يقول المثل العامي المغربي “المال السايب يعلم السرقة”. حكمة لم تُطلب في الصين ولكن أفرزها واقع لم يُكتب له بعد الارتفاع أو التغيير. بل باتت النوازل توهم العامة والخاصة أن هذا الواقع غدا عصيا عن كل تغيير مهما كانت قوة العزيمة وطبيعة الجهة ـ يمينية أو يسارية ـ التي تتولى مسئولية التدبير والإشراف. لطالما اتُّهمت الحكومات السابقة التي شكلتها أحزاب اليمين أو التقنواقراط بالتستر على الفساد وحماية المفسدين. غير أن حكومة التناوب في طبعتيها الأولى والثانية التي علق المواطنون عليها كل الأمل في تفعيل القوانين وتشديدها في حق المتورطين في نهب وتبذير المال العام، فشلت فشلا ذريعا كرسته الرتب المتأخرة التي احتلها المغرب ولا يزال، حسب التصنيف الذي تكشف عنه تقارير منظمة الشفافية العالمية، رغم كل الوعود التي سبق وقطعها وزير العدل السابق محمد بوزوبع رحمه الله. وكان آخر تلك الوعود إعلانه أمام البرلمان في 17/1/2007، أنه لا يمكن لأي ضغوطات أن تعرقل السير العادي للمتابعات، أو تعرقل عمل الحكومة في مجال محاربة الفساد. إذ شدد على قراره “لن نستسلم لأي ضغط مهما كان مصدره”. لكن الواقع كان أشد عنادا ومقاومة لكل محاولة تستهدف فقط تطويق الفساد ـ كأضعف الإيمان ـ وليس اجتثاثه، بدليل الوقائع التالية التي هي للتذكير وليس للحصر:
ـ أن حجم النهب الذي تعرض له الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حددته لجنة تقصي الحقائق في 47.7 مليار درهم. علما أن هذا المبلغ كان بإمكانه أن يوفر 67.7 مليار درهم كفوائد، مما يرفع مبلغ التبذير والاختلاس إلى 115 مليار درهم.
ـ إن محكمة العدل الخاصة التي تم إلغاؤها، ورغم علاتها والأهداف التي أنشئت من أجلها ـ أصدر طيلة 40 عاما أحكاما تقضي باسترداد 140 مليار سنتيم، ولم يتم تنفيذ سوى عدد محدود من هذه الأحكام التي لا تتجاوز قيمة المبالغ الواجب استردادها 4 ملايير سنتيم، لتظل خزينة الدولة محرومة من استرجاع ما قيمته 136 مليار سنتيم.
ـ إن حجم ملفات الفساد المحالة على محكمة العدل الخاصة بين عامي 1998 و 2004 يكشف المدى الخطير الذي اتخذته ظاهرة الفساد، بحيث أحيل على هذه محكمة التي تم إلغاؤها، 385 ملفا، منها 318 مرتبطة باختلاس وتبديد أموال عمومية، و32 ملفا تتعلق بالارتشاء، و25 ملفا باستغلال النفوذ، و10 بالتزوير وخيانة الأمانة، فيما أحيل أكثر من 100 ملف على محاكم أخرى.
ـ إن الأموال المنهوبة ضيعت على المغرب فرص بناء 22402 مدرسة بمعدل 16 قسم من النوع الجيد لكل مدرسة، بناء 50 ألف مدرسة من النوع المتوسط، بناء 1757676 سكن اقتصادي، إحداث 412450 منصب شغل.وبسبب ذلك يتعمق نزيف الهدر المدرسي (400 ألف تلميذ سنويا ينقطعون عن الدراسة ) حتى بات المغرب يحتل المرتبة الأخيرة عربيا على مستوى التربية والتعليم، وتزداد أعداد العاطلين عن العمل من كل الفئات التي لم تجد مخرجا لأوضاعها الاجتماعية والنفسية الحرجة غير إضرام النار في أجسادها والموت حرقا.
وإذا كانت المواقف السياسوية المتخمة بالأيديولوجيا ظلت تربط بين الفساد المالي والإداري وبين طبيعة الأحزاب المشكلة للحكومات والتي عرفت تحت مسمى “الأحزاب الإدارية”، فإن الفضائح المالية والإدارية التي تتفجر بين الحين والآخر، تكشف عن حقيقة واحدة وهي أن بؤرة الفساد تجمع بين اليمين واليسار وتصهرهما بعد أن أخرستهما. وهذه نتف مما تيسر الكشف عنه:
ـ فضيحة تفويت وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عقارا تابعا للأحباس بتارودانت إلى منير الماجيدي بثمن رمزي.
ـ فضيحة مماثلة تتمثل في تفويت السيد فتح الله ولعلو، وزير المالية السابق ، لأحد معارفه عادل بوزوبع، قطعة أرض مساحتها ثلاثة آلاف وأربعة مائة متر مربع بثمن لا يتجاوز 370 درهما للمتر.
ـ الملايير التي تبذر وتنهب بسفاهة وصفاقة باسم كرة القدم وليس آخرها:
أ ـ صرفت الجامعة خمسة ملايير سنتم ونصف على المنتخب الوطني في غانا دون مكاسب. ناهيكم عن مصاريف الإعداد والسفريات.
ب ـ تخصيص راتب شهري بمبلغ 66 مليون سنتم علاوة على المكافءات والحوافز للمدرب هنري ميشال في الوقت الذي يعاني فيه ربع المغاربة من الفقر المطلق. إذ من المفروض أن تتجند كل القطاعات الحكومية للانخراط في المعركة ضد الفقر والتهميش التي دشنها الملك عبر “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”.
إنها مجرد نماذج من أخطبوط الفساد والنهب الذي يعيث تبذيرا ونهبا وتهريبا للمال العام دون أن تتحرك الجهات المفروض فيها حماية أموال الشعب وصيانة ممتلكاته العمومية. إنها “السيبة” التي تشجع على النهب والفساد. إذ حين تتوقف المحاسبة ويتعطل العقاب يستشري بالضرورة الفساد. ومن ثم فإن الحلول الضرورية لمواجهة ظاهرة الفساد والنهب والتبذير تقتضي بالدرجة الأولى تطبيق القانون وتنفيذ العقوبات في حق كل الفاسدين. وهذا لن يتأت إلا بإصلاح جهاز القضاء وضمان استقلاليته حتى لا يفلت فاسد من المحاسبة والعقاب ومصادرة الممتلكات المترتبة عن ذلك.
selakhal@yahoo.fr
* المغرب