بقلم : رشيد خشانة – الدوحة- swissinfo.ch
على رغم أن تباعد الرؤى بين الأطراف المشاركة في بناء ليبيا الجديدة كان بارزا لكل من تابع أطوار الثورة الليبية، التي اندلعت من بنغازي في 17 فبراير الماضي، فإن تصريحات معمر القذافي وشطحاته ظلت كفيلة بوضع ستار على تلك الصراعات المحتدمة.
لكن مصرعه على أيدي الثوار في مدينة سرت يوم الخميس 20 أكتوبر 2011 أنهى على ما يبدو التحفظات السابقة وطفا بالرؤى المتباعدة إلى السطح.
ويمكن إجمال التحديات والرهانات المترتبة على إعلان تحرير ليبيا رسميا في الأيام القليلة القادمة بثلاث أساسية، أولاها تحدي وضع الإعلان الدستوري موضع التنفيذ من أجل الإنطلاق في المرحلة الإنتقالية التي حددها المجلس الوطني الانتقالي، وثانيها تحويل الكيانات العسكرية التي ظهرت خلال المسار السابق إلى جزء من مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وثالثها تحقيق توافق على هذا المسار السياسي بين القوى المشاركة في الثورة، بما لا يؤدي إلى احتراب شبيه بما شهدته الجزائر بعد وصول الثوار إلى العاصمة عام 1962.
لقد وضع مقتل القذافي نهاية لحقبة وفتح الآفاق أمام حقبة جديدة يبدو أنها ستكون أعقد وأعسر من سابقتها، نظرا لكثافة التناقضات المنعقدة في صلبها، على اعتبار أن الليبيين “سينتقلون من الجهاد الأصغر (التحرير) إلى الجهاد الأكبر (البناء)”، على ما قال رئيس المكتب التنفيذي المستقيل الدكتور محمود جبريل. واعترض التيار الإسلامي بزعامة علي الصلابي وونيس المبروك بشدة على استمرار تولي جبريل رئاسة المجلس التنفيذي في المرحلة المقبلة. وقال المبروك، وهو رئيس الهيئة العمومية لاتحاد ثوار ليبيا، في لقاء مع swissinfo.ch في الدوحة أن “لا أحد هاجم القوى السياسية الليبية بمثل ما فعل جبريل عندما أعلن أن الاسلاميين والليبراليين واليساريين في ليبيا مفلسون”.
عقد اجتماعي جديد؟
من ناحيته، اعتبر السياسي والخبير القانوني علي أبو سدرة أن الليبيين يحتاجون اليوم إلى عقد اجتماعي لتكريس المصالحة بينهم وتشكيل حكومة انتقالية بمواصفات حديثة واعتمادا على الخبرات الليبية التي كانت مُهمشة في عهد القذافي. وشدد أبو سدرة في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch على ضرورة “طمأنة الثوار على أن الثورة لن تُسرق كي ينسحبوا ويتركوا المجال للسياسيين من أجل بدء العملية الانتقالية”.
وأضاف علي أبو سدرة: “إذا كان هناك نوع من عدم الوضوح أو قلة الشفافية أو استمرار بعض مظاهر ما قبل الدولة الوطنية مثل الجهوية (المناطقية) سيخاف الثوار ولن يسلموا السلاح”. أما فوزي الطاهر عبد الله عضو اللجنة الأمنية العليا فأكد أن الثوار سينضمون إلى الجيش الوطني أو يتم استيعابهم في أجهزة وزارة الداخلية، مشيرا إلى أن قسما كبيرا منهم هم من المدنيين الذين حملوا السلاح دفاعا عن الثورة، والذين سيعودون إلى دراستهم أو أعمالهم بعدما استُكمل تحرير ليبيا.
ورأى أبو سدرة أن البناء الجديد يجب أن ينطلق من المجتمع المدني، مشيرا إلى أن القبيلة “نسيج اجتماعي تتم من خلاله المصالحات وتسوية كثير من المشاكل، لكنها لا ينبغي أن تكون كذلك في دولة مدنية”. وأوضح أنه فوجئ بحيوية المجتمع الليبي الذي أنشأ كثيرا من الجمعيات والمؤسسات التي قادت المجتمع خلال الفترة الماضية التي لم تتجاوز الأشهر الثمانية.
