لم يقتصر النزوح السوري إلى لبنان على الأماكن الجماعية أو ما يشبه المخيمات، بل تجاوز ذلك إلى أشكال أخرى من النزوح تتفاوت بحسب الوضع المادي للنازح أوعلاقات الصداقة والقربى والمصاهرة والنسب الممتدة تاريخياً بين البلدين.
ثمة صور متعددة للهاربين من جحيم القتال في سوريا الى لبنان، فهناك مجاميع بشرية نزحت بما عليها من ثياب من دون أموال ولا طعام، بينما بدت على آخرين مظاهر النعمة فأقاموا في فنادق أو شقق سياحية، الأمر الذي يعكس بطبيعة الحال التفاوت الطبقي سواء أيام السلم أو اثناء الحروب.
فيما توزّت غالبية النازحين السويّين إلى لبنان على المدارس والمساجد وبيوت الأصدقاء والأقارب، فهناك شريحة مُترفة أخرى سنحت لها ظروفها المادية أن تتجنب الأوضاع الصعبة داخل المخيمات، بل وتستمتع بسياحة هادئة في ربوع مصايف لبنان، بما يتناسب مع وضعها الطبقي.
لكن هذه الشريحة على ما يبدو لا تشكل ضغطاً كبيراً، إذ أن نسبة الإشغال في فنادق الخمسة نجوم في لبنان خلال الشهور الأخيرة، لم تتجاوز الـ 60 في المائة. وهذا معناه بحسب قول الخبير الاقتصادي، محمد زبيب، أن السوريين لم يلجأوا إلى هذا النوع من الفنادق بنسبة كبيرة. ويضيف الصحافي الاقتصادي لـ DW عربية أن نسبة الإشغال في فنادق الأربعة والثلاثة نجوم وصلت الى 90 في المائة وفي الشقق المفروشة خصوصاً في بيروت وصلت الى 100 في المائة، ما يعني بأن كثير من السوريين لا سيما التجار وبعض رجال الأعمال الأغنياء نسبياً قد أقاموا في هذه الأماكن، حسب الخبير اللبناني.
لكنه زبيب يكاد يجزم بأن الأثرياء الكبار لم يأتوا إلى لبنان بل سافروا الى دول أخرى. ويتحدث زبيب عن حذر لدى الطبقة البرجوازية من الإقامة في لبنان أو إيداع أموالها في مصارفه، “خصوصاً أن نسبة من هؤلاء هم من حديثي النعمة الذين استفادوا من النظام الحالي، وبالتالي فهم يشعرون بأن مصارف لبنان مُراقبة من الأميركيين فلجأو الى دول حجم الرقابة فيها أقل مثل الأردن ودبي”. مع ذلك يشير زبيب الى أن الودائع السورية في مصارف لبنان ازدادت خلال الأزمة ووصلت الى حدود مليارين ونصف مليار دولار.
غالبية معدمة لكن لا إحصائيات
أحد رجال الأعمال السوريين المقيم في فندق أربعة نجوم بالقرب من بيروت، تحدث لـ DW عربية، فقال “صاحب هذا الفندق صديق لي أعطاني جناحاً لي ولعائلتي بسعر رخيص، لكني أطمح إلى السفر الى خارج لبنان، وهذا لم يتسن لي رغم أن لدي حسابات مصرفية”.
يطمح الرجل، الذي أشار الى أن 90 في المائة من النازحين “معدمون”، قائلاً “هنا في لبنان يعرقلون لنا مسألة فتح حسابات مصرفية ولا يوجد أي مساعدة من الدولة أو من المنظمات والدول الأخرى. كلهم كذابون ونحن الضحية”، وتابع “نحن مضطرون للبحث عن مأوى أرخص لأن المدارس على الأبواب ونريد لأبنائنا أن يتابعوا تعليمهم رغم ظروف البلاد”.
على أي حال يبقى عدد النازحين السوريين غير واضح حتى الآن، لأن هناك حركة عبور، ذهاباً واياباً بين لبنان وسوريا بشكل دائم، حسبما يفيد رئيس مكتب شؤون الإعلام في المديرية العامة للأمن العام اللبناني، العميد منير عقيقي.
