عندما قال العرب ” الحق احق ان يتبع” كانت شعوب المنطقة المتعددة الاعراق والثقافات والاعمق تاريخيا تقول “الصدق فضيلة”. لم يجرم العرب الكذب بين الناس انما فقط علي الله. فبعد ان اصبحت لغة الضاد هي المرجعية للمعرفة وللدين وللتعامل اليومي لم تعد امكانية العوده الي مرجعيات اخري إلا حكرا علي البحاث والمفكرين لاستيضاح ما غم علي العقل من فهم. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الغش التاريخي ان اصبحت منطقة الشرق الاوسط هي الافقر معرفيا بل وماديا وحضاريا ايضا. فالكذب كقيمة له مفهوم واحد عند العرب كما جاء في نصوص القرآن ونماذجه:
• وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
• وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
• قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً
• فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً
• الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
• وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
• فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
• كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ
• وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
• مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى 12 وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى 13 عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
هذه فقط عينات ضمن ما ورد 241 مرة للفظ “الكذب” في القرآن بنفس المعني والاصطلاح وهو ما يعني انكار ما ياتي به شخص او نبي او رسول او اي جهة تقدم خطابا مغايرا لخطاب الاسلام. فعدم التصديق او الايمان هو كذب في حد ذاته. رغم ان الكذب في اي لغة محكية هو ان يصدر الفرد قولا لا يتفق وحقيقة ما يجري او يختلق حدثا لم يحدث ويقوله للناس به لعله يخدعهم به. وهذا فارق جوهري بين معني واحد ضمن ما في اللغة الفصحي من معان كثيرة وبين ما يجري علي السنة الناس باريحية وطبيعة تتفق ومعني اللغة. ولان لغة القرآن كما يقول علمائه انها توقيفية وليست اصطلاحية فان الاصطلاح علي معني ولو ارتضاه الناس وليس كما يراه الاسلام يصبح امرا اشكاليا ويمثل مشكلة وعبئا علي وعي حامله ولا حل لها.
فرغم ان القرآن يقول ” فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ” فان الكذب حسب مفهوم اللغة الفصحي اصبح حلالا ومباح. فالكفر باعتراف الفصحي هو عدم تصديق الحديث الاتي من الغريب او الخارج او اي وافد. فنحن لا ندافع هنا عن الاصل في حرية الاعتقاد انما في مفهوم التكذيب حسب مفاهيم العرب التي تاسست بالاسلام. فالربط التعسفي بين خيارات التصديق من عدمه لاي خطاب وافد هو حق للبشر لكن اللغة الفصحي عبر النص المقدس لم تؤكد هذا رغم انها وفي قول واحد فقط لم يشر للكذب من بعيد او قريب قالت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبََّنُوا.
فالفاسق هنا غير معرف لماذا هو متهم بالفسوق؟ وهل الفسوق قرين اي جديد فقط ام لان حامله فاسق مسبقا؟ ولو ابتعدنا قليلا عن تضاربات اللغة وعدم أخذها مأخذ الجد في حديث العامة فان الموقف من تراث العرب وما اعتمدوه لتاسيس العروبة او الاسلمة لا يقل فوضويه وارتجالا عن اللغة. فعالم العرب قبل الاسلام يعج بفوضي الالهه وفوضي الاوثان والاصنام وتعدديتها بالعشرات التي لا يربطها رابط اللهم الا فكرة العبادة والتقديس. فقبل الاسلام مباشرة كانت الكعبة مجمعا للاصنام وصل عددها لمئات الصنم باسماء ووظائف ومهام وقدسيات متعدده. لم يسال اهل مكة كيف يمكن ادارة الكون عبر كل هذه الالهه وكيف تدار تجارتهم ومراعي ابلهم ومع ايا منهم تقف الالهة عند الانتصار او الهزيمة في غزوهم وقتلهم لبعضهم البعض.