أما الدكتور محمد عبد القادر بيترو الأكاديمي الذي يُدرّس في جامعة طرابلس (الفاتح سابقا) والذي لعب دورا بارزا مع الثوار في الزنتان (غرب البلاد) فرأى أن مكونات المجالس تختلف من منطقة إلى أخرى في ليبيا “فالمجلس الوطني الانتقالي أعطى توجيهات مع انطلاق الثورة بتشكيل مجالس محلية، لكن لكل منطقة خصوصياتها وقدراتها الفكرية، ومسؤولية إعادة تنظيم هذه المجالس تقع اليوم على عاتق المجلس الوطني الإنتقالي، وهذه مشكلة من المشاكل التي يعاني منها المجلس اليوم”.
وقلل بيترو من أهمية التشكيك في أعضاء المجلس الإنتقالي وخاصة رئيس المكتب التنفيذي المستقيل، مؤكدا أن “أغلب الليبيين اتفقوا على تكليف المجلس بإدارة المرحلة الانتقالية، وما يراه البعض تشكيكا هو في الواقع شيء من الغموض الناتج عن ضعف الإتصال بين المجلس الوطني والمجالس المحلية في الفترة السابقة”.
وقال في تصريح لـ swissinfo.ch: “هم ليسوا أنبياء، إنهم يُخطؤون ماداموا يشتغلون” لكنه حذر من سيطرة جهة من الجهات على الآخرين، مشددا على أن صناديق الاقتراع “ستكون هي الفيصل في بعث الهياكل المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، فالدستور هو الذي سيحسم هذه الأمور، والدستور نفسه سيحسم أمره صندوق الاقتراع بمشاركة الشعب الليبي بأسره”.
يُذكر أن الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي فصل بدقة المراحل المقبلة لإعادة بناء ليبيا (انظر نص الوثيقة المصاحبة للمقال على اليمين).
مُحاصصة بين التيارات؟
ولدى سؤال بيترو عن مدى سيطرة منطق المحاصصة على ملامح البناء الدستوري المنوي وضعه، رد فورا “قناعة الجميع أننا في مرحلة لا نحرص خلالها على ما نأخذه من ليبيا بقدر حرصنا على ما نقدمه لها. فمرحلة الجهاد الأصغر حُسمت وكانت لصالح الليبيين، ونحن مقبلون الآن على الجهاد الأكبر وسنرى بالضرورة تنوعا في الأفكار وصراعا بين التيارات، لكن ليبيا الديمقراطية ستكون أولا ليبيا القائمة على القانون والدستور، وعلى جميع الفئات أن تعتبر أن ليبيا هي التي ينبغي أن تاخذ الحيز الأكبر، أي عكس ما كان الحال في الماضي”.
ولدى سؤاله: عمليا كيف يُحدّد نصيب كل طرف؟ أجاب: “الكفاءة أولا، فالأمور لا تُقاس بعدد ما قدمت من شهداء بل بما أنت قادر على أن تقدمه اليوم للوطن، فإذا كان هناك من هو أقدر على مسك الأمور في قطاع من القطاعات فليتول المسؤولية وسنكون معه جميعا”.
وعند التطرق إلى معضلة تعدد مجموعات الثوار في طرابلس، التي يُقدر عددها بـ27 مجموعة على الأقل، قال الدكتور بيترو “الحل واضح ويتمثل في وجود جهة أو مؤسسة معترف بها يُشكلها المجلس الوطني وتعيد للدولة هيبتها”. ثم أضاف “أنا قريب من هذه السرايا وأعرف أنه متى عاد الأمن سيعود أفرادها إلى أعمالهم الأصلية سواء أكانوا طلابا أم موظفين أم أطباء ومهندسين…”. واعتبر أن المجلس العسكري في المنطقة الغربية (طرابلس) اضطر إلى القيام بمهام أمنية بسبب عدم وجود وزارة دفاع أو مؤسسات على عكس بنغازي، وأكد أن هذا الأمر ساعد على الحد من الجرائم.
