للشركات الكورية الجنوبية العاملة في حقول البناء والأعمال الهندسية وتطوير البنى التحتية و شبكات الطاقة والإتصالات والمواصلات سمعة عبقة في منطقة الخليج تعود إلى حقبة الطفرة النفطية الأولى في سبعينات القرن المنصرم، حينما أرست حكومات دول الخليج العربية عليها مناقصات بمئات الملايين من الدولارات ضمن خططها التنموية الأولى. فأتقنت تلك الشركات عملها بمهارة فائقة وأبدعت في ما أوكل إليها من مهام، ثم غادرت المنطقة تاركة ذكرى عطرة. هذا على الرغم مما أثارته القوى اليسارية والقومية المسكونة بنظرية المؤامرة حولها من دعايات مغرضة وقتذاك، أقلها أن حكومة كوريا الجنوبية أرسلت الآلاف من جنودها إلى الخليج في ملابس عمال وفنيين ومهندسين من أجل إحتلال منابع النفط لصالح الولايات المتحدة ودول الغرب!
من هذه المقدمة التي كان لابد منها، ننطلق لنقول أن دولة الإمارات العربية المتحدة، بإعتبارها الأولى خليجيا التي تتجه نحو إمتلاك المفاعلات النووية للأغراض السلمية، قد أحسنت صنعا حينما فضلت مؤخرا العرض الذي تقدم بها الكوريون الجنوبيون على العروض المقدمة من شركات أمريكية وفرنسية لتصميم وبناء وتشغيل أربعة مفاعلات نووية على أراضيها من أجل إنتاج الطاقة الكهربائية التي تتزايد حاجة الإمارات إليها بإضطراد ، بدليل أن ما تستهلكه حاليا وهو 15 ألف ميغاوات، قد يرتفع بعد عقد واحد من الزمن إلى 40 ألف ميغاوات (طبقا لتصريحات الصديق الأستاذ أنور قرقاش وزير الدولة للشئون الخارجية في الإمارات الشقيقة).
مما أثير على هامش الشراكة الإماراتية – الكورية التي أعلن عنها في أواخر ديسمبر 2009 بقيمة 75 بليون درهم إماراتي (أو 20.5 بليون دولار) ويفترض أن تستمر لمدة مائة عام، تساؤلات خبيثة مفادها لماذا وقع إختيار الإماراتيين على العرض الكوري؟ وكيف إستطاع الأخير منافسة العرض المقدم من فرنسا وهي الدولة التي تربطها بالإمارات علاقات سياسية وإقتصادية وعسكرية وطيدة؟ هذا على الرغم من أن كوريا فشلت في الحصول على عقود لبناء مفاعلات نووية في الصين في عام 2004 ، وفي جنوب إفريقيا في عام 2007، وفي كندا في عام 2008.
إجابتنا على تلك التساؤلات الخبيثة نلخصها فيما يلي:
أولا: إن كوريا الجنوبية لا يمكن الإستهانة بها في مجال بناء المفاعلات النووية وإدارتها وتشغيلها، كونها السادسة على مستوى العالم من حيث استخدام النووي في إنتاج الطاقة الكهربائية.
ثانيا: إن الإماراتيين عقدوا الصفقة المذكورة مع تحالف كوري تقوده الشركة الكورية للطاقة الكهربائية (كيبكو). والأخيرة لمن لم يسمع بها، مؤسسة تملكها الدولة وتعتبر الأكبر على مستوى العالم في مجال الطاقة النووية بقدرة تصل إلى 18 ألف ميغاوات، ناهيك عن أنها تقوم في الوقت الحاضر بإدارة وتشغيل عشرين محطة للطاقة النووية، وتعمل على إستكمال ثماني محطات أخرى مع التخطيط لبناء عشر محطات إضافية ينتظر إستكمالها بحلول عام 2030.
ثالثا: (وهو الأهم مما سبق كله) أن ضمن التحالف الكوري وردت أسماء شركات ومؤسسات مثل: شركة “سامسونغ”، ومجموعة “هيونداي” التجارية العملاقة، وشركة “دوسان” للصناعات الثقيلة والإنشاءات، وهذه كلها شركات كورية جنوبية ذات مصداقية عالمية وكفاءة مشهودة وتاريخ ناصع وتجارب متنوعة في ميادين مختلفة. وربما لهذه الأسباب مجتمعة، تم تفضيلها من قبل الإماراتيين الذين وضعوا نصب أعينهم بالدرجة الأولى عنصر الأمن والسلامة ومعيار الجودة والإتقان في إنشاء مفاعلاتهم النووية، وهذا شيء يحسب لدولة الإمارات ولمسئوليها.