ولا يمكن فهم كل هذه التعدديات بالفوضوية الا بفهم معني مكة كنقطة علي طريق القوافل الآتية من الجنوب حيث التوابل ومنتجات اليمن والحبشة والصومال متجهه الي الشمال حيث الشام باسواقها الممتده شرقا الي بلاد الهند والسند وغربا الي مصر. لم تكن مكة منتجة لاي سلعة تحتاجها الاسواق انما فقط نقطة ترانزيت علي طرق القوافل الطويلة. اي ان المدينة هي ايضا مجمعا لحركة التجارة والبشر والثقافات. فالتموين والراحة وحاجات رجال القوافل كان ولا بد من وجود اماكن لاشباعها حتي تستمر رحلات الشتاء والصيف. فهل غريب ان تصب ايضا في تلك البقعة الاساطير والقصص والتواريخ والاحداث لكل آت من كل فج عميق بحكايات الالهه وابطال الملاحم. فمثلما جلبت السلع والبضائع ورؤوس الاموال جلبت حركة التجارة كل الالهه والاساطير والاوثان. وبنفس الطريقة او المنهج العربي الوحيد فلم يكن ممكنا معرفة ما جري في المحيط الا عبر النص القرآني الذي احتكر كتابة التاريخ ليحكية باثر رجعي علي اصحابه في كل مكان وصل اليه الاسلام ودخل اصحابه فيه. وتبقي مشكلة المنهج الذي وجدناه في اللغة بمعياري التصديق والتكذيب الاسبقين كطريقة وحيده لفهم معني ان الناس عربا بمجرد ان اصبحوا مسلمين. فعنما وصل الاسلام كرسالة الي كل البقاع وحتي الاندلس انطبقت علي اهله فكرة الاتهام بالكذب لو انهم تساؤلوا عن صحة الاسلام وكتابه. فالمسكوت عنه هنا ان نفي الاساطير والقصص التاريخي واحداث الملاحم المحلية حيث ذهب الاسلام اليها، نفيها هذا صدق وتصديق للرسالة الوافده والا فانهم من الكاذبين. بمعني ان نفي الوجود السابق علي ورود الاسلام هو حق ينبغي اتباعه … وإلا!!!
لكن حقيقة الحركة الثقافية في اي مجتمع تنفي كلية مسالة النفي والانكار التي روجها المسلمون لصالح حكم عربي وافد. فالغاطس الحضاري للمجتمعات التي تم وصفها بانها عربية خارج جزيرة العرب ينفي مسالة الانكار والنفي والامعان في النسيان لصالح الاسلام او العروبة. فليست الشواهد المعمارية والاثرية برهان علي قولنا انما ايضا اللغة كما قدمنا في الجزء الاول من المقال. ويبقي الجزء الاهم وهو الفحص التاريخي لمكون اللاهوتي الاسلامي وبالتالي المسيحي واليهودي علي الترتيب. ففصل جزيرة العرب مستحيل بكل ما صب فيها من تجارة واديان والهه يمكن معرفة اصولها من كل مناطق الجذب السلعي او اسواق الاستهلاك في المحيط الخارجي لها. بل ان اللغة الفصحي ايضا هي كاديان مكة ليست اكثر من كوكتيل لغوي للمحيط الخارجي. ويبقي التكذيب المغلف لنفسه بقيمة الكفر هو الضابط والحارس علي زنازين المعرفة في عقل المنطقة.
فالوحي في تعريف العلماء هو الكلمة الالهية الملقاه علي انبيائه ورسله. عقيدة الوحي سبقت المسيحية واليهودية بها الاسلام. لكننا نندهش عندما نكتشف ان ( أوحي Aohy ) بذات المعني في العبرانية والارامية وايضا كلمة وحي “Wahaya ” في الحبشية. أما كلمة نبي او الرسول التي تخاطب بها القرآن فان اصولها عبرانية ( نأبي Nabi ) ووردت في حوالي 300 موضع في العهد القديم. وتقابلها كلمة ( نبيا Nabiia ) أو( نبيو Nabiio ) في السريانية. ولا غرابة ان تكون الالف والواو من الحروف القابلة للتبديل في لغاتها الاصلية في محيط جزيرة العرب ومن تم نجدها بعد ان اتهم البشر بالكذب لو انهم لم يصدقوا ما اتاهم حتي ولو كانت هي سلعهم الاصلية. فالموقع:
http://www.islamic-council.com/qurana/baqarah/3.asp
يكتب كما كتب به المصحف لفظ “الصلاة” بالواو (الصلوة) وهو بالفعل ما جاء بالمصحف مطبوعا بالرسم العثماني وموزعا في جميع انحاء العالم.
اما فكرة الاساطير عند العرب فلا نعرف لها مصدرا الا بما جاء في القرآن حيث ينفي النص ان ما ينطق به الرسول هو اساطير الاولين: وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ- الانعام 25.
فمن سمعوا عن الرسالة المحمدية ووعوا نص القرآن قالوا بانه اساطير الاولين بمعني حكي ما قاله القدماء. فكلمتي اساطير الاولين استعملتها قريش للتدليل او ذكر احاديث اهل الماضي واخبارهم وهي كانت معروفة ولو بطريقة مشوهة حسب ما اتت به القبائل او القوافل. ولنفي التهمة فإن علماء اللغة ذكروا ان الاساطير هي الاباطيل والاكاذيب القديمة. ولان القدماء لم يكونوا مسلمين فهو باطل آت من باطل. لكنهم كلغويين وعلي نفس منهج التكذيب لم يحاولوا فحص المحتوي التاريخي او الحضاري والثقافي للمحيط الخارجي لجزيرة العرب. فكلمة اساطير هي جمع لكلمة” استوريا” و ” اسطار” و”اسطورة” وهي اشتقاق من كلمة “Historia “ومنها ” History ” اليونانية الاقرب للتداخل مع لغة اهل فينيقيا. فليس مستبعدا ان تكون هناك كتب او رقائق من بلاد الروم باللاتينية او اليونانية مع رقيق الروم في مكة وبالتالي اصبحت جزءا من ثروة مكة اللغوية. وظل الانكار تكذيبا للماضي حتي ولو كانت شواهده قائمة حاضرا في الذهنية الاسلامية طبقا لما قدمنا له في اول المقال. فالتاريخ ليس اساطير وليس كذب لكن ضرورات الايمان بالاسلام تستلزم اشياء اخري.
كان ورقة ابن نوفل وهو ابن عم خديجة زوجة الرسول الاولي احد الحنفاء الذين تنصروا في الجاهلية حسب قول البخاري، كان ابن نوفل يكتب الكتاب باللغة العبرانية. وقال البلاذري انه كان يكتب الانجيل ويبدوا ان المقصود هنا السريانية لان لا علاقة للعبرانية بالانجيل. فمكه عرفت اقواما من النصاري يكتبون بالسريانية وهي ضرورة من ضرورات صكوك التجارة مع اهل الشام. فلا يستبعد ايضا بل من المؤكد ان تكون التوراه العبرانية ضمن معارفه ولغاته التي يتحدث بها. اما في المدينة حيث تم تاسيس الاسلام حكما وشريعة وموقفا من الكون فان العبرانية كانت بالضرورة سائده بالفاظها وتراكيبها التي لم يستطع احد الافلات من مفرداتها.
ويبقي سر عدم اسلام ورقة ابن نوفل وهو الحامل لكل التكذيبات التي علي المسلم تصديقها رغم انه الوحيد الذي اكد ان ما اتي رسول الاسلام من وحي “Wahaya ” هو الناموس الاكبر. فحتي كلمة ناموس هي اصلا يونانية (Nomos) ومعناها الكتاب او الشريعة وغالبا هي الفلسفة فليس عند بلاد اليونان من شئ يعتد به سواها. لكن ما الحيلة ونحن مجبرين علي التكذيب لكل شئ حتي جهلنا وتخلفنا وتصديق اننا خير امة لاننا نكذب الاخرين.
موروث العرب عن فكرة التصديق والتكذيب ظلت حاضرة في اللغة الايمانية وفي فهم الناس للعقائد. اما حديثا وبعد انتشار فكرة العروبة والدفاع عن المنطقة باسرها عبرها فان الكذب والصدق لم يعودا ضمن الرزائل والفضائل انما غذاء يومي للمنطقة تقتات عليه ثقافيا بل وسياسيا ايضا. فما جري في جنوب لبنان رغم شواهد الدمار والهزيمة علي يد حسن نصر الله وفي غزة مؤخرا علي يد حماس، فان خطابهما الاسلاميين يرفضان الواقع وشهادة الحاضر باعتبار ان ما نراه اكاذيب رغم الولولة والبكاء طالما ان اولي الامر في الضاحية الجنوبية او في غزة يقولان بانه انتصار.
elbadryk@access.com.eg
• كاتب مصري
الكذب بين التوقيف والاصطلاحعلّمونا في المدارس ومنذ صغرنا، أن سبب تراجع اللغه الفصحى لصالح اللغه العاميه سببه التراجع الحضاري للأمه، تبين لي وفقط بعد الدراسه بالغرب أن اللغه العربيه الفصحى لم يُحكى بها قط على مدى التاريخ العربي، وهي لغه مركبه /كما تفضل الأستاذ البدري/ من اللهجات السائده حولها في ذلك العصر. فالإنسان العربي الاَن يسمع الفصحى من مصادر مختلفه منذ ولادته ويدرسها منذ دخوله المدرسه، ولا زال يغلط باستعمالها، حتى المذيعين الذين يقضون حياتهم باستعمالها يغلطون لتخلفها وعدم منطقية تركيبتها، هذا إن لم نتكلم عن مشكلة تعليم أطفالنا في المغترب، حيث الكثير من مفردات العاميه تختلف بل أحياناًَ تعاكس… قراءة المزيد ..
الكذب بين التوقيف والاصطلاح
تحية طيبه للأستاذ البدري، وألف شكر على المقالات التنويرية في زمن الظلمه العربيه. ملاحظه صغيره فقط فيما يتعلق بذكر الأستاذ للغة السريانيه حيث أعتقد أنك تقصد اللغه الاَراميه التي كانت تسود المنطقة انذاك، لغة الثقافه والمعرفه منذ ما قبل المسيح، واستعملتها الدوله الإسلاميه في مراحلها الأولى. كما كان الاَشوريين والسريان يستعملونها كلغة إداره، حتى أن وجهاءهم كانوا يتكلمون بها.