كنت أعتقد أن التيار الديني هو الوحيد الذي يرفع شعار الديموقراطية وفي الوقت نفسه يحارب الشعار بممارساته المستندة إلى أجندة ثقافية تاريخية لا تمت للديمقراطية ولا إلى مفاهيم هذا العصر بصلة. غير أن التعاطي السياسي في مجلس الأمة الكويتي، خاصة الأخير والمتعلق باستجواب سمو رئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد، يؤكد أن تيارا آخر ظهر بقوة على الساحة السياسية الكويتية لا يقل خطورة عن التيار الديني في معاداته للديموقراطية إن لم يكن أخطر. وأستطيع بكل شفافية أن أطلق عليه “التيار الوصولي” بنوابه ورموزه وجمهوره الذين يمثلون مختلف الطيف السياسي في الكويت. فرغم انه يدّعي محاربة الممارسات غير الديموقراطية وغير الدستورية وأنه يسعى إلى إنقاذ البلاد من مؤزمي العمل البرلماني ومن معرقلي التنمية، نجد أن سلوك هذا التيار الجديد يعادي الديموقراطية بكل وضوح، بتبنيه مواقف مناهضة لما يسمى بـ “أدبيات” العمل السياسي المستندة إلى ثنائية “الحكومة والمعارضة”، الأمر الذي شوه صورة الحياة السياسية، وجعل البرلمان أداة سهلة الانقياد بدلا من أن تكون أداة معارضة للسلطة التنفيذية.
إن الأدبيات التي يستند إليها التيار الديني وتجاربه على أرض الواقع ومواقف نوابه في مجلس الأمة، تثبت معارضته للعمل السياسي القائم على مفهوم الأنسنة ومعيار الحداثة في ظل ما يقرره الدستور. إذ نجده يشرعن للعمل السياسي في إطار فهمه الديني القديم ووفق ما يقرره الحرام والحلال الشرعي بتابوهاته التاريخية. وبالتالي يفصّل “آلية” الديموقراطية على مقياس المفاهيم القديمة. غير أنني أجده يشترك مع نظيره الوصولي في رفع “شعار” الديموقراطية لأمرين: إمّا جهل بالديموقراطية الحقيقية، وإمّا ضحك على الذقون من أجل السيطرة على الهوية الدستورية وتحويلها إما إلى هوية أصولية (بالنسبة للتيار الديني) أو إلى هوية نفعية معادية للمكتسبات الديموقراطية والدستورية (بالنسبة للتيار الوصولي). كما أن الاثنين يشدّدان على التزامهما بالديموقراطية “كآلية” لتنظيم العمل السياسي، لكنهما يرفضان الاعتراف بالديموقراطية كروح ومحتوى ويتجهان إلى مواجهة المفاهيم التي تتأسس عليها.
فالديموقراطية لا يمكن أن تتعايش في ظل تقديس التاريخ وفي إطار ثقافة “العين الحمرة” أو ثقافة “المعزّب”، والتي لم تحل شيئا من مشاكل البلاد، إنها تقوم أساسا على النقد الصارم للممارسات الخاطئة الصادرة عن المسؤولين في الحكومة، وعلى محاسبة أي توجه غير دستوري لأي مسؤول. فالتياران يقفان في منطقة تبرز خلالها الآلية منفصلة عن المحتوى، رغم أن الآلية ليست سوى وسيلة يستحيل أن تنفصل عن محتواها، وإذا ما انفصلت فستصبح هي الهدف ويتم تجاهل المحتوى، وبالتالي سوف يتم التفريط بالكثير من القضايا المرتبطة بالمحتوى، كقضايا الحقوق الدستورية وقضايا الحريات ومبدأ المحاسبة والنقد. فالتياران يلجآن إلى آلية الديموقراطية لإلغاء موقف يتعارض مع مصالحهما حتى لو خالف ذلك روح الديموقراطية والدستور. فالحياة المدنية والسلم الاجتماعي لا تهددهما مقومات الديموقراطية بل تهددهما المفاهيم الاحتكارية المصلحية التي تؤسس لظهور أجندات ثقافية غريبة على الديموقراطية.
لاشك أن من نتاجات الحياة الحديثة تأسيس إنسان “ناقد”، في حين أن التيارين، الديني والوصولي، يرفضان ذلك في غالب الأحيان، ويدفعان به حينما تتعرض مصالحهما للخطر. خاصة التيار الوصولي الذي أثبت من خلال مواقفه من الاستجوابات الأخيرة أنه يريد لنواب مجلس الأمة أن يكونوا “منقادين ومطيعين وتابعين” للأوامر الصادرة عن السلطة التنفيذية. فهذا التيار لا يريد للنقد أن يرتبط بسلوك النائب والمواطن، بسبب أن ذلك لا يمكن أن يتماشى مع ثقافة الطاعة والتسليم. في حين لا يمكن للإنسان الديموقراطي أن يكون منقادا مستسلما مطيعا، لتعارض ذلك مع أطر الحياة الجديدة المستندة في أحد أسسها إلى النقد والسؤال وعدم التسليم إلا بعد الحصول على براهين عقلية مقنعة. كذلك، من أسس الحياة الديموقراطية بروز مفهوم “الاختيار” وتوسّعه حتى بات أحد شروط الحياة. في المقابل فإن اللااختيار كان ولا يزال أصلا من أصول ثقافة الوصوليين المتسلقين على الديموقراطية والذين أصبحوا يخاطبون من يخالفهم في اختيار مواقفه بنعوت بذيئة. فهم لا يريدون للمواطن أن يكون حرا في اختيار مواقفه بل يريدونه منقادا لمواقفهم السلطوية النفعية.
