تشاطر علي أحد المتثاقفين، رافضا بمقابلة مع مجلة اسبوعية، ما أسميته مرة “ادباء أميين”، وكنت أقصد ان أدبائنا بعيدون عن الأدب المحلي، أدب مجتمعهم… وكل يغني على مواله، ولا يقرأون ما ينشره زملاؤهم الكتاب من أعمال، وبالتالي لا يمكن الحديث عن حركة ثقافية بأي معيار كان. وكانت شطارته، بدل طرح وجهة نظره ومحاولة البرهنة عليها، وهو أمر مقبول وطبيعي تماما… ان تساءل اذا كان صاحب موقف “ادباء أميون” ينجح في امتحان الاملاء؟
ماذا كان هدفه من هذه الجملة الغبية؟
هل ليثبت انه صاحب موقف مغاير لما طرحه نبيل عودة من رؤية نقدية، لقيت شبه اجماع من كل الأدباء الجادين؟ أم انه يقصد السخرية لأمر في نفس يعقوب؟ أم يحك لنفسه بيض جربه؟ ام يريد ان يثبت ان كراساته تباع(وليس مهما أن تقرأ) رغم أنف الواقع المأزوم؟ حقاأعرف انه بياع شاطر.. أولا وزارة الثقافة تشتري بين 300 – 400 نسخة من كتابه.. وأي كتاب آخر يصدر لغيره، وعمليا هذه تغطية أساسية للتكاليف، ثم يحمل شوالا بكتبه ويدور ليدلل ويشحد من أصحاب المكاتب والمعارف بعض النقود فيما يسمى توزيعا للكتاب؟
تعالوا نبق الحصوة ونتكاشف…
ذلك المتثاقف يدعي الأدب ولا يكاد يصل في ابداعه الى قصة واحدة ذات شأن فني مقبول، او يستحق جهد القراءة، رغم اننا مددنا له حبال روحنا ولاطفناه، واعتبرناه صديقا، لعله بعد عمر مديد وتجارب لا تتوقف،أن يستوعب انه لن يتجاوز منطقة الصفر الأدبية. وأن يستريح ويريحنا.
كتب الشعر الذي لا علاقة له بالشعر أو الذوق الأدبي البسيط. وعرض نفسه للسخرية والتهكم حين ظهر على المنصة ليلقي ما استطاع ترتيبه من كلمات، كتب القصة، ولم يرق الى مستوى النثر البسيط الذي يستحق جهد القراءة، بلغة أبسط ما يمكن وصفها، بأنها كتابة “استمنائية”.. ضحلة جافة وفارغة من فن القص أو رونق الشعر.. حقا صفة “الاستمناء” لم أجد أنسب منها وصفا، استعرتها من عالم المراهقة، مع ان المتشاطر تجاوز عمر المراهقة جيلا، ولم يتجاوزها بعقله وثقافته واسلوب صياغة أعماله، وعلاقاته مع الناس.
لست ضد الحوار، ولا أرى ان آرائي مقدسة، بل هي مواقف قابلة للتغيير والتطوير، ولست ممن يتمسكون برأي ثابت غير قابل للتغيير. ما اراه اليوم هو صحيح في لحظة النشر من وجهة نظري على الأقل، وغدا قد أجد ما نشرته أمس بعيدا عن الواقع. وما دمت قادرا على اعادة التفكير من جديد، فانا جاهز لقبول الرأي الآخر أو تغيير ما طرحته. لا قداسة لأي موقف الا بمدى مقاربته للواقع وتعبيره عن الحقيقة.
هكذا أفهم الحياة والثقافة والسياسة والعلوم… والعقل البشري.
