المجتمع الكويتي، الذي يصفه الكثير من المحللين السياسيين والاجتماعيين بأنه مجتمع محافظ ومتعلق بمفاهيم دينية أصولية تعادي في كثير من الأحيان مفاهيم الحداثة، كالليبرالية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، يجب على الخطاب الليبرالي الكويتي أن يركز جل جهوده على تغيير المفاهيم السائدة وتبديلها لجعلها تتناسق مع الفكر الحداثي ومفاهيم الحداثة. فإصلاح الفهم الديني الأصولي وتغييره بطرح فهم جديد قادر على التعايش مع مفاهيم الحداثة، يعتبر من أبرز القضايا التي من شأنها أن تساهم في “لبرلة” المجتمع الكويتي. لذلك تقع مسؤولية تجديد الخطاب الديني وتغييره على عاتق التيار الليبرالي قبل أي تيار آخر. كما أن الفهم الديني غير المعادي لليبرالية وغير المناهض للحداثة، سيساهم في تغيير الواقع الاجتماعي الكويتي. فلو ساهم الخطاب الليبرالي في الكويت في ظهور ما يسمى بالإسلام المستنير، المستند إلى رؤى لا تخالف الليبرالية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وتقبل التعددية الثقافية والفكرية والدينية، إسلام التجارب الإيمانية المعنوية التي تضفي على العمل السياسي والاجتماعي استقامة أخلاقية، بديلا عن الإسلام السياسي المؤدلج الذي يؤطر الحلول لمشاكل المجتمع في قوالب فقهية جاهزة مسبقا (تاريخية) وغير قابلة للتغيير إلا بواسطة الفقه والفقيه.. لو ساهم الخطاب الليبرالي في ذلك يكون قد خطا خطوة مميزة باتجاه “لبرلة” المجتمع الكويتي وانتقل نقلة نوعية نحو الحداثة.
فالخطاب الديني الأصولي الإيديولوجي يمارس هيمنته على الهوية الدينية والاجتماعية للمجتمع الكويتي. في المقابل، لا يستحوذ على اهتمام النخب الليبرالية في الكويت سوى ممارسة النقد اللاذع المتطرف ضد الأصولية الدينية من دون تقديم بديل متمثل في الفهم الديني المستنير القادر على أن يحل محل تلك الأصولية التقليدية. لذلك استغل الأصوليون الخطاب الليبرالي الناقد، لتأليب الرأي العام الكويتي ضد الفكر الليبرالي بوصفه فكرا معاديا للدين الإسلامي (وليس معاديا لفهمهم للدين) مما ساهم في صد الكويتيين عن الفكر الليبرالي ونفورهم منه.
فالخطاب الأصولي في الكويت لا يزال ينهل من الفكر التاريخي، ولا يزال يعتمد على الفقه والفقيه في تفسيره لقضايا الحياة ووضع حلول لها، مما جعله معتمدا على منبع فكري واحد، ما لبث أن أوحى هذا المنبع لجمهوره بأنه يحمل حلولا “نهائية” معلبة في قوالب غير قابلة للنقاش إلا في الإطار الفقهي، أو بعبارة أخرى حلولا “أيديولوجية تاريخية”.
إن المدرسة الفقهية التقليدية التاريخية تحتضن الخطاب الأصولي، وأبرز ما تسعى إليه هو الرد على أسئلة الحاضر بإجابات تاريخية ماضوية، بينما على المدرسة الدينية “المستنيرة” المحتضنة لخطاب التجديد الديني، أن تتبنى حلولا وإجابات حديثة لأسئلة ومشاكل الواقع، وتلك الحلول تستند إلى فصل العقل الديني عن العقل الطبيعي أو فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية، بمعنى أنها تعتمد على العقل الحر ولا تشترط حلولا للحياة من الدين لكنها ليست بالضرورة ضد الدين، أي أنها تواجه الواقع بسلاح العلوم البشرية الحديثة أكثر من مواجهته بسلاح الدين. لذا نرى تبنّي المدرسة المستنيرة لقضية “التجديد” الديني، الذي يستدعي التجديد في الفقه وفي علم أصول الفقه وفي علم الكلام، وذلك من أجل طرح فكر ديني جديد لا يخالف الواقع الحديث فحسب بل يجاريه إلى أبعد الحدود. وعلى هذه المدرسة أن تثبت عدم جدوى مزاعم التجديد في الفقه التي لا تدير بالا للتجديد في علم الأصول وفي علم الكلام. فطرح مفهوم “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” إنما يعني أن ذلك الدين يستجيب للتاريخ ويتطور معه، وأن الخطاب الديني إنما هو خطاب بشري لا خطابا مقدسا، وكما يقول محمد أركون “يهدف منظور علوم الإنسانيات الحديثة إلى إخضاع النص القرآني لمحك النقد التاريخي المقارن وللتحليل الألسني الحديث وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وزواله، وذلك من أجل تجاوز المرتكزات المعرفية للعصور الوسطى التي ما زالت تؤثر في تفكير البعض منا حتى اليوم”.