ورأى الدكتور بيترو أن هذه المظاهر ستختفي بعودة الأمن إلى العاصمة. ولام المجلس الإنتقالي على عدم إسراعه بتشكيل الهيئات الإدارية التي ستتولى حفظ الأمن في مدينة طرابلس، قائلا إنه يعرف سرايا الثوار في تاجوراء والزاوية وسوق الجمعة … “وكلهم مستعدون لتسليم أسلحتهم متى برزت جهة رسمية تتولى هذه العملية، مثل الأجهزة الأمنية الوقائية”. وأوضح أن الثوار “ليسوا ملائكة بل بشر يصيبون ويُخطؤون، لكن ستُريكم الأيام أن الشباب سيختفون عن الأنظار عندما يجدون من سيتولى المهمة عنهم”. واستدل بأحد أبنائه الذي يشارك في حراسة مطار طرابلس والذي قال إنه لا يراه سوى مرة واحدة في الأسبوع لساعة واحدة، وابنه الثاني الذي يشارك في حراسة الإذاعة التي يوجد مقرها في شارع النصر بطرابلس، والإثنان ينتظران مع رفقائهما الجهة الرسمية التي سيسلمان لها مقاليد الأمور.
مع ذلك، اعترف بيترو بوجود بعض الخلاف في وجهات النظر وهو اختلاف “بقي تحت السيطرة” على ما قال، لكنه لم يستبعد وجود “مندسين” يشوهون سمعة الثوار، مُعتبرا أن “الذي يثير الزوابع عليه أن ينظر إلى طرابلس التي مرت بأزمة شديدة (لدى تحريرها) إلا أن واجهاتها الزجاجية ظلت كما هي، كما أن مصارفها سليمة عدا مصرف واحد، مع أن الجميع يعلم ماذا يحصل عادة من جرائم عندما تنقطع الكهرباء”. ورأى أن “السكينة التي تسود طرابلس منذ التحرير مردها إلى الله ثم الثوار القادمين من الزنتان والعزيزية والزاوية والجبل الغربي”.
يبقى السؤال عن خارطة الطريق التي أعدها المجلس الوطني فالدكتور بيترو يقول إن لديه تساؤلات وبعض التحفظات على تطبيق الإستراتيجيا التي وضعها المجلس بسبب ما لاحظه من بطء في التنفيذ. ولكن هل تختفي وراء ذلك البطء صراعات؟ أجاب قائلا: “ربما…اسألهم”، قبل أن يُتابع “لم أفهم كيف ستطبق الخطة سواء في مجال الصحة أو الغذاء أو الأمن أو العلاقات الخارجية؟”. وأضاف: “ذكرت ذلك للدكتور جبريل والشيخ مصطفى عبد الجليل. لا أنكر أن المجلس وُفـق على الصعيد الدولي، لكن داخليا الأمور مازالت غير واضحة، ونحن بحاجة إلى مجلس قوي يقول للمُحسن أحسنت وللمُسيء أسأت”.
طرابلس وبنغازي
ربما يستند كلام الدكتور بيترو وكثير من أمثاله على بقاء غالبية الإدارات في بنغازي حتى اليوم، فالذين انتقلوا إلى العاصمة أفراد وليسوا مؤسسات. ويستعجل كثيرون اليوم تشكيل حكومة انتقالية والالتزام بتنفيذ الخطوات التي نص عليها الإعلان الدستوري. ورأى بيترو أنه “رغم تحفظ بعض الشعب الليبي على بعض بنود الاعلان إلا أن هذا ما اتفقنا عليه وعلينا تطبيقه”.
أما مصطفى الباروني عضو مجلس شورى الثوار في الزنتان فعزا تعدد السلاح في العاصمة طرابلس إلى أن مدنا عديدة شاركت في تحريرها، ورأى أن هناك تجارب عالمية سابقة تشبه ما حصل في ليبيا “لكن الثوار هنا معترفون بأن المجلس الإنتقالي هو ممثلهم ولو كلفهم بأي مهمة سيمتثلون”. واعتبر في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch أثناء زيارة للدوحة أن الأمور في ليبيا أسهل من غيرها، بسبب وجود ارتباطات قبلية تُسهل تسليم السلاح، لأن الهدف الأصلي كان التخلص من الطاغية (القذافي) وهو ما تم. لكنه نبه إلى أن الحرص ينصب حاليا على أن لا ينتقل السلاح إلى أطراف أخرى. وقال “نحن لا يمكن أن نخاف من ثوار مصراتة أو غيرها، لكن إذا ما ظهرت مجموعات سياسية أو عقائدية وتحولت إلى جماعات مسلحة فهذا خطر على الجميع”.
وامتدح الباروني مؤسسات المجتمع القبلي التي ساهمت في الثورة، مؤكدا أن لها “دورا في نشوء مؤسسات المجتمع المدني تدريجيا، لأن القبيلة لها قوة إلزام للفرد وعلينا أن نستفيد من ذلك العُرف إيجابيا”، مع تشديده على أن الليبيين يتطلعون اليوم إلى بناء دولة مدنية حديثة يسود فيها القانون ولا تقديس فيها للفرد. ورأى أنه عندما يتفق الليبيون على شكل الدولة ودستورها سينضبط لها الجميع.