ان الواقع الثقافي العربي في اسرائيل ما زال يعاني من سحر فترة اكتشاف العالم العربي، بعد حرب 1967.. لشعرنا خاصة ولأدبنا المحلي عامة، وأذكر فترة دراستي في الاتحاد السوفييتي بين عامي 1968 – 1970، كيف كانت تصدر الصفحة الأدبية لصحيفة الأخبار الشيوعية اللبنانية نسخة طبق الأصل تقريبا منقولة عن الصفحة الأدبية لصحيفة الاتحاد الشيوعية في اسرائيل. ونفس الأمر مع مجلة “الطريق” اللبنانية، التي كادت تكون نسخة مكررة من مجلة “الجديد” الحيفاوية.
وبات كل ما ينشر في الصحافة الشيوعية في اسرائيل يحظى بشعبية هائلة في الصحافة العربية كلها، وكنت أحد هذه الاسماء الذي نشرت قصصه في عدة مجلات وصحف أدبية رغم اني ككاتب كنت في بداية طريقي… وعدد ما كتبته لا يتجاوز الخمسة عشرة قصة. كانت بالنسبة لي بداية تشكيل وعيي القصصي، وتجربني الابداعية.. ومع ذلك لقيت ترحيبا وتقييما أخجلني ولم ينفخني مثل البالون المتشاطر، ومن أسماء أدبية عايشتها في موسكو، ومن أبرزهم المرحوم المقتول غدرا المفكر والناقد الكبير الدكتور حسين مروة، الذي طلب ان ينشر لي مجموعة قصصية في بيروت في ذلك الوقت المبكر، ولكن مسؤوليتي الأدبية جعلتني أرفض لعدم قناعتي اني تبلورت قصصيا. وأذكر أيضا الأديب السوري المرحوم سعيد حورانية، محرر صحيفة “انباء موسكو” باللغة العربية في وقتها والتي نشرت فيها بعض أعمالي الأدبية أثناء دراستي في موسكو، وادباء آخرون من سوريا والسودان وفلسطين ولبنان.
في تلك الفترة كان نجم محمود درويش يسطع في المشرق كله، واسمه بات ماركة معروفة للشعر الراقي، وأذكر تقييما لحسين مروة في جلسة تعارف بالمعهد الشيوعي عندما أعتبر محمود درويش الذي درس معنا بنفس المعهد، أبرز شاعر عربي معاصر على الاطلاق.. وحقا بات سحر درويش الثقافي والشعري محفزا لمئات الأقلام للحاق بركب الشهرة، وتحول الحزب الشيوعي الى الحاضنة الثقافية والفكرية للأدباء المحليين. وتحولت صحافته الى منبر اعلامي وثقافي مركزي للأسماء الأدبية التي يتناولها العالم العربي بعاصفة من الحب والتمجيد، بدون تمييز بين ما هو أدب حقيقي، أو مجرد ترهات.
حقا بعض الأسماء ظلمت لأنها رفضت الانطواء تحت مظلة الحزب الشيوعي ونهجه السياسي والثقافي، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر فوزي عبدالله ود. جمال قعوار ود.فهد أبو خضرة ود. حنا أبو حنا وآخرين. لا أقول هذا انتقادا للدور الثقافي للحزب الشيوعي، انما للدلالة على مرحلة تاريخية، كانت مهمة برأيي رغم الغبن الذي طال أسماء أدبية هامة في أدبنا المحلي، وبالطبع، صاحبنا المتشاطر اليوم على نبيل عودة ويريد امتحانه بالاملاء، ليس منهم اطلاقا ولم يكن من المشار اليهم من قريب او بعيد، لفقرة الأدبي وسطحيته الفكرية، ولآ اريد ان أضيف أكثر حتى لا يظن أني أقصد التشهير به، فهو لا يستحق حتى التشهير.
وقتها تنبه شاعرنا محمود درويش للخطر على تطور أدبنا المحلي فأطلق بافتتاحية لمجلة “الجديد” الشيوعية، التي كان يحررها، وقبل مغادرته حيفا الى موسكو ثم للعالم الواسع، صرخته المدوية والمحذرة للعالم العربي المنهرق على كل كتاباتنا الجيدة منها والتافهة: “أنقذونا من هذا الحب القاسي”.