رابعا: أن إستحسان الإمارات للعرض الكوري وتفضيلها له لم يأت من فراغ. فإضافة إلى ما سبق ذكره من ميزات، أجرى مسؤولوها على مدى عام كامل دراسات مستفيضة ومتأنية للعروض المقدمة قبل وقوع إختيارهم على العرض الأمثل والأكثر تطابقا مع سياسات الدولة الرامية إلى منع إنتشار التكنولوجيا النووية والحد من مخاطرها، أي خلافا لسياسات الحكومة الإيرانية وشعارات جوقة المثقفين والكتاب الحليفة لها في العالم العربي من الذين ما برحوا ينفون مخاطر المشاريع النووية الإيرانية على إخوتهم في الخليج ورداءة إجراءات السلامة والأمان المتخذة فيها، بل ويزعمون أن تلك المشاريع ما هي إلا قوة إضافية للعرب والمسلمين للوقوف في وجه الصلف الإسرائيلي. وهذه بطبيعة الحال مقولة خائبة قيلت من قبل (أيام بناء باكستان لقنبلتها النووية الإسلامية) وثبت زيفها وبطلانها.
خامسا: لم يعتمد الكوريون في حصولهم على الصفقة على علاقاتهم الطيبة مع دول الخليج العربية قاطبة، أو على تاريخ شركاتهم الهندسية الناصع في المنطقة، أو على تقديم عرض منافس لعروض الآخرين من حيث الكلفة المالية فقط، وإنما قاموا في الوقت نفسه بجهود دبلوماسية قادها رئيس حكومتهم الأسبق “هانغ سيونغ سو” ومن بعده رئيس حكومتهم الحالي “تشيونغ وا داي”، فضلا عن إتصالات قادها رئيس الجمهورية “لي ميونغ باك” الذي حرص على حضور مراسم توقيع الصفقة شخصيا في أبوظبي، على إعتبار أنها أكبر صفقة تحصل عليها بلاده في تاريخها (وهي في الوقت ذاته أكبر صفقة منفردة توقع في منطقة الشرق الأوسط).
سادسا: إن الكوريين أدركوا منذ البداية أنهم قد لا يفوزون بالصفقة بسبب عدم وجود خبرة سابقة لديهم لجهة بناء وادارة مفاعلات نووية في منطقة الشرق الأوسط، فاستخدموا ذكاءهم في خلق كونسورتيوم دولي بقيادتهم للتقدم للمشروع الإماراتي. وهكذا وضعت شركاتهم الأكثر شهرة في الخليج والعالم أياديها في أيدي شركة إلكترونية أمريكية شهيرة هي “وستنغهاوس” التي تعتبر حاليا رافدا من روافد شركة “توشيبا” اليابانية، وشركة هندسية بريطانية مرموقة هي “أميك”. كما قاموا بلفت أنظار الإماراتيين إلى أنهم لم يدخلوا مشروعا إلا وأنجزوه في التاريخ المتفق عليه، فيما الشركة الفرنسية المنافسة لهم، وهي “مجموعة أريفا النووية”، تخلفت عامين عن إنجاز مشروع لها في فنلندا مما تسبب في مضاعفة كلفة المشروع. ومما لا شك فيه أن هذا إسترعى إنتباه الطرف الإماراتي وأقنعه بقدرة الكونستوريوم ليس فقط على بناء المفاعلات الأربعة في التواريخ المحددة وإدارتها بالكفاءة المطلوبة، وإنما أيضا قدرته على تقديم أفضل التصميمات وأكثر التكنولوجيات تقدما وأمانا وقابلية للتحكم.