ومع كثرة الإشارات إلى تضارب محتمل بين الشريعة الإسلامية وركائز الديمقراطية الحديثة أكد الباروني أن لا تعارض بين المدنية والهوية، مستدلا بدستور 1952 في ليبيا، مع وجود كفاءات كبيرة اليوم يمكن الاستعانة بها “للوصول إلى دستور يحافظ على الهوية ويتقدم نحو الحداثة والحرية”. وحض على أن يضبط الدستور شروط تشكيل الأحزاب التي هي من حق كل فرد، مُعتبرا أن “المجتمع القبلي لن يكون عائقا أمام انتشار الأحزاب، خاصة إذا ما لمس الليبيون النتائج التي حققتها الديمقراطية في البلدان الأخرى ورأينا العدالة والشفافية والتقدم لدى تلك الأمم، ما يجعلنا نأخذ العبرة من تجاربها، ولن نتمسك بالمجتمع القبلي إذا كان المجتمع الحديث أفضل لنا، لكنه سيكون رافدا ومساعدا لنا”.
من جهة أخرى، عبر الباروني عن تحفظه الشديد على فكرة المحاصصة مشيرا إلى أنه “لا ضير أن يكون المسؤلون من منطقة واحدة إذا توافرت الكفاءة، فإذا كان رئيس الدولة من منطقة أخرى غير منطقتي ويخدم كل البلد، فهو أفضل من شخص ينتمي إلى بلدتي لكنه قليل الكفاءة، إذ في هذه الحالة لا نحن ننتفع ولا الآخرون”. ورأى أن المهم في المرحلة المقبلة هي الخطط التنموية والبرامج وليس استخدام قوة القبيلة لفرض أمر من الأمور على الليبيين، “فأنا مرجعيتي إسلامية لكن ليبيا لليبرالي والإشتراكي والقومي وللجميع”.
طاغية جديد؟
ويعكس الباروني إلى حد كبير المخاوف التي تنتاب غالبية الليبيين بعد التخلص من القذافي قائلا “نخشى على ثورتنا من شخص آخر يأتي ليدمرها، لذا ندعو الليبيين إلى توحيد الصفوف وترك الأنانية والطمع خلف ظهورنا من أجل التطلع نحو ليبيا التقدم والمستقبل والمؤسسات”.
وتتبوأ المصالحة الوطنية موقعا مركزيا في رؤية كثير من النشطاء واللاعبين السياسيين في ليبيا ما بعد القذافي. وهنا يشدد الباروني ومعه آخرون على ضرورة الإعتبار من تجارب الصومال والعراق وأفغانستان وغيرها، “فمن يتشبث بالسلطة من أجل السلطة، كما قال، سيقود البلد إلى صدام، وكفانا من الحروب فبلدنا منهك ونحن نريد أن نعيش، ومن حق كل ليبي أن يطمح إلى السلطة، لكن يجب أن يتوافر فيه بعد النظر والمحافظة على ليبيا موحدة”، وهو ما يتحقق على رأيه “بدعم المجلس الوطني الإنتقالي وتركيز مؤسسات الدولة”.
ولما سُئل عن الانتقادات الشديدة الموجهة إلى المجلس الوطني الإنتقالي، أجاب بأن “هذا خطأ، فلماذا رضينا به إذا؟ أليس لتغليب المصلحة على المفسدة؟ نحن قادرون على إصلاحه خاصة أن مرحلة التحرير انتهت ونحن متوجهون إلى المرحلة الإنتقالية، أي إلى الدولة والسلطة المركزية. من حقنا طبعا أن ننقد المجلس، لكن علينا أن ننضبط وإلا فسيقودنا ذلك إلى دويلات ولن يجلب لنا إلا الدمار”. ثم أضاف “هناك من جمع حوله 700 نفر وأصبح يعتبر نفسه حاكم البلاد أو ملكا… بينما هناك في المقابل من سميناه رئيسا للمجلس الإنتقالي المحلي من قبل مجلس شورى الزنتان فرفض، لأنه متواضع رغم أنه كان قائد سرية من سرايا الثوار”، وقديما قيل: “رحم الله امرءا عرف قدره ووقف عنده”.
رشيد خشانة – الدوحة- swissinfo.ch