عندما وقف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 27 سبتمبر من العام 2015 ليقول ان العملية الاصلاحية التي اعتمدها كانت بناء على التفويض الذي حصل عليه من الحركات الاحتجاجية التي عمت محافظات الوسط والجنوب، كان يدرك مبكرا حجم المقاومة التي ستبديها القوى السياسية ومافيات الاقتصاد والسياسة والمصالح ضد اي خطوة قد يقوم بها باتجاه ترميم الاوضاع العسكرية والسياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.
واقعية العبادي في مشروعه الاصلاحي لم تستبعد تراجع نسبة التأييد المعلن من المرجعية الدينية الذي قد يحتاجه لمواجهة المساعي التي ستبذل من داخل التحالف الوطني واقطاب البيت الشيعي للعرقلة، ولاحقا لافشال العملية الاصلاحية. خاصة وان الجهة الرئيسة التي ستقف بوجه العملية الاصلاحية ستكون من داخل الحزب الذي يمثله العبادي، اي “حزب الدعوة” الذي استطاع سلفه نوري المالكي المتضرر الاول من وصول العبادي، من استلحاقه والجزء الاكبر من قياداته على قاعدة شراء الولاءات والاغراق في الفساد وربطهم بشبكة مصالح معه تقطع الطريق امام تشكيل قوة دعم للعبادي داخل الفريق السياسي الذي يمثله.
ولا شك ان العبادي، حاول السير داخل حقل من الالغام، زرعه امامه المالكي، خاصة لجهة الارث الصعب الذي تركه قبل مغادرته مكرها موقع رئاسة الوزراء، وتمثل بالتركة الامنية الصعبة والمعقدة لعدة نواحي.
الاولى: انهيار في المؤسسة العسكرية بسبب سياسة الفساد التي مارسها المالكي، وكان نتيجتها فضيحة سقوط المحافظات الغربية، خاصة محافظة نينوى، وعاصمتها مدينة الموصل، بيد تنظيم داعش وهروب ثلاث فرق من الجيش وعديدها اكثر من 50 الف عسكري من دون قتال وترك كل معداتهم وعتادهم في ما يشبه تسليمها لداعش.
الثانية: الارث المربك الذي خلفه المالكي بتشكيل “الحشد الشعبي” الذي تحول الى قوة موازية تعمل على حساب المؤسسة العسكرية الرسمية الجامعة، والتي تتبع بقيادتها وقراراتها العملية لجهات خارج الحدود العراقية وان كانت رسميا من المفترض ان تكون تحت امرة القائد الاعلى للقوات المسلحة رئيس مجلس الوزراء.
الثالثة: ان المالكي سلم العبادي حكومة من دون موارد مالية، خاصة بعد الكشف عن حجم الهدر المالي الذي مارسه المالكي في ارادات العراق المالية وضياع اكثر من 700 مليار دولار لا يعرف كيف تم صرفها ، اضافة الى قيام المالكي بصرف ميزانية عام 2015 قبل تخليه مجبرا عن السلطة بضغوط محلية ودولية واقليمية.
الرابعة: تكتل القوى الشيعية خاصة ضد سياسات العبادي الاصلاحية وحتى الادارية، والتي دفعت هذه القوى الى تعطيل قرار تشكيل قوة عسكرية وطنية تمثل كل المكونات العراقية هي مؤسسة الحرس الوطني لتكون عامل اطمئنان خاصة للمكون السني الذي ابدى كثيرا من المخاوف من الدور الايراني في الدفع باتجاه حصر المعركة مع تنظيم داعش في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنية في اطار الحشد الشعبي.