عقيقي أشار لـ DW عربية، الى دخول نحو 8000 مواطن سوري خلال يوم واحد بعد انفجار مبنى الأمن القومي في دمشق الشهر الماضي. لكنه يؤكد أن “لا وجود لاحصائيات دقيقة عن عدد النازحين لأن حركتهم مرتبطة بأكثر من ظرف، فمنهم عمال سوريون يعملون هنا منذ وقت طويل يبلغ تعدادهم نحو 400 الف. ويلفت العميد عقيقي الى حركة عودة لافتة الى سوريا خصوصاً على معابر الشمال (العبودية والعريضة والبقيعة).
أسعار سياحيّة
وفي تلال بلدة الدامور الساحلية، جنوب بيروت، توزعت عائلات سورية عديدة على بيوت وشقق. بعض هؤلاء بادر فوراً الى الاستئجار بسعر “ليس منخفضاً”، وبعضهم من “أكرمه” صاحب الشقة باستضافته الى أجل.
حال هؤلاء يختلف عن الذين حطّوا رحالهم في جبل لبنان، حيث الأسعار السياحية في فصل الصيف. فمحمود الذي وصل الى قرية بعورتة مع عائلته ووالدته لم يجد شقة أرخص من 300 دولار أميركي في الشهر رغم أن المنطقة بعيدة وأسعارها متهاودة في الأوقات العادية نسبياً.
تقول إم محمد، والدة محمود، إنها استأجرت الشقة بسعر ليس رخيصاً، قائلة: “أُفضّل الاستئجار على المكوث في أماكن جماعية”، مشيرة الى أن ابنها المتخصص بعمل التصميم الدعائي وجد عملاً في بيروت ما يسمح لهم بمتابعة الحياة في مغتربهم القسري.
لكن سمير (اسم مستعار) الذي يسكن مع 3 عائلات في شقة واحدة في إحدى قرى الجبل، “أشفقت” عليه إمرأة قريبة متزوجة من لبناني وأعطته شقتها الصيفية، حيث يسكن الآن مع عائلتين أخرتين.
بائع العصير
وفي بعورتة، أيضاً، جلس شاب من حمص يبيع بعض أنواع العصير الرمضانية، حيث قال لـ DW عربية، “اريد ان أؤّمن ثمن الحليب والحفاضات لطفلي”. يضيف أنه سكن مع عائلته في شقة أمنتها له جمعية خيرية من دون مقابل.
معظم من صادفتهم DW عربية، رفضوا الحديث اليها أو تصويرهم، إلاّ أن أحدهم اكتفى بالقول: “لقد جمعنا بعض المال من التجارة والآن نقوم بصرفه في ما يشبه رحلة سياحية”، أما فريد فيشير الى أنه استأجر لعائلته “شاليه” على البحر.
ويروي أحد سماسرة العقارات في منطقة عاليه- جبل لبنان، أن رجل أعمال سوري ثري اشترى فندقاً بكامله وأسكن فيه عائلته وأقاربه وبعض أصدقائه النازحين.
يقول زياد، وهو صاحب أحد الفنادق المتواضعة في عاليه، إن نسبة السوريين في الفندق في ازدياد، مشيراً الى تراجع عدد الخليجيين لصالح السوريين. أما محمد الذي يعمل في فندق آخر فيؤكد أن الأسعار لم تتغير استغلالاً لوضع السوريين “انما نحاول مراعاة وضعهم. ويؤكد مواطن سوري كان يتسوق مع زوجته في عاليه لـDW عربية، أن “اللبنانيين يعاملونا بكل لطف”، مؤكداً أنه استأجر شقة كبيرة يسكن فيها ثلاث عائلات بـ1500 دولار أميركي شهرياً، وهو “مبلغ ليس كبيراً في موسم الاصطياف حيث تصل الأسعار الى ذروتها”.
معمر عطوي ـ بيروت