ولكن صرخته لم توقف احلام اليقظة التي أودت بنهضتنا الثقافية المميزة في ظروفها، وأفقدت ثقافتنا تأثيرها الاجتماعي والمساحة الواسعة التي كانت لتوزيع الكتاب المحلي، وبدأ الوضع الثقافي بالتراجع والاندثار لدرجة غياب مجلة”الجديد” الممتازة والمدرسة الفكرية والثقافية لعشرات الأدباء والسياسيين، وغياب الأدب الجاد من صفحات الجرائد، وبدء شلال من النشر السطحي، وغياب المحرر الثقافي من مجمل صحفنا، لأن الثقافة أضحت تسالي، والمقاييس الأدبية تحكمها الفوضى في النشر، وبدأنا نفقد حماسة القراءة لدى القارئ المحلي، وأصبح توزيع الكتاب المحلي يعتمد على قدرة صاحبه على العتالة وشحادة ثمنه ( اكراما لوجه الله ) من المؤسسات والأفراد، وأكاد أجزم ان الألف نسخة أو حتى الخمسمائة، أو أقل، التي يطبعها الكاتب، مهما كانت مكانته، لا يقرأها أكثر كمن 50 شخصا وربما هذا الرقم مبالغ فيه.
ان عدد الادباء المحليين يتجاوز الألفين وربما أكثر بكثير، على الأقل من يدعون الأدب.. اذا لم توصل لهم كتابك كاهداء فلن يشتروه، واذا لم تخجلهم وتكرههم فلن يشتروه، ولا أتحدث عن الفارئ العادي..، ومع أول تنظيم جديد للمكتبة، يجد الكتاب المحلي طريقة لسلة المهملات، ولا اتحدث عن نظرية، بل عن معرفة مؤكدة من زملاء وادباء جادين.. يعترفون ان ما يصدر بمعظمة لا يستحق جهد القراءة، ولا يستحق ان يحفظ بمكتباتهم. وانهم باتوا لا يجرؤون على مطالعة كتاب محلي الا للذين يعرفونهم جيدا. الا صاحبنا “الاستمنائي” العظيم، الذي يعيش أوهام الأدب، وأوهاما ان القراء ينتظرون ابداعه، وربما ينتظر من يرشحه لجائزة نوبل الأدبية.
بالطبع سنرى كتابات نقدية تتناول “قصصه” أو ” شعره “.. تحمل من المهزلة أكثر مما تحمل من الأدب الجاد والنقد الأدبي.وأكاد اجزم ان بعض نقادنا يكتفون بقراءة عناوين المواضيع، وتكاد كتاباتهم تتشابه في افتتاحيتها ومدائحها.. ونهايتها.. فقط يغيرون اسم المنقود.
هل في ثقافتنا ادباء يستحقون هذه الصفة؟
أجل يوجد. لكنهم أقلية تبتعد عن الفوضى بألم وترقب ان يتغير الوضع.. وحتى اصداراتهم تواجه مشاكل في التوزيع وتعتمد على التوزيع الشخصي وشراء وزارة الثقافة للـ 300 – 400 نسخة.
أما الأكثرية، فهم ادباء لا يقرأون أدبنا المحلي ولا يعرفون ما يجري في ثقافتنا، منقطعون فكريا وثقافيا عن محيطهم، ربما لا يعرفون انهم ابناء لمجتمع عربي فلسطيني داخل اسرائيل، يجهلون تاريخه الثقافي والسياسي الذي يفتخر المستمني انه مقاطع له. ويجهلون ما يجري في حياته الثقافية، ولا يشغلهم الا نشر نصوصهم، التي لا يربطها بزمان ومكان حياتهم ومجتمعهم شيئا.
قد أخطئ في الاملاء.. ولكني لا أخطئ في فهم تفاهة الشخص وما ينشره، ولا أخطئ في استقامتي، ولا أخطئ في شرفي الثقافي، حين يخطيء المستمني في عقله وكلماته وثرثرته.
nabiloudeh@gmail.com
نبيل عودة – كاتب واعلامي – الناصرة