الخامسة: لجوء الطرف الايراني الى فرض قيادة تابعة له على رأس الحشد الشعبي ممثلة بكل من ابو مهدي المهندس ( جمال جعفر محمد) الذي يعتبر مساعدا لقائد فيلق القدس في حرس الثورة الايرانية الجنرال قاسم سليماني في العراق الى جانب هادي العامري قائد منظمة “بدر” التي كانت تشكل الجناح العسكري للمجلس الاعلى بقيادة عمار الحكيم والتي تم تأسيسها في ايران قبل سقوط صدام حسين وباشراف من الحرس الايراني. والحشد الشعبي تحول الى ورقة ضغط على العبادي من قبل المالكي الذي يحاول ان يرسخ فكرة لدى الشرائح الشعبية بانه يتحكم بقيادة هذه الميليشيا ويستخدمها ورقة لعرقلة جهود العبادي العسكرية والامنية.
السادسة: اصطدام العبادي بواقع فاسد يتمثل في حقيقة تقاسم المصالح بين القوى الشيعية خاصة في تقاسم المغانم في الدولة والمؤسسات، وتحويلها الى “مزارع” لمناصريهم، واستعداد هذه القوى لتدمير كل عائق اصلاحي يقف في طريق حصولهم على مصالحهم او حمايتها على حساب الدولة والمؤسسات والمواطن.
السابعة: مساعي القوى الشيعية لجعل نفسها في موقع البديل عن العراق والدولة، وان الازمة التي يعيشها العراق تستهدف وجود هذه القوى وبالتالي المكون الشيعي في السلطة والدولة.
واذا ما سلمنا جدلا بان لا امكانية للعبادي في قيادة العراق من دون التفاهم مع قوى الامر الواقع، الا ان هذه الحقيقة تحولت الى ازمة بعد ان وضعت هذه القوى نفسها في سياق البديل عن الدولة وصبت كل جهودها لافشال الخطة الاصلاحية التي تبناها العبادي بدعم من التحركات الشعبية والمتناغمة مع المطالب العامة للعراقيين.
ولا يخفى على احد ان هذه القوى الشيعية استطاعت التأثير على الدعم الذي قدمته المرجعية الدينية لمشروع العبادي الاصلاحي، وذلك من خلال ايجاد حالة من الغموض في موقفها الداعم له الذي يدفع هذه القوى لتفسيرها بما يخدم مصالحها التي تتعارض مع مشروع العبادي، وبالتالي خلق حالة من التردد في الشارع الشعبي وثقته بقدرة العبادي على المواجهة او تنفيذ الوعود التي قطعها لترميم الاوضاع الداخلية وحتى الخارجية.
من المعروف ان القوى الشيعية التي تمثلت في البرلمان العراقي بكتل نيابية وازنة واتّحدت تحت مسمى “التحالف الشيعي”، حولت العديد من الوزارات الى حديقة خلفية لمناصريها تبعا لانتماء الوزير في هذه الوزارات، فتحولت وزارة الكهرباء الى مزرعة للتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر ايام المالكي ووصل فائض الموظفين المنتمين للتيار الصدر الى الالاف الذين لا يلتزمون بالدوام ويتلقون رواتب كبيرة من دون ان يعرفوا حتى اين يقع مبنى الوزارة او دوائرها. في حين تحولت وزارة الداخلية خلال تولي جواد البولاني لمقاليدها الى مساحة لشراء الولاءات من خلال التوظيفات التي جرت في الاجهزة الامنية التابعة لها من دون رعاية الكفاءة والقدرة والمعايير العسكرية والامنية.
ولعل ما قام به المالكي في المؤسسة العسكرية يشكل مؤشرا واضحا على ما يواجهه العبادي في حربه ضد الفساد، فالمالكي هو صاحب ظاهرة ” الفضائيين” ان كان في المؤسسات المدنية او العسكرية، ولعل ما كشف عنه والمتعلق بوجود 50 الف وظيفة في المؤسسة العسكرية وعسكريين وجنود وهميين تدفع لهم رواتب من ميزانية الدولة في زمن المالكي يشكل دليلا واضحا على عمق واستشراء الفساد في حكومة المالكي وشركائه في السلطة، اضافة الى الرواتب التي كان يدفعها للمقاتلين الذين كانت ومازالت تجندهم ايران والحرس الثوري للقتال في سوريا.