إن الحديث المتكرر عن نواب التأزيم ونواب الصراخ بوصفهم من تسببوا في افتعال أزمات سياسية في الكويت، حديث يفتقد إلى المصداقية، ويمثّل رؤية غير واقعية للوضع الراهن. فتاريخ الصراع السياسي في الكويت بين الحكومة والتيارات السياسية لم يكن سببه ذلك، بل هناك من يتهم الحكومة بمعية التيار الوصولي بالترويج لهذا السبب لإبعاد مشاكل الكويت عن أسبابها الحقيقية. فتاريخ الصراع السياسي في مجلس الأمة لم يكن دافعه الأسباب المرتكزة على سلوك نواب الصراخ والتأزيم، والتي أعتبرها أسبابا ثانوية وهامشية. فجميع مجالس الأمة التي تم حلّها، وجميع الأزمات التي حدثت بين السلطة والمعارضة أو بين الحكومة والمعارضة، لم ترتبط أسبابها بذلك، بل تنحصر الأسباب الحقيقية في عوامل أخرى تقع تحت عنوان رئيسي هو ضيق صدر السلطة والحكومة من الديموقراطية كمفهوم ومحتوى ونهج وأسلوب وممارسة وأطر وشروط. لذا باعتقادي أن حرية الرقابة والنقد والمحاسبة التي كفلها الدستور لنائب مجلس الأمة، وقبله للمواطن، هي أحد الأسباب الرئيسية للأزمات السياسية في الكويت. فهي تكفل للنائب ممارسة دوره الرقابي والتشريعي، وتكفل للمواطن ممارسة دوره الناقد للأوضاع السياسية. وذلك يجعل السلطة والحكومة تضيقان من هذا الأمر، حيث تسعيان إلى تقزيمه حد الإمكان بمباركة وتعاون التيار الوصولي. بل إن مخرجات ثقافة المراقبة قد تجعل السلطة والحكومة في الضد مما جاء في الدستور من حثٍ على المساءلة والمحاسبة والنقد، وهو ما يساهم في توتير العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وإدخال البلاد في أزمات متتالية. لذا من الطبيعي أن تسير القضايا السياسية إما إلى استقالة الحكومة أو إلى حل مجلس الأمة (رغم انتصار الحكومة في جولة الاستجوابات الأخيرة، مع بقاء الأزمة السياسية على حالها)، ما يجعل صورة الوضع السياسي أمام أمرين: إما القبول بالديموقراطية بجميع شروطها المكفولة بالدستور، والمطالبة بأكثر من تلك الشروط في المستقبل، وإما استمرار الأزمات السياسية وتعطّل حركة الإصلاح والتطوّر. فالصراخ واستخدام الألفاظ غير المعتادة ليست هي سبب الأزمات، إنما السبب هو إصرار النواب على استخدام أدوات الرقابة الدستورية بكل شفافية من أجل كشف ملابسات أخطاء الحكومة وممارسة الدور النقدي والمحاسبي الواضح والشفاف.
إن من شروط تحقيق الديموقراطية في البلاد، إيجاد نوع من التوازن بين القوى في المجتمع. فالديموقراطية لا يمكن أن تكون آلية لحل الخلافات في ظل استثناء بعض القوى ومنحها حق النقض (الفيتو)، مثلما جاء في قضية استجواب سمو رئيس الوزراء والتي دافع التيار الوصولي بكل ما يملك من أدوات دستورية وغير دستورية عن ضرورة عدم سريتها. نعم، من شأن السرية أن تكون متماشية مع الدستور، لكنها تساهم في تحجيم أساس ديموقراطي هو المحاسبة والشفافية. كذلك من شروط تحقيق الديموقراطية عدم إعطاء هذه القوى حق التدخل في مختلف المسائل والشؤون للتأثير عليها. فإذا ما سيطر التوازن، توازن القوى، على المجتمع حينها يجب الاختيار بين طريقين: إما أن تدخل جميع القوى في صراع عنيف لتسيطر قوة واحدة على جميع الأمور وتعطي لنفسها امتيازات استثنائية تكون بمثابة إلغاء للأطراف الأخرى، أو أن يتم إلغاء الصراع العنيف واختيار طريق التوازن من خلال الاستناد إلى آلية الديموقراطية وإلى الدستور للوصول إلى حل للنزاع. لكن التيار الوصولي يصر على وصف سيناريو استجواب سمو رئيس الوزراء على أنه ليس انتصارا للديموقراطية بل بأنه انتصار للرئيس على مستجوبيه، بمعنى أنهم حولوا الاستجواب من صورة دستورية للمحاسبة والنقد إلى واقعة يريدون مسبقا تحديد الغالب والمغلوب فيها، أي الإشارة إلى الهيبة الشخصية على حساب هيبة الدستور.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com