لا يمكن زعزعة مكانة الفكر الأصولي في المجتمع إلا بمواجهته بفكر ديني آخر يتفاعل مع الحداثة وفق القضايا المعاصرة ويهز الأركان الفقهية التاريخية المؤدلجة ويكشف نواياها الوصائية الإلغائية التكفيرية والحلول الماضوية التعجيزية لمشاكل الواقع الراهن. صحيح أن الأصولية الكويتية أقل تشددا في مواقع متعددة من أخواتها الأصوليات الأخرى في المنطقة إلاّ أن ذلك لا يلغي تشددها، فهي أثبتت أنها متناقضة إلى حد كبير في وصف – مثلا – ظاهرة الإرهاب. حيث تنظر للعمليات الانتحارية لقتل المدنيين في منطقة من المناطق بأنها إرهابية في حين ترى الإرهاب في منطقة أخرى بأنه من أعمال المقاومة المشروعة ضد الغزاة. هذا التناقض، والتأكيد على شرعية قتل المدنيين، كاف للتدليل على خطورة الأصولية، وضرورة ظهور فكر ديني حداثي يهيئ الساحة السياسية والاجتماعية لقبول الليبرالية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان بوصفها مفاهيم لا تتعارض مع الدين بل ترضى به وتتماشى معه وتدافع عنه، لكنها لا تدافع عن الديكتاتورية والاستبداد والوصاية والإلغاء واللامساواة والتشدد والإرهاب والتكفير الديني، وبعبارة أخرى لا تدافع عن الفكر الديني الأصولي الإلغائي.
إن عدد ليبراليي منطقة الخليج، ومنها في الكويت، كما يشير المراقبون، في تزايد. وهذا الأمر يزيد من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم في تبني خطاب ديني حداثي يستطيع مواجهة الخطاب الديني الأصولي. ولقد أشار الكاتب شاكر النابلسي إلى ذلك مؤخرا بالقول أن “أكبر دليل على تقدم الليبرالية العربية في السنوات الخمس الماضية، هو ظهور كثير من الليبراليين النساء والرجال في الصحراء العربية ومنطقة الخليج العربي. فمن كان يظن، أن هذه المنطقة من العالم العربي هي ساحة رمّاحة للأصوليين فقط، فهو خاطئ. ولعل ليبراليي هذه المنطقة من العالم العربي، هم من أكثر ليبراليي العالم العربي حماسة وشجاعة وإقداماً. ومن يقرأ الصحافة الورقية الخليجية الآن، يرى أن تسعين بالمائة منها ذات توجه ليبرالي، تنادي وينادي كتابها – وهم الأكثرية – بضرورة النقد الذاتي، وفرز التراث، واحترام حقوق الإنسان، وبالمساواة بين الرجل والمرأة، وبحرية الرأي والرأي الآخر، ورفع الرقابة كليةً عن الثقافة، وبالمساواة بين كافة المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن جنسهم، ولونهم، وطائفتهم”.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
الليبراليون.. وإصلاح الدين
مقالة رائعة وضعت الأصبع على الجرح ..
وكم نحن محتاجين لإطروحات فيورباخ وسبينوزا ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وتفكيك الخطاب ونبشه بأدوات ميشال فوكو وجاك دريدا ومحاولة تقديمه بشكل آخر ( السهل الممتنع ) لكي يسجل حضوره في الشارع ..
أن حالة الأستقرأ التي أجدها في كل مرة في مقالاتك الرائعة حركتني لكي أصافحك هذه المرة وبحرارة .