المجلس الاعلى الذي يقوده السيد عمار الحكيم لم يكن بعيدا او منزها عن المشاركة في عمليات الفساد والافساد، ولعل الاحداث التي رافقت زيارة العبادي الى دولة الصين تشكل مؤشرا على مدى تورط هذا الحزب الشيعي في الفساد. اذ كشفت المعلومات من داخل العراق ان زيارة العبادي تزامنت مع زيارة قام بها وزير النفط العراقي الى الصين للتباحث في صفقة نفطية مع احدى اكبر الشركات الصينية باستثمار كبير من دون علم العبادي، الذي تنبه لهذا الامر وفرض على الوزير الاعلوي عدم القيام باي خطوة بعيدا عن علمه او دون معرفة مجلس الوزراء، خاصة في ظل ما يتردد عن قيام المالكي بالزام حكومة العبادي بتصدير النفط الى مستوردين عقدوا صفقات آجلة مع حكومة المالكي ودفعوا ثمنها سلفا.
الفساد الذي زرعته المافيات الشيعية في الدولة العراقية ترك ارثا للعبادي فيه الكثير من التحديات، خاصة في ظل تراجع موارد الدولة التي تعتمد بنسبة تصل الى 98% على تصدير النفط، وايرادات الدولة من هذه الصادرات لا تفي شهريا في تأمين الغطاء المالي لجيش الموظفين في ادارات الدولة الذي وصل عديده الى نحو 5 ملايين موظف، اضافة الى جيش المتقاعدين الذين يعادل عددهم عدد الموظفين المسجلين، وفي الاجمال فان على حكومة العبادي دفع رواتب ما يفوق 11 مليون موظف ومستفيد من الدولة، في حين ان واردات الدولة الشهرية غير قادرة على تأمين هذه الرواتب وتبقى الحكومة امام عجز يفوق 100 مليون دولار فقط لدفع الرواتب، هذا ناهيك التحديات العسكرية التي تقع على عاتق الحكومة والتي تستزف الدولة ومواردها.
التأييد الشعبي الذي يحظى به العبادي، خاصة في محافظات الجنوب، تحوّل الى هدف مباشر للمافيات السياسية الشيعية. وفي مقابل الوضع العسكري الذي تعاني منه المحافظات الغربية والمحافظات المتاخمة للمناطق الجنوبية والوسط، فان تطورات امنية مشبوهة تشهدها بعض محافظات الجنوب، خاصة مدينة البصرة التي يتقاسم النفوذ فيها وعلى حكومتها المحلية كل من التيار الصدري والمجلس الاعلى، تضع علامات استفهام حول الاهداف التي تكمن وراءها، خاصة عمليات القتل اليومي التي تحدث في الشوارع، وهو ما دفع العبادي الى التحرك باتجاه هذه المحافظة لوضع حد للفساد الامني الذي يتسبب بكل هذا القتل. اضافة الى التفجيرات الاخيرة التي طالت عددا من المساجد في منطقة المقدادية، والتي تهدف الى تفجير صراع سني- شيعي بوجه العبادي الذي استطاع ان يحقق تقدما في تعزيز الثقة السنية بمواقفه وقراراته، خاصة في حسم قراره بتولي الجيش الوطني مهمة استعادة مدينة الرمادي وذلك بعد النجاح في اعادة بنائه وتقويته، وقطع الطريق امام مساعي الزج بالحشد الشعبي الشيعي في هذه المعركة وما يمكن ان يترافق ذلك من تداعيات بين ابناء الانبار المنتمين الى المكون السني الذي ينظر بعين الريبة الى الجهات التي تقف وراء الحشد الشعبي وتوظيفاته السياسية.