وإذا كان ما ذكرناه آنفا لا يقنع البعض بصحة وسلامة الإختيار الإماراتي، فإننا نشير عليه بقراءة تاريخ الشركات الكورية الثلاث المندمجة في تحالف “كيبكو”. فشركة “دوسان”مثلا التي تأسست في عام 1896 كشركة لإدارة المتاجر الضخمة، هي الآن أكبر مؤسسة كورية جنوبية لجهة الحجم ( تتبعها 21 شركة رافدة داخل كوريا الجنوبية، و 112 شركة رافدة في 33 بلدا حول العالم، يعمل فيها أكثر من 35 ألف موظف) و هي سابع أكبر شركة في العالم لجهة تزويد الأسواق بمستلزمات المشاريع الإنشائية من مواد وسلع ومكائن، بل صنفت في عام 2009 في المرتبة الرابعة ضمن أفضل أربعين شركة على مستوى العالم، إنطلاقا من حقائق مثل: قدرتها على بناء إمبراطورية متنوعة من الأنشطة (إنتاج الطاقة الكهربائية، ومياه الشرب المحلاة، ومعدات البناء، ومكائن التصنيع، والمستلزمات الدفاعية والأمنية، والمنتجات الكيماوية، وبناء الجسور والسدود والطرق السريعة والمطارات) ونجاحها في الاستحواذ على شركات محلية عملاقة كالشركة الكورية للصناعات الثقيلة المتخصصة في تحلية مياه البحر وبناء محطات الطاقة، وكشركة “دايوو” للصناعات الثقيلة المتخصصة في تصميم وصناعة الآليات، ثم نجاحها منذ عام 2006 في الإستحواذ على عدد من الشركات العالمية كشركة “ميتسوي بابكوك” الهندسية البريطانية، وشركة “كفايرنير” الرومانية الكبيرة، وشركة “بوب كات” الأمريكية المعروفة بأنها من أكبر شركات العالم في تصنيع معدات البناء الصغيرة. هذا ناهيك عن نجاحها في تحقيق عائدات سنوية معتبرة من أنشطتها بدليل إرتفاع تلك العائدات من 2.3 بليون دولار في عام 2000 إلى 19.8 بليون دولار في عام 2007.
أما شركة “هيونداي” فإنها على الرغم من تاريخ تأسيسها المتأخر في عام 1947 كشركة مقاولات وإنشاءات متواضعة، فإنها إستطاعت سريعا أن تنمو وتطور نفسها لتصبح في غضون عقد من الزمن إحدى أكبر الشركات في بلادها. وهي لئن كسبت شهرتها العالمية من صناعة المركبات ومن حقيقة أنها أكبر رابع مصنع لهذه السلعة في العالم، وواحدة من بين الشركات الأربع الرئيسية في صناعة السيارات في آسيا إلى جانب تويوتا وهوندا ونيسان، فإنها عرفت أيضا من خلال وحدة الصناعات الثقيلة فيها بكونها أكبر مصنع للبواخر العملاقة على مستوى العالم. وتمارس مجموعة “هيونداي” اليوم طائفة واسعة من الأنشطة تشمل صناعة السيارات من نوعي “هيونداي” و “كيا”، وبناء البواخر، وإمتلاك وإدارة المجمعات التجارية الضخمة، وتطوير البنى التحتية، وصناعة المصاعد الكهربائية، وخدمات الشحن البحري، وأعمال الفندقة والسياحة.
وإذا ما أتينا إلى مجموعة “سامسونغ”، فنجدها الأكبر على مستوى العالم لجهة العائدات. حيث بلغت عائداتها في عام 2008 وحده حوالي 173.4 بليون دولار، متأتية من أنشطتها المختلفة في عوالم صناعة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والأمنية والدفاعية، وأعمال البناء والإنشاءات (من أبرزها بناء برجي بتروناس في كوالالمبور وفندق برج العرب في دبي) والتأمين والصيرفة والسياحة والترفيه، وصناعة الآليات الثقيلة والبتروكيماويات. هذا علما أن الشركة لم تدخل مجال الصناعات الثقيلة إلا في الستينات، وبدعم من نظام الرئيس الأسبق “بارك تشونغ هي” الذي ساعدها ماليا بالقروض وساندها معنويا بقوانين الحماية ضد المنافسة الأجنبية، الأمر الذي ساهم كثيرا في تعزيز مركزها داخليا لتنطلق بعد ذلك إلى الخارج وتستحوذ على المناقصات العالمية وتضع يدها على كبريات الشركات الأجنبية وتبنى مصانع التجميع لمنتجاتها الإلكترونية في البرتغال وبريطانيا ونيويورك وغيرها. لذا لم يكن غريبا، إزاء هذه الحالة، أن يطلق البعض على هذه الشركة الرائدة إسم “جمهورية سامسونغ”.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh