنيا وقضاياها. بمعنى أن كل فرد بات يتحكم بنفسه وبمصيره ومصير مجتمعه، وأن حظوظ كل فرد في إدارة المجتمع الذي يعيش فيه أصبحت متساوية، وأن الثقافة المهيمنة باتت ترفض السماح بوجود مواطن من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية، ورفض إعطاء فرد ما أو جماعة ما أو فكر ما حق الهيمنة على الرؤى والأفكار الأخرى أو حق الوصاية على الحياة.
إن الفصل بين الدين وخالقه من جهة، وبين الإنسان وأمور الحياة ومسائلها وقضاياها من جهة أخرى، تعلّق في العصر الراهن بقانون الأخلاق المنطلق من إرادة الإنسان وعلمه وليس من إرادة الدين. فعقل الإنسان والطبيعة أصبحا المرجع في إصدار القوانين الأخلاقية، ولم تعد هناك حاجة للوحي أو النص الديني في ذلك. كما أن التزام الإنسان بالقوانين الأخلاقية بات ينطلق من مسؤولياته الشخصية وتوجهاته العقلانية وإرادته الطبيعية الحرة، وليس من الأوامر الدينية الصادرة إليه. بعبارة أخرى، باتت الأخلاق العلمانية وقوانينها لا تستند إلى الدين، وأصبحت تعبر عن الأخلاق الاجتماعية، وباتت تهدف إلى تحقيق التعايش الاجتماعي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
“المثقفون المؤدلجون”.. وأنصار البرادعي
سوري قرفان
مقال بسيط وواضح قلما نراه لكتاب عرب غسلت أدمغتهم ثقافة الدمار ’’ الإسلايعربيه ’’ كما غسلت أدمغة الأغلبيه الساحقه لشعوبنا حيث نحتقر الاستقامه ونقدس الرذيله من خلال نظام خلقي مريض ورثناه من …….
تحيه للكاتب كثر الله من